خمسون عاماً مضت على كتابة صاموئيل بيكيت مسرحيته "في انتظار غورو" التي غيرت وجه المسرح وجردته من الزوائد في الحوار والشخصيات. ولا يزال موضوع المسرحية يشغل المهتمين. وما اكثر التفسيرات التي ظهرت ولا تزال حولها، وقد يأتي يوم تنشر فيه تلك المحاولات، في مجلد او مجلدات ليرى العالم فيها نفسه، من دون حدود او تحديد، في فضاء شاسع مجهول. بدأ بيكيت المسرحية في تشرين الاول اكتوبر 1948 وانهاها في كانون الثاني يناير 1949 وكان وقتها عرف الانتظار كثيراً وهو يحاول العيش من الكتابة. أراد التحرر من معاناة الرواية، فاختار اجازة في التأليف المسرحي… في الفترة التي سبقت "غودو" كان يبحث عن طريقة للتخلص من الاصطناع الأدبي الذي يفصل بين الواقع المعاش والتعبير عنه، فحاول في رواية "مورفي" 1938 اسلوب الانطلاق والحديث الى النفس لتصوير "منطقة الوجود الخالص" كما سماها، ما يدور في الجمجمة من دون وسيطة او مساعدة من العالم الخارجي. بطلها مثقف يحاول الانطلاق من سجن الجمجمة والتفكير. وفيها قطع بيكيت اشواطاً في العثور على صوته الخاص، كأنه كان يحاول التحرر من قيود الصيغة الأدبية المصطنعة. وحاول تطوير الطريقة نفسها في كتاب "واط". وظل مشغولاً قبل نشره في العام 1953. بكتابة الشعر بالفرنسية التي اعتبرها اسهل. ووجد في الوقت نفسه ان الشعور بعدم المقدرة على التحكم في المصير الذي كان يحاول اخفاءه في كتاباته الاولى يمكن ان يكون منبعاً لتجربة ادبية اصيلة. وهكذا انكب على كتابة "مالون" و"مولوي" بطريق انطلاقية تشبه "الهذيان". وعندما انهى الكتابين بدأ يبحث عن موقع آخر في الكتابة، متجهاً الى المسرح فكتب "إلوثيريا" الحرية و"غودو". الا ان المسرح لم يقبله في سهولة، فقد انتظر ثلاث سنوات قبل ان ترى "غودو" النور، وكانت صديقته سوزان دشيغو - دومنيل تطوف بالمسرحيتين على المنتجين والمخرجين. الرفض كان على اساس ان "الوثيريا" مكلّفة الانتاج لأنها تحتوي على 17 شخصية ومناظر عدة. اما "غودو" فلم يكن فيها دور نسائي، ولا تحتوي على قصة او شخصيات مهمة ينجذب نحوها المتفرج. وصلت المسرحية في جولة الرفض الى الممثل والمخرج روجيه بلن الذي وافق على عرضها، ومع ذلك تطلب منه سنتين ليحصل على التمويل لتقديمها للمرة الاولى في 5 كانون الثاني يناير 1953. وكان رد فعل الجمهور حذراً في البداية، وتضارب حولها آراء النقاد في الاسبوع الاول، ومنهم من رأى ان "الجدل سيطول حول المسرحية لفترة طويلة" وكتب المؤلف المسرحي جاك أودبري انها عمل مسرحي متكامل يستحق التشجيع، وقال الكاتب جان أنوي: "انني أرفع قبعتي - مثل تلك التي يرتديها البطلان - لهذه المسرحية". وهكذا استمر النقاش حولها في الملاحق الثقافية طوال العالم، ما شجع الفرقة على القيام بجولة في اوروبا. وما ان انهى بيكيت ترجمتها الى الانكليزية حتى تم التعاقد معه على تقديمها في لندن. وكان من المقرر ان يقوم بالدورين الرئيسيين فيها كل من أليك غنيس ورالف ريشاردسون الا ان الفرصة ضاعت منهما عندما تأخر تقديمها بسبب تدخل الرقيب الذي اعترض على مقاطع في الحوار والحركات. ووافق بيكيت على ادخال تعديلات لكنه رفض تغيير الحوار بين "فلاديمير" و"استراغون" خصوصاً في النهاية عند خلع البنطلون. ومن اجل تجاوز اعتراضات الرقيب تم تقديم "غودو" في مسرح صغير في 1955، ثم انتقلت الى مسرح اكبر من اخراج بيتر هول. وقوبلت بوجوم من الجمهور وهجوم من النقاد، واعتاد الممثلون على اصوات الناس وهم يتركون المسرح قبل نهاية الفصل الاول، واعقب ذلك تحليلات سلبية في الصحف. ومن النقاد من رأى ان "غودو" نوع من الحداثة التي تحاول ان تجعل من السطحية شيئاً مهماً بواسطة الغموض. وكتب الناقد كنيث تانيان في الاوبزيرفر ان غودو فتحت عهداً جديداً في المسرح، ونصح الناقد هارولد هوبسون قراء "صانداي تايمز" بمشاهدة المسرحية لأنها تجربة لن ينسوها مدى الحياة. وتلى ذلك دراسات مسهبة عنها في محاولة للتفسير والعثور على معنى. وهكذا ظهرت "غودو" كأنها مرآة كل انسان يرى فيها صورة وشكلاً ومدلولاً. من اجل تقديم المسرحية في اميركا التقى المخرج ألن شنايدر الكاتب في باريس في 1955 للبحث معه في العثور على طريقة مناسبة للجمهور الاميركي. الا ان اللقاء اثمر شيئاً آخر غير حل الغموض فيها واستمر تعاون الرجلين اكثر من ربع قرن حيث قدم شنايدر معظم اعمال بيكيت في اميركا. افتتحت المسرحية في ميامي عام 1956، ولم يكن حظها افضل من باريسولندن، اذ كان المتفرجون يتركون القاعة بعد الفصل الثاني. واحياناً لا يظل في المسرح غير اشخاص قليلين، من كتاب ومسرحيين جاؤوا للتعرف الى هذا العمل الجديد. وعندما انتقلت المسرحية الى نيويورك رأت بعض الصحف فيها انتقاداً للديانة المسيحية وللرأسمالية. وكتبت "هيرالد تربيون" انها عبارة عن مباراة كلامية للتنس، وقال ناقد "نيويورك تايمز" انه من الممكن ان يلعن الجمهور المسرحية لكنه لن يستطيع تجاهلها. وهكذا ازداد اقبال الناس عليها، ولم يعودوا يشاهدوها في المسرح فقط، بل يحضرون المحاضرات والندوات عنها في النوادي الثقافية والجامعات. سأل شنايدر في اللقاء الذي تم بينه وبين بيكيت في باريس عن معنى كلمة "غودو" فأجاب الكاتب: "لو كنت اعرف لذكرت ذلك في المسرحية". عرف بيكيت معنى الانتظار ليثير في الناس هذا الاهتمام وهو يقارب الخمسين. قال مرة ان احد اسباب نجاح المسرحية يعود الى محاولات تفسيرها مع انها ترفض ذلك… انها تعبر عن ظروف الانسان الذي يعيش مجهولاً عصياً على الفهم.