يبدو أن القيادة الروسية التي يتزعمها رئيس الوزراء المتشدد فلاديمير بوتين لا تريد ان تستفيد من أخطاء الماضي عندما لاقت هزائم قاسية في افغانستان والشيشان وطاجيكستان وداغستان في العقدين الماضيين على ايدي الثوار المسلمين فنجد هذه القيادة لا تزال تعيش اوهام زعامة الاتحاد السوفياتي السابق الذي كان إحدى قوتين عظميين في العالم حتى الثمانينات قبل ان يتفسخ، فتأمر القوات الروسية أخيراً باجتياح الاراضي الشيشانية مرة اخرى، غير عابئة بعشرات الآلاف من المشردين اللاجئين الى انغوشيا بعد أن تركوا ديارهم تحت وطأة الغارات الجوية وهجمات الدبابات الروسية، وغير مكترثة بالكوارث التي تنتظر روسيا وقواتها في الشيشان بعد أن تورطوا في المستنقع الشيشاني الذي خرجوا منه بأعجوبة في العام 1996 عقب خسائر بلغت 80 ألف قتيل، منهم 24 ألف روسي مما اضطر الرئيس بوريس يلتسين آنذاك أن يوقع على اتفاق مع القيادة الشيشانية التي يمثلها اصلان مسخادوف تنسحب بموجبه القوات الروسية من الشيشان، وبما يهيئ الاوضاع لاستقلال هذه الجمهورية بنهاية العام 1999. ولقد كان اجتياح القوات الروسية للشيشان امرا متوقعا بعد ان اتمت روسيا في ايلول سبتمبر الماضي حشد قواتها في شمال الشيشان قبل حلول فصل الامطار والضباب والثلوج، والتي تعوق التحركات العسكرية في هذا المناطق، ثم قامت مقاتلاتها القاذفة منذ الخامس من أيلول سبتمبر الماضي بغارات يومية باعداد تصل الى 12 مقاتلة من طراز سوخوي - 25 على قواعد ومعسكرات الثوار المسلمين، والاهداف الحيوية ذات القيمة الاستراتيجية في عمق الشيشان والتي شملت مطار العاصمة غروزني ومحطات ارسال البث التلفزيوني والاذاعي ومحطات الارسال ومستودعات ومصافي النفط والجسور و محطات القوى، وغيرها من الاهداف ذات القيمة الاستراتيجية، ما اوقع اكثر من 590 قتيلا و3000 جريح في صفوف المدنيين، ونزوح الالاف في اتجاه انغوشيا، وشكل هذا القصف الجوي تمهيدا نيرانيا ضخما للهجوم البري الروسي الذي بدأ على نطاق واسع ليل الاول من تشرين الاول اكتوبر الماضي في شمال الشيشان وتوغلت القوات الروسية الى عمق 15 كم وانتشرت علي مواجهة 80 كم في مقاطعتي شلكوفسكايا وناودرسكانا واحتلت عشرات القوى. واكب ذلك تغيير حاد في سياسة موسكو تجاه حكومة الرئيس مسخادوف التي كانت روسيا تعترف بها كحكومة شرعية للشيشان منذ وقعت معها اتفاق 23 تشرين الثاني نوفمبر 1966، اذ اعلن بوتين ان روسيا لم تعد تعترف بهذه الحكومة وبكل الهيئات التابعة لها في غروزني، معتبرا في المقابل ان الهيئة الشرعية الوحيدة في الشيشان هي البرلمان الذي كان منتخباً حتى العام 1996 قبل توقيع الاتفاق المشار اليه والموجود حالياً في المنفى برئاسة ابراهيم سليمانوف المعروف بولائه لموسكو، فالاخير صرح بعد اجتماع له مع بوتين بان اعضاء هذا البرلمان يعتزمون تشكيل حكومة في شمال الشيشان بعد ان تقيم القوات الروسية مناطق امنية هناك، توطئة للانتقال بعد ذلك الى غروزني بعد الاطاحة بنظام الرئيس مسخادوف. اهداف الهجوم الروسي الاخير: لم تخف القيادة الروسية حقيقة هدفها من الهجوم الروسي الاخير في الشيشان، اذ اعلنت انه يستهدف عزل الشيشان باقامة طوق امني حول هذه الجمهورية المشاغبة المطالبة بالاستقلال، والتي تعتبرها موسكو معقلا للثوار الانفصاليين في باقي الاقاليم الروسية التي تتمتع بقدر من الحكم الذاتي، وتطالب بالانفصال عن روسيا، وكانت وراء حركات التمرد في داغستان وعمليات التفجير التي هزت روسيا منذ آخر آب الماضي واسفرت عن مقتل 293 شخصاً، اما الصحف الروسية فقد اكدت من جهتها ان موسكو تنوي الذهاب الى ابعد من ذلك، وان الحزام الأمني لن يكون قاصراً على عمق 20 كم أو 50 كم كما تشير المعلومات الاخيرة، ولكنه سيشمل غروزني العاصمة، وان الكرملين ينوي توسيع نطاق العمليات البرية لتشمل كل الشيشان بهدف استعادة السيطرة عليه من خلال حكومة عميلة للكرملين وهو ما المح اليه بوتين عندما صرح أخيراً بأن العسكريين سيختارون مواقعهم كما يشاؤون وحيث سيرون ذلك مفيداً، كما أكد على عدم وجود حدود مع الشيشان، وان القوات الروسية ليست في حاجة الى اذن من مجلس الدوما للدخول الى هذه الجمهورية لكونها ارضاً روسية كما لم يستبعد وزير الدفاع الروسي سيرغييف احتمال استيلاء القوات الروسية على العاصمة غروزني حتى يتم عزل الشيشان عن بقية انحاء الاتحاد الروسي ويفرض بذلك حصاراً كاملاً على الانفصاليين. ومن الواضح ان روسيا استعدت جيدا لهذا الهجوم إذ أنها حشدت مبكراً ومنذ آب اغسطس الماضي في شمال القوقاز قوة عسكرية ضخمة قوامها 75 ألف رجل و600 دبابة و2200 عربة قتال مدرعة و1000 راجمة صواريخ ومدفع، ومنذ ان بدأ غزو داغستان في أوائل آب الماضي اخذ الروس ينقلون الى القوقاز من سائر انحاء البلاد قوات اضافية تقدر بنصف هذا العدد الاجمالي، تحسبا لهذه العمليات البرية التي كان ينبغي ان تبدأ وتنتهي من تحقيق اهدافها قبل حلول فصل الشتاء. لذلك سارعت القوات الروسية باحتلال منطقتي شلكوفسكايا وناودرسكانا في شمال الشيشان لاتخاذهما قاعدتي انطلاق للعمليات الهجومية البرية في اتجاه نهر بريل وهي مناطق موالية تقليديا لروسيا، وكان الجيش الروسي دخلها في العام 1995 من دون مقاومة تذكر وطبيعتها سهول يسهل من خلالها تطويق مواقع الثوار الذين يتمركزون في الجبال ويتخذون منها مواقع يشنون منها عمليات اغارة وكمائن مفاجئة تكبد القوات الروسية خسائر جسيمة في الافراد والمعدات. ومما لا شك فيه ان فكرة الحزام الأمني الذي تريد روسيا اقامته في شمال الشيشان، هي فكرة مصدرة من اسرائيل التي سبق ان اقامت حزاما امنيا في جنوبلبنان، واقنعت تركيا كذلك بان تقيم حزاما امنيا مماثلا في شمال العراق، واليوم وفي ضوء التعاون الاستخباراتي والاستراتيجي غير الخفي بين اسرائيل وروسيا، يتبنى الجيش الروسي الفكرة نفسها في الشيشان، ومن الواضح ان القيادة الروسية تفضل الاستيلاء التدريجي على الاراضي الشيشانية بدلاً من القيام بهجوم بري واسع النطاق دفعة واحدة، يتضح ذلك من تصريح نائب رئيس الاركان الروسي الجنرال مانيلوف الذي قال فيه إننا لن نتسرع في اقامة الحزام الأمني والغرض من ذلك هو التحسب بشدة لرد فعل المقاومة الشيشانية لذلك بدأت العمليات بتدمير المقاتلات الروسية لأكبر جسر في الشيشان عبر نهر الارغون وذلك حتى تعطل حركة الثوار علي الطرق الرئيسية التي تخترق القوقاز استتبع ذلك تدمير باقي الجسور بين الشيشان الصغرى الواقعة الى الشمال من نهر بتريك وسائر انحاء الجمهورية حتى يمكنها احتلال واقامة مواقع دفاعية في المناطق السهلية في شمال الشيشان، يستتبع ذلك اقامة ثلاثة خطوط دفاعية يحتل الاول بواسطة قوات الامن الداخلي التي تتولى مهام الاستطلاع والانذار ومنع التسلل بينما تحتل النطاقين الدفاعيين الثاني والثالث قوات مشاة ومدرعة ومدفعية بإمكانها التصدي لاي مجموعات تتمكن من عبور الخط الاول وتشن هجمات مضادة عند اللازم ضد المواقع التي نجح الثوار في الاستيلاء عليها من ذلك الخط. وتأمل موسكو من خلال عمليات خاصة عدة تقوم بها قوات الكوماندوز ضد المواقع المتحصن بها الثوار في الجبال اثناء الشتاء، ان تحاصرهم وتمنع المؤن عنهم، حتى تقضي عليهم بالموت البطيء او الاستسلام بعد ان تقطع عنهم كل طرق التحرك الى داخل الشيشان. هل ينجح الروس في تحقيق أهدافهم مما لا شك فيه ان القيادة الروسية تحاول في استراتيجيتها العسكرية التي تطبقها في الشيشان ان تستفيد من الدروس التي افرزتها الحروب الاقليمية الاخيرة التي خاضتها الولاياتالمتحدة والناتو في الخليج والبلقان حيث لعبت القوات الجوية دوراً محورياً في هذه الحروب، وفرت كثيرا من استخدام القوات البرية التي كان من الممكن ان تتعرض لخسائر بشرية ومادية جسيمة فيما لو تورطت، خصوصاً أن قيادة الناتو في حرب البلقان لم يكن من اهدافها احتلال اراض في كوسوفو او يوغوسلافيا، بل كسر الارادة السياسية لحكومة براغ حتى تستجيب لشروط الناتو. وتحقق ذلك فعلاً نتيجة الضربات الجوية والصاروخية المكثفة فاستسلمت براغ وتوقفت اعمال القتال. وعند ذلك فقط دخلت قوات الناتو كوسوفو وتحققت أهداف الناتو السياسية من الحرب من دون خسائر تذكر. اما الوضع في الشيشان فانه مختلف ذلك لان هدف القيادة الروسية هو ازاحة نظام مسخادوف واستبداله بنظام عميل لموسكو، فلم يكن هناك بديل عن شن عمليات برية لتحقيق ذلك بالقوة، وهنا دخلت روسيا في المحظور، ذلك ان تجربة الحزام الامني في لبنان ثبت فشلها اذ تحولت القوات الاسرائيلية والعميلة في جنوبلبنان الى مصيدة بعد ان اتخذت مواقعها هناك وتحولت إلى اهداف ثابتة ومرصودة للمقاومة اللبنانية التي تخفي مواقعها جيداً وتشن فيها هجمات مفاجئة في التوقيتات والاساليب التي تختارها فتكبد الاسرائيليين خسائر جسيمة، الذي لم يكن غريبا ان يسارع الجميع في اسرائيل بالاعلان عن رغبتهم في الخروج من المستنقع اللبناني بأسرع ما يمكن، وهذا بالضبط ما ينتظر القوات الروسية في الشيشان سواء دخلت غروزني أم لا إذ يصعب عليها ان تحدد مواقع الثوار الذين وحدوا جهودهم وقواهم تحت قيادة شامل باساييف بعد ان كلفه مسخادوف بقيادة الجبهة الشرقية وتم توحيد الاحزاب والقوى المختلفة في الشيشان تحت راية الجهاد الذي أعلنه مسخادوف عندما دعا جميع القادرين على حمل السلاح إلى الدفاع عن البلاد. لذلك من المتوقع ان يبدأ الثوار في شن هجماتهم حاليا ضد القوات الروسية بل سينتظرون فترة حتى تتمركز هذه القوات في مواقعها، ويتم رصد هذه المواقع بدقة ثم مع حلول الشتاء، في ظل ظروف جوية صعبة سيشن الثوار هجماتهم المباغتة ضد هذه القوات، ويقطعون عنها طرق امداداتها ويكبدونها خسائر بشرية ومادية جسيمة في ظهرها ستكون بالقطع خارج توقعات وحسابات موسكو، خصوصاً أن باساييف يدرك تماما عناصر الضعف في القوات الروسية التي تعاني انخفاضا في الروح المعنوية والتدريب بسبب الاحوال السيئة التي تسود الجيش الروسي. وهو ما يمكنه من شراء احتياجاته من السلاح من داخل معسكرات ومستودعات الجيش الروسي نفسه. ولقد نجح الروس بهجومهم الاخير هذا في توحيد القيادة الشيشانية مع شعبها، إذ تلاشت الخلافات الحزبية والعرقية والطائفية، وهو ما سيمكن باساييف قائد المقاومة الشيشانية، من فتح جبهات عدة اخرى ضد روسيا في مناطق مختلفة من القوقاز ذات الاغلبية المسلمة، ستشمل ابخازيا وانغوشيا وتتارستان، الى جانب داغستان فباساييف يستهدف اقامة دولة الشيشان الكبرى التي اسسها القائد الإمام شامل في القرن التاسع عشر وتضم داغستان والشيشان مع انغوشيا، بل سيذهب باساييف الى ابعد من ذلك بتوسيع نطاق الحرب لتشمل باقي فروع الاتحاد الروسي الذي يضم 16 جمهورية و5 مقاطعات و10 مناطق تتمتع جميعها بالحكم الذاتي وتسري فيها الدعوات الانفصالية بواسطة أكثر من 95 منظمة وجماعة تطالب بالانفصال، وسيبدأ ذلك بفتح جبهة بين انغوشيا واوسيتا الشمالية كذلك جمهورية قرة شابفو الشركسية التي تطالب بالانفصال، مستغلا تردي الحال الاقتصادية والاجتماعية في هذا المناطق، في وقت تزداد مؤشرات الكشف عن مخزونات ضخمة من النفط والغاز الطبيعي والفحم والحديد فيها. كما سيطبق باساييف استراتيجية العمق بالعمق بمعنى ان الاهداف الاستراتيجية والتجمعات السكانية الروسية في موسكو ومدن روسية أخرى ستكون هدفا لعمليات تفجير على نطاق واسع، ولن تكون المفاعلات النووية المنتشرة على كل الساحة بمنأى عن هذه الهجمات ومن هنا تنبع خطورة رد الفعل الشيشاني الذي يتجاوز التوقعات والحسابات الروسية. * لواء ركن متقاعد، خبير استراتيجي مصري.