تدل التطورات الأخيرة الى أن الحركة السياسية السودانية بكاملها - حكومة ومعارضة - وصلت الى قمة الأزمة، وهي الآن في نهاية النفق المسدود، ولم تعد تملك أي قدرة على البحث عن حل سوداني أصيل. فاللجوء الى الوساطة او المبادرة الخارجية - حتى لو أتت من الاشقاء والاصدقاء - هو تعبير عن عجز اصحاب الشأن عن حل مشكلتهم سواء بالقوة أو بالوسائل السلمية، لأن مبدأ الوساطة أو المصالحة او التحكيم معروف ومعمول به في النزاعات والعلاقات الدولية. ولكن على مستوى النزاعات السياسية الداخلية لا يُعمل به إلا بعد التيقن من قصور القوى المتصارعة وتماديها في الصراع لدرجة تهدد وجود الوطن نفسه. ومن الواضح أن احزابنا لم تجدد نفسها لذلك تحنطت. ولسوء حظها أيضاً شهدت العقود الاخيرة تحولات عديدة وسريعة على المستوىين المحلي والعالمي. فهي - أي الاحزاب - زمنياً على بُعد أقل من ثلاثة شهور من العام 2000، ولكنها فكرياً تظن نفسها في شباط فبراير 1953. ويمكن القول إن الوضع الحالي للسلوك السياسي يظهر الأحزاب والقوى السياسية وكأنه حدث لها تثبت fixation كما يقول علماء النفس في سن مبكرة. فهي تكبر عمراً زمنياً، بينما هي متوقفة عند سلوك كان مقبولاً في سن سابقة. فأساليب الاحزاب في العمل السياسي التي تقوم على المناورات والمقالب والمكايدة - كما يقول زعيم الاسلامويين الشيخ الترابي- كانت مقبولة في مرحلة الطفولة السياسية، ولكن الكارثة هي في الاصرار على استصحاب سلوك سياسي طفولي الى مرحلة يفترض فيها النضج والكمال. أعتقد ان المدخل الصحيح لفهم الأزمة الفكرية للاحزاب يبدأ من متابعة أسباب استمرار الانقلابات العسكرية لفترات طويلة رغم تخبط العسكريين أنفسهم، وهنا يسعفنا حديث لروجيه غارودي عن نجاح النازية في ألمانيا، إذ يقول: "لكن دهماوية هتلر وجدت آذاناً صاغية، في مواجهة احزاب سياسية بلا مشروع، تخوض معارك عقيمة للوصول الى السلطة أو للبقاء فيها، مستفيداً من تعب الشعب من هذه السياسة الملهاة ومن فساد الاحزاب". يكاد هذا الوصف ينطبق تماماً على الواقع السوداني، فالاحزاب السودانية تتميز في الغالب بكونها تنظيمية وحشدية وحركية، وبالتالي لا تملك مشروعاً فكرياً يحول الى برنامج سياسي للحكم، إذ نلاحظ أن الاحزاب السودانية منذ نشأتها الاولى في الاربعينات تربت على التفاوض والمفاوضات بالاضافة الى كيفية عقد الاجتماعات، ولم يكن غريباً ان يكون الكتاب الوحيد للسياسي الذي تزعم الحركة الوطنية واصبح أول رئيس وزراء بعد حصول حزبه على الاغلبية السيد اسماعيل الازهري، عنوانه: "الطريق الى البرلمان" حيث يشرح شروط ادارة الاجتماع الناجح، ولم يشغل نفسه بالكتابة عن التنمية أو تنوع السودان الثقافي أو اصلاح التعليم مثلاً وهو من أوائل المعلمين. كانت القضايا التي تثير اهتمام الساسة السودانيين محدودة، فلقد انشغلوا بالمفاضلة بين وحدة وادي النيل أو الاستقلال، ثم صار موضوع الدستور الاسلامي محور الاهتمام والصراع طوال الاربعة عقود الماضية. وجذبت مواضيع الاشتراكية والقومية العربية أجزاء من الانتلجنسيا السودانية، من دون ان تصبح هماً شعبيا، وكل هذه القضايا لم تطرح فكرياً ويتعمق، بل ظلت على مستوى النقاش والسجال اليومي على صفحات الجرائد وفي الليالي السياسية. وانتجت الحركة السياسية خطباء مفوّهين على حساب الكتاب والمفكرين والمنظرين، وكان هذا امتداداً للثقافة الشفاهية التي ميزت المجتمع السوداني، وتفضح المكتبة السودانية هذا التصحر الفكري بين السياسيين حين نبحث عن انتاجهم المكتوب. وهكذا غاب عن الحركة السياسية، الفكر كأداة ادراكية منهجية قادرة على تفسير الواقع موضوعياً وينعكس في الممارسة والتطبيق. وبقيت الحركة السياسية تتعامل مع الأحداث والاوضاع كمعطيات منفصلة لا رابط بينها، ولذا يبقى الفهم ناقصاً وقاصراً، وبالتأكيد لن تصل الى حلول ناجعة للمشاكل حين تظهر. وباختصار، تغيب الرؤية الشاملة التي يمكن الاستهداء بها في البحث عن تفسير وحل للأزمات مثل التي يعيشها السودان الآن. ولذلك غرقت الاطراف جميعها - معارضة وحكومة - في تفاصيل اجرائية وشكلية تدخل المسألة كلها في اللعب والمناورة والفهلوة، ومثل الذي يحدث الآن من خلافات حول تشكيل الوفود ومواعيد الانعقاد ومشاركة دول الجوار بالاضافة الى عدم الثقة المتبادلة. فكل طرف يعلم أن الطرف الآخر يناور ويخادع فالسياسة مثل الحرب خدعة - حسب نظرتهم - ولا توجد مواقف مبدئية تعتمد على رؤية واضحة وشاملة للمجتمع والدولة والعالم. اعتمدت الاحزاب السياسية السودانية - بسبب ضعفها الفكري - على مبدأ التجربة والخطأ وبالتالي أدخلت الشعب السوداني في المعمل لتجرب عليه سياسات ظهر في النهاية انها تتسم بالخطأ والفشل. ولم يسعف الحظ الاحزاب في ان تحقق - حتى بالصدفة - سياسة صحيحة، لذلك ظلت المشكلات الاساسية تراوح في مكانها دون حل، بالذات الحرب الاهلية، التخلف والفقر، خطر التقسيم. فالاحزاب السياسية تحاول ان تكون براغماتية اكثر وتتجنب ما تعتبره مجرد تنظير باعتبار الفهم السلبي للتنظير والذي تصفه دائماً بأنه ابتعاد وانصراف عن الواقع ومجرد تهويمات وتأملات خيالية. ويذهب البعض أبعد من ذلك، فهم يصفون احزاباً بعينها بأنها عقائدية ويقصد بهذا الوصف بُعدها عن الواقع وعزلتها، وبالتالي فهي غير شعبية ومرفوضة جماهيريا ما يجعلها أميل الى التفكير الانقلابي. كما أننا نسمع كثيراً عما يسمى: الفكر المستورد، إذ يرى السياسيون التقليديون أي تثاقف مع الخارج مجرد نقل لأفكار الآخر، ويغفلون التداخل والتواصل الذي يشهده العالم. وللمفارقة فإن هؤلاء الناس مستهلكون ومستوردون شرهون لكل منتجات العالم الغربي بالذات. تعطي هذه الخلفية لمحات تساعد في فهم الازمة الحالية المستحكمة وصعوبة الخروج منها لأن الاحزاب السياسية تحمل هذا العقل الذي يبتعد عن التحليل والتفكير الاستراتيجي. ولذلك نسأل: حتى لو تم الوفاق هل تمتلك هذه الاحزاب حلولاً ناجعة لمشكلات السودان؟ فالتعددية ليست غاية في حد ذاتها ولكنها وسيلة ومناخ يمكّن من التفكير والفعل بطريقة أحسن. ولكن هذه الجهود للوفاق تصطدم بسلطة سياسية لم يعد لها برنامج للحكم وسقط مشروعها الحضاري ولم تعد لديها أي ثوابت تتمسك بها. وتتميز فقط على معارضتها بأنها تمتلك اجهزة الدولة، بالذات وسائل القمع والدعاية بالاضافة الى الهيمنة على الاقتصاد. ولا نريد ان نكرر المقارنة بين ما أعلنه النظام صبيحة الانقلاب 30 حزيران يونيو 1989 وما هو حادث الآن في السودان. ولكن نتوقف عند الضعف الفكري للاسلامويين والذي اوصلهم الى الوضعية العاجزة الراهنة. استطاع الاسلامويون في السودان ان يبيعوا فكرة انهم الاكثر نفكيراً والاحسن تنظيماً بين الاحزاب السودانية خصوصا بعد فوزهم في انتخابات دوائر الخريجين العام 1986. ولكن بعد عشر سنوات من الحكم لم تنتج الحركة الاسلاموية أي فكر- ليس اعلاماً ومنشورات - تقوّم التجربة خصوصا وقد أظهر وصول الاسلامويين الى السلطة قضايا جديدة متعلقة بديمقراطية الحكم والاقتصاد والفساد والثقافة وحقوق الانسان ووضعية المرأة والاقليات والنظام العالمي الجديد. فالحركة ما زالت تقتات على كتابات الترابي التي ألفها منذ سنوات في ظروف مختلفة وتتسم بالدفاعية والتبشير، ولقد اكتفى بعد وصوله الى السلطة بالمقابلات الصحافية والتلفزيونية والخطب في اللقاءات السياسية. ومن الملاحظ ان القيادات الحاكمة للجبهة الاسلامية القومية ليست لديها إسهامات فكرية مكتوبة يمكن محاورتها ومعرفة مواقف اصحابها المبدئية من خلالها. فعلى سبيل المثال ما هي مؤلفات وكتب من يعتبر الرجل الثاني في النظام، علي عثمان محمد طه نائب رئيس الجمهورية؟، فقد اكتفى بتاريخه الحركي والتنظيمي في اتحاد طلاب الجامعة ومجالس النميري الشعبية ومنصب زعيم معارضة في الجمعية التأسيسية. وأين هي مؤلفات وكتب قادة تاريخيين مثل ياسين عمر الامام ومحمد يوسف محمد وعثمان خالد مضوي واحمد عبدالرحمن؟ كذلك أين مساهمات الحكام الجدد الفكرية مثل غازي صلاح الدين والطيب ابراهيم محمد خير، وقد تقلدا منصب وزير الثقافة. كما ان علي الحاج ومحمد الامين خليفة، رغم ارتباطهما بموضوع الجنوب، لم يكتبا حرفاً عن هذه القضية الشائكة. وهذه مجرد امثلة للضمور الفكري. من ناحية اخرى، هجر نظامَ "الانقاذ" عددٌ من الاسلاميين المهتمين بالكتابة والتفكير، وهذه ظاهرة تؤكد انه لا يبقى داخل الحركة إلا متوسطو الموهبة الفكرية واصحاب القدرة على المغالطات والمهاترة. كما ان الحركة لا تحتمل النقد الذاتي ولا الاختلاف حتى داخل الحد الادنى. لذلك ابتعد عبدالوهاب الافندي وحسن مكي والتيجاني عبدالقادر والطيب زين العابدين وابراهيم محمد زين، وصحافيون مثل محمد طه محمد وعمار محمد آدم. ورضيت الحركة الاسلامية بعد عقد من الحكم بأن يكون منظروها حسين خوجلي ومحمد الحسن الامين. ولم يصدر أي عمل فكري عميق لتقويم التجربة عدا الدراسات أو القراءات التي نشرت في كراسة تحت عنوان: "المشروع الاسلامي السوداني" عن معهد البحوث والدراسات الاجتماعية العام 1995، وفي مجلة "شؤون الاوسط" بيروت وهي حوالي 110 صفحات شارك فيها اربعة كتاب هم: الترابي وامين حسن عمر والتيجاني عبدالقادر ومحمد محجوب هارون. وهكذا نجد ان التجربة التي ادعت انها تقدم مشروعاً حضاريا ويمثل السودان نموذجه، لم تستطع حتى وصف نفسها وتحليل الايجابيات والسلبيات، وبيان ما تريد في المستقبل. أما معسكر المعارضة الذي تمثله احزاب "التجمع" فهو ليس احسن حالاً في الأداء الفكري من نظام "الجبهة". فالتجمع يعتمد قرارات مؤتمر اسمرا للقضايا المصيرية كمرتكز فكري، بينما هي مجرد برنامج سياسي يحمل شعارات لم يتم تقعيدها نظريا وبالتالي تظل القرارات مصدر خلاف كامن، مثال ذلك قضية فصل الدين عن الدولة او عن السياسة. وقد جارى التجمع "الجبهة" في المنافسة الاعلامية، رغم عدالة قضية التجمع. ولكن الجبهة اظهرت تفوقا في ميادين كان يمكن ان تكون في مصلحة "التجمع". واهمل الجانب الفكري تماما رغم ان "التجمع" قرر في احد اجتماعاته في حملة فكرية، ولكن كالعديد من القرارات بقيت الفكرة حبراً على ورق. وظل السيد الصادق المهدي هو الوحيد من بين السياسيين الحزبيين الذي يجتهد ويحاول ان يتابع ويكتب في القضايا الراهنة. وساهم بمجموعة من التكتيكات والدراسات والاوراق خلال السنوات الاخيرة. ولكن عيب السيد الصادق- رغم انه انسان يفكر ويحلل ويكتب - هو انه في كثير من الاحيان يتعامل مع الافكار الاخرى حسب مصدرها وليس حسب صحتها او منطقيتها. او كما قال العرب ينظر الى من قال وليس الى ما قيل. وفي النهاية فان تغريد السيد الصادق في التجمع لا يعني مجيء الربيع، أقصد انه مجرد صوت مغرد ولا يمثل تياراً فكريا مؤثرا في الأداء الفكري للتجمع وأحزابه. والاهم من ذلك، هل تسعف المهدية كفكرة وحركة السيد الصادق بما يلبي تطلعه الفكري بصوغ ايديولوجية تزاوج بين الاصل والعصر او بين التحديث والهوية؟ هل ستكون المهدية المعلومة هي مرجعية أم سيكون فكره المهدوي جزءاً من حركة اسلامية اصلاحية عامة تضم الاسلاميين والاسلامويين والمسلمين جميعا؟ واخيرا كيف سيتم توافق المهدية الثالثة مع برامج التجمع، بالذات مدنية الدولة وحق المواطنة؟ يعتبر الحزب الشيوعي الفصيل العقائدي الوحيد في "التجمع" حسب التقسيم السائد لدى غالبية الحزبيين والذي يصنف كمقابل فكري للاسلامويين. ولكن الحزب الشيوعي يعيش أسوأ ايامه منذ انهيار المعسكر الشرقي ونجده في قمة حيرته الفكرية بعد سقوط النموذج الذي يجسد فكرة الاشتراكية ثم الشيوعية. ويحاول الحزب الآن الرجوع الى البداية الصحيحة بأن يكون حزباً اشتراكيا ديموقراطيا. ويتساءل المرء منذ البداية، هل كان الحزب الشيوعي شيوعياً او ماركسيا اصلا؟ فالاحزاب الشيوعية في العالم الثالث والعربي عموما لم تأخذ الماركسية من منابعها الاصلية، بل اعتمدت على كشاكيل حزبية عن المراحل الخمس وديكتاتورية البروليتاريا والاسس اللينينية وغيرها. لذلك نلاحظ ان الحزب الشيوعي السوداني رغم طليعيته التنظيمية والسياسية بقي فقيراً ايضا في انتاجه الفكري والنظري لو قارناه بالحزب الشيوعي اللبناني مثلا، وقد ظل كتاب "الماركسية وقضايا الثورة السودانية" المصدر اليتيم للشيوعيين منذ الستينات وحتى ظهور كتابات محمد ابرهيم نقد في الثمانينات، مع استثناءات قليلة لعبدالخالق محجوب مثل كتاب المدارس الاشتراكية في افريقيا. وغياب الفكر الماركسي داخل الحزب الشيوعي سببه عدم تجديل الواقع السوداني أي إخضاعه الى الجدلية بتناقضها وتركيبها، وباعتبار الماركسية أصلاً نظرية نقدية تماماً ليُفهم بها الواقع ثم يفهم بها نفسه. ولذلك عجز الحزب الشيوعي عن سودنة الماركسية، وبالتالي لم يقدم تحليلاً فكرياً متميزاً للازمة الحالية ورضى بدوره في جوقة الشرف المكونة للتجمع. ليس من اهداف هذا المقال تقديم مسح للأسس الفكرية للاحزاب السودانية، ولكن قصدتُ متابعة كيف ادى الضعف الفكري الى تفاقم الازمة الحالية والدخول في الطريق المسدود؟ وبالتالي نُجمل بقية الفصائل، والتي لا تختلف في غياب الانتاج الفكري. فالحزب الاتحادي الديموقراطي لم يشغل نفسه بقضايا فكرية باعتباره حزباً وسطاً، وكأن الوسطية تعني حاصل قسمة الافكار على اثنين. فالحزب الاتحادي هو حزب ردود الفعل وليس حزب المبادأة والتأسيس. واعتقد ان الازمة الفكرية للاتحادين تاريخية تبدأ من مؤتمر الخريجين وحين تم استبعاد احمد خير وتياره ليسود منذ ذلك الحين في الحركة الوطنية التيار الحركي والتنظيمي والخطابي على التيار الفكري، ومنذ مطلع الخمسينات - توحيد الاتحاديين - وحتى اليوم لا نجد مصدراً جامعاً يحوي الافكار والمفاهيم الاساسية التي يمكن ان نقول انها تمثل الاعمدة التي يستند عليها الحزب. فالاتحاديون كما يوحي اسمهم بفكرتهم المحورية: الاتحاد مع مصر. فماذا تعني الآن هذه الفكرة وكيف تم التنظير لها بقصد تجسيدها وتحقيقها فعلياً؟ تواجه "الحركة الشعبية لتحرير السودان" معضلة ان تكون حركة قومية في تكوينها التنظيمي وفي افكارها المطروحة، خصوصاً ان المفاهيم الاشتراكية والماركسية التي طرحتها الحركة وفي بداية نشأتها تراجعت الآن، لكي تفسح المجال لأفكار جهوية واقليمية تدافع عن الجنوب و المناطق المهمشة. وساهمت الحركة في "اثنية" السياسة في السودان، وهذا ينطبق على مؤتمر البجة والحزب القومي جبال النوبة والتحالف الفيدرالي دارفور فقد اختصرت كل هذه المجموعات وبقيادة الحركة الشعبية والمشكل السوداني رغم شعار السودان الحديث، والذي لم تقم بتعريفه والتنظير له وتوضيحه فكرياً وليس سياسياً وبرامجياً فقط. وقد اعطت الاولوية للفروق الاثنية على حساب جوهر الصراع الاجتماعي - الاقتصادي. كان الامل معقوداً على قوات التحالف بأن تقوم بمهمة توحيد القوى الحديثة وفق برنامج متقدم وبوضوح فكري يستلهم تجربة برنامج مرحلة النضال الوطني الديموقراطي، ولكن قوات التحالف اختزلت نفسها في توجه غيفارى مبتسر وعوّلت على البندقية اكثر من الفكر. واخيراً قرأتُ اعلاناً عن ندوة مفتوحة للتحالف يقول: يتحدث في الندوة المقاتل عبدالعزيز والمقاتل تيسير محمد احمد علي صحيفة "الخرطوم" 8/9/199 وهكذا تُفضل قوات التحالف صفة المقاتل على المفكر او السياسي. فقوات التحالف في الاصل هي انشقاق عن القيادة الشرعية ولكن بحثت عن برنامج سياسي يميزها عن العسكريين والحزبيين معاً، أي ان تحمل في يد بندقية وفي يد اخرى برنامجاً جديداً، وتقول عن نفسها: "انها تقوم على فلسفة تحالفية وليست انحيازية" وهذه فلسفة غامضة لا تشرح شيئاً. وتظل قوات التحالف تجلس بين خيار البندقية او الفكر، وهي قد تنجح لو قامت بالتركيب الصحيح للخيارين في هذه المرحلة بالذات، أي حتى اسقاط النظام وبناء الديموقراطية المدنية، اما الآن فهي الاكثر ارتباكاً. تبقى الاحزاب القومية العروبية، فهي مواجهة بسودنة الفكر القومي العربي وهذه معادلة صعبة تفقدها قدراً من عروبيتها. ومع بروز مشكلة الهوية ووضعية المناطق المهمشة، على القوميين اعادة قراءة الواقع السوداني والفكر القومي في ضوء المتغيرات الراهنة. ويحاول البعثيون بالذات، المساهمة فكرياً في معالجة الازمة السودانية كما يظهر في كتابات عبدالعزيز حسين الصاوي ومحد علي جادين. ولكن حزب البعث يعاني من انقسامات داخلية، كما ان علاقات وارتباطاته الخارجية لا بد ان توضع في سياق جديد، لذلك فهو جزء من الازمة ايضا. نصل في النهاية الى ان الازمة السودانية شاملة وتشير الى سقوط مرحلة كاملة او موت دنيا - كما سمى كتاب المحجوب وعبدالحليم - ولا بد من الاقرار والاعتراف بأن التاريخ لا يعيد نفسه، وان نطوي هذه الصفحة التي تحتوي على نصف قرن من الاخفاقات، وان نستفيد من عبر هذه الحقبة فقط، أ ي ألا نكررها. فالمشكلة ليست في إسقاط نظام "الجبهة" ولكن في إيجاد البديل القادر على النهوض بالسودان. وليس بالضرورة أن يكون البديل تجاوز هذه الأحزاب بالذات في حال تجديد عقلها وكيانها. والآن، المشكلة ليست في تأخير أو تعجيل المبادرة بل في كيفية تطوير هذه الأحزاب في اتجاه المصلحة الوطنية، وبعد ذلك يمكن أن تصل الى حل سلمي بقصد اقتسام المسؤولية التاريخية وعبء بناء الوطن وليس اقتسام السلطة وتشكيل الحكومات القومية. فلتكن المهمة الملحة أن نعدل وضع هذه الأحزاب التي تقف على رأسها وأن يكون الرأس فوق والأقدام الى أسفل. * مدير مركز الدراسات السودانية - القاهرة.