أصدر مركز الدراسات السودانية في القاهرة دراسة قيمة ونادرة المثال عن علاقة الجيش السوداني بالسلطة وبالحزب الشيوعي. ومما يضفي على الكتاب وزناً إضافياً تخلصه من تقليد خانق لازم حركة التأليف والنشر في السودان وعرقل نموها، وهو وجود قائمة غير مكتوبة من "المحظورات" التي لا يجرؤ أحد على معالجتها أو تناولها بالتحليل. وقد توفي عشرات الرواد السودانيين من دون ان يدلوا بشهاداتهم للتاريخ والأجيال المقبلة أو يسجلوا وجهة نظر صريحة حول بعض الأحداث التي شهدوها أو شاركوا في صنعها. وأذكر انني زرت أحد أفراد أسرتي وكان، يرحمه الله، من العليمين ببواطن الأمور المشاركين في المناسبات والتحولات الكبرى، وقلت له: لمَ لا تكتب مذاكراتك؟ فقال: لو كتبت بصدق لأظهرت كثيراً من المشاهير على حقيقتهم. سيؤجج ذلك الاحقاد وسترثون أنتم عداوات لا ذنب لكم فيها. وإن لم أكتب بصدق، فما جدوى الكتابة؟ ولم يكن هذا موقفاً معزولاً أو شاذاً، بل استمسك به جيل كامل. وحتى الذين اقتنعوا بأهمية الكتابة والتوثيق فعلوا ذلك بطريقة تفادوا فيها كل ما يمكن ان يثير الحساسيات أو الحرج، وأفضل مثل لذلك كتاب "كفاح جيل" لأحمد خير وكتاب "مذكرات خضر حمد". النتيجة المحزنة، هي ان الأجيال اللاحقة ستجد سجلاً معقماً ومشذباً وستحرم من معرفة ما بين السطور. نستبشر بهذا الكتاب خيراً لأنه يدل على أن جيلنا لن يواصل هذا التقليد السوداني السلبي. والاستاذ محمد محجوب عثمان - الشقيق الأصغر لعبدالخالق محجوب، سكرتير الحزب الشيوعي - مهيأ ل "الخروج على النص" بحكم موقعه في قيادة التنظيم العسكري الشيوعي ورغبته في انصاف أصدقائه الأموات ممن لا يقدرون على الدفاع عن مواقفهم، وبسبب الشروخ الظاهرة في علاقته بالحزب. من الضروري في البداية وضع الكتاب في سياقه التاريخي. ففي 19/7/1971 حدث انقلاب عسكري شيوعي في السودان. استمر العسكريون الشيوعيون وحلفاؤهم في الحكم حتى يوم 22/7/1971 وألقوا القبض على جعفر النميري، إلا أنهم قرروا ألا يقتلوه. ثم تجمعت قوات عسكرية مناوئة للانقلاب وتصدت للانقلاب فدحرته وأعادت جعفر النميري للحكم. شن النميري حملة دموية على الشيوعيين وبطش بقياداتهم العسكرية والمدنية، راح ضحية تلك الحملة هاشم العطا، قائد الانقلاب، عبدالخالق محجوب سكرتير الحزب الشيوعي، والزعيم العمالي الشفيع أحمد الشيخ، والمحامي جوزيف قرنق الوزير وممثل الجنوب في قيادة الشيوعيين، كما راح ضحيتها بابكر النور وفاروق حمدالله رغم انهما كانا في لندن عند حدوث الانقلاب. اتجها نحو الخرطوم على متن طائرة بريطانية، أجبرت على الهبوط في ليبيا حيث اعتقلا وسُلما بسرعة وقبل أن تهدأ الخواطر للنميري الذي قتلهما. واكبت ذلك كله حملة محمومة على مؤسسات وواجهات الحزب الشيوعي وعلى المتعاطفين معه والذين يشتبه في تعاونهم معه. اهتز الحزب، كما هو متوقع، إلا أنه عقد اجتماعاً للجنة المركزية بعد أسبوعين فقط من الانقلاب الفاشل واختار محمد إبراهيم نُقُد أميناً عاماً، كما اتخذ قراراً باجراء تحقيق شامل في كل ملابسات الانقلاب. أصدر الحزب بعد ذلك أكثر من بيان وتصريح عن حركة 19 تموز يوليو 1971 غير أن نتائج التحقيق لم تُنشر لأنها لم تكتمل. وفي 1996 - أي بعد ربع قرن من الأحداث! - صدر التقرير الرسمي الشامل الكامل. بيد أنه نبه في المقدمة إلى التالي: "لإلقاء الضوء على الشق العسكري وذيوله، كانت السكرتارية قد كونت لجنتين: لجنة من العسكريين المسرحين الذين شاركوا في 19 يوليو لتقييم كل جوانب العملية العسكرية من التحضير إلى نجاح الانقلاب ثم هزيمته، ولجنة لتقصي الحقائق حول احداث بيت الضيافة مواصلة لتجمع الشواهد والشهادات التي تعمدت السلطة المايوية التعتيم عليها. ولم تفلح أي من اللجنتين في انجاز مهمتها حتى منتصف مارس 89". أي ان قيادة الحزب قررت ان تنشر، بعد انقطاع ربع قرن، تقريراً عن الانقلاب من دون ان ترصد مساهمة العسكريين الشيوعيين الذين شاركوا في الانقلاب ونجوا من الموت! وبكلمات أخرى: التقرير الرسمي الذي تأخر عاماً بعد عام بحجة استكمال الاستقصاء والتحليل ناقص. والنقص خطير، لأنه يتعلق بتفاصيل الدور الذي اضطلع به العسكريون الشيوعيون وحلفاؤهم. وهذا هو المدخل الذي يهيئ لمحمد محجوب منصة انطلاق جيدة لكتاب يقدم ما أغفله أو تفاداه التقرير الحزبي الرسمي. ورغم أن الكاتب شارك في التنظيم والتحضير للانقلاب، إلا أنه كان في برلينالشرقية عندما تحرك رفاقه ونجحوا ثم اخفقوا، وعاش بعد ذلك أربعة عشر عاماً في المنفى. وكان محمد محجوب قد شارك في محاولة الانقلاب التي قادها علي حامد عام 1959 واعتقل عند فشلها وحكم عليه بالسجن المؤبد، ثم اعيد للجيش معززاً مكرماً عند انتصار ثورة تشرين الأول اكتوبر 1964 وظل فيه حتى وقوع الانقلاب الشيوعي في 19/7/1971، أي أنه عمل مع عدة دفعات في الجيش وانشأ علاقات مع أكثر من جيل عسكري واحد، كما تحرك بنشاط خارج الجيش وخارج الوطن. وقد صعق اليسار السوداني عندما استولى المتطرفون "الإسلاميون" على السلطة يوم 30/6/1980 ثم أعلنوا اسم محمد محجوب كأحد المواطنين الذين أبدوا استعدادهم لفتح صفحة جديدة والتعاون مع النظام العسكري الذي يرأسه عمر البشير. وبعد أشهر غادر محمد محجوب عثمان السودان كعضو في وفد رسمي إلى الدول الاسكندنافية، ثم رفض العودة إلى الوطن، وأعلن أنه كان يصانع السلطة ليخرج من البلاد سالماً. إلا أن الحزب الشيوعي كان، كما يبدو، قد أصدر قراراً بإدانته وتجميد عضويته. وما نعلمه نحن كقراء لهذا الكتاب أنه لم يكتب من منطلق الولاء الحزبي، ولم يكتب لإضفاء مصداقية على وثيقة الحزب الرسمية، بل يبدو أشبه "بوجهة النظر الأخرى". وجهة نظر العسكريين الذين شاركوا في الانقلاب أو في التحضير له، ولا تزال إحدى لجان الحزب تجمع المعلومات عنهم ومنهم، ولئن رأت قيادة الحزب ان تنشر نتائج تحقيقها من دون استكمال رأي العسكريين، فهل يلوم احد اكثر العسكريين الاحياءء معرفة بالخلفيات ان هو ادلى بدلوه، انصافاً لزملائه ودفاعاً عن مقاصدهم؟ يجاهر الكاتب بأنه لا يتفق "مع بعض ما ورد في وثيقة الحزب" الرسمية، ثم يقول: "ولا بد لي هنا من ان اشير الى ان غياب معالجة احداث 19 يوليو 1971 والاجابة على اسئلتها وتوضيحها للحركة الشعبية وعضوية الحزب كل تلك السنين لا يجوز تعليله بظروف السرية او حالة المطاردة التي يعيشها الحزب". ومما يؤكد وجهة نظر الكاتب هذه ان الفرصة اتيحت للحزب لحرية الحركة والتنظيم بعد سقوط نظام النميري عام 1985 حتى انقلاب البشير عام 1989، الا ان التحقيق في احداث 19 يوليو 71 لم يستكمل كما ان المؤتمر الخامس لم يعقد عقد الرابع عام 1967، بينما بذلت جهود كبرى لتنظيم احتفال ومهرجان موسيقي شعبي بمناسبة الذكرى الاربعين لتأسيس الحزب الشيوعي 1946 - 1986 وبيع شريط الفيديو الخاص بذلك داخل وخارج السودان! يورد الكاتب امثلة على القضايا التي يختلف فيها مع ما نشرته قيادة الحزب ويركز على الادعاء بأن العسكريين الشيوعيين وحلفاءهم تصرفوا بدون تخويل ووضعوا الحزب امام الامر الواقع. ثم يشير الى وجود "توتر" في العلاقة بين التنظيم العسكري وقيادة الحزب وقد ظهر في تباطؤ القيادة في التنسيق لتهريب عبدالخالق محجوب من معتقله رغم وجود خطر حقيقي على حياته في المعتقل: "ولقد ظل يتنامى وسط قيادة التنظيم العسكري احساس بأنه على الرغم من وضع تلك المعلومات بين يدي قيادة الحزب فانها كانت تتعامل ازاءها بما لا يكفي من خطوات على المستوى العملي". ويخلص من ذلك الى وجود "فجوة شاسعة من عدم الثقة… بين التنظيم العسكري وقيادة الحزب"، في ظروف اتسم فيها خط الحزب "بالاضطراب وعدم الوضوح الفكري حول طبيعة السلطة". ويجد القارئ المدقق في وثيقة الحزب الرسمية ما يرجح صدق كلمات محمد محجوب. فالمكتب السياسي "لم يتخذ قراراً قاطعاً بقبول فكرة الانقلا ب او رفضها" عندما طرحها العسكريون الشيوعيون. بيد ان المكتب السياسي قال ايضاً: "من حيث المبدأ يمكن قبول فكرة حركة تصحيحية، لكن يجب ان يخضع تحرك الضباط الشيوعيين لتقديرات اللجنة المركزية". ثم طرح المكتب السياسي عدداً من الاسئلة تدخل الاجابة عليها في باب حسن الاستعداد للتحرك. وهنا يقول الكاتب: "السؤال هو: أليس هذا قبولاً ضمنياً لفكرة القيام بعمل عسكري؟" وهو محق في تساؤله. وتتضح صورة الموقف اكثر اذا تذكرنا حالة "السباق" السري بين عدة تيارات في الجيش للانقلاب على النميري واذا تذكرنا ان الملاحقة والابعاد كانت خطراً يتهدد نفوذ وعلاقات العسكريين الشيوعيين. فهل من العدل - في ملابسات كهذه - "ان تنفي القيادة اي دور لها في حركة 19 يوليو 71 وتلقي بالتبعية الكاملة على عاتق هاشم العطا ورفاقه بعد هزيمة الحركة العسكرية في 22 يوليو 1971؟". هذا هو لب "مرافعة" المؤلف في قضية سنسمع المزيد عنها عند صدور التقرير النهائي من قيادة الحزب الشيوعي السوداني. وبوسعنا ان نقول في هذه المرحلة ان محمد محجوب قد قدم للرأي العام وللمحللين آراء لا يمكن تجاهلها عند مناقشة التقرير الحزبي الرسمي الذي وزع على نطاق واسع. ومن الفوائد الجانبية للكتاب ايراده لمعلومات تنشر لاول مرة عن علاقات الحزب الشيوعي السوداني العسكرية. ومن ذلك العروض الجادة التي قدمت من قبل الحزب الشيوعي اللبناني والفصائل الفلسطينية المسلحة بمختلف تياراتها لتدريب الشيوعيين السودانيين عسكرياً. يأسف الكاتب لان الحزب اضاع تلك الفرص ويقول: "من المؤكد ان نقلة كبيرة كان يمكن ان تحدث لو ان الموضوع عولج بما يستلزم من الضرورة والاهمية". كما يذكر موقفاً آخر طالب فيه قائد اللواء الاول مدرعات الحزب بأن يرشح اعضاءه الطلاب للالتحاق باللواء، فلم يتمكن الحزب الا من تقديم خمسة عشر مرشحاً فقط. ومما يحمد للكاتب انه نبهنا في المقدمة الى ان كتابه "ليس عملاً اكاديمياً قائماً على المنهجية التي يتطلبها البحث العلمي"، وانه يدلي بدلوه في الحوار استجابة للدعوة التي وردت في وثيقة الحزب الرسمية، ويحصر مساهمته في المسائل التي تتصل بخبرته ومشاركته الشخصية. لو لم يفعل ذلك لتصدى له الناقدون مستفسرين عن الموضوعات الكبرى التي آثر ان يذكرها ذكراً عابراً والتي تشكل الغازاً سياسية محيرة. وعلى رأس تلك الموضوعات الاساس النظري والعملي للسير في خط صدام مع نظام النميري. فعبدالخالق محجوب المشهود له بالذكاء والمرونة، سبق له ان قبل فكرة التحالف الفضفاض او الذي يتيح الفرصة لتنظيم اوسع نطاقاً من الحزب الشيوعي الماركسي اللينيني: الحركة السودانية للتحرر الوطني/ الجبهة المعادية للاستعمار/ حزب العمال والمزارعين/ الحزب الاشتراكي - بل ان عبدالخالق محجوب رحب عام 1965 بحل الحزب الشيوعي المصري لنفسه. فما الذي جعله يعرض الحزب لانقسام يشارك فيه حوالء نصف اعضاء اللجنة المركزية، ويتجاهل نصائح الحزب السوفياتي والتشيكوسلوفاكي ويهيئ الجو للمواجهة والصدام؟ وهناك ايضاً موضوع الجنوب. لا ينكر منصف ان اليسار السوداني كان سباقاً في المناداة منذ الخمسينات بالاعتراف بالخصائص الاقليمية للجنوب. فلما وقعت اتفاقية اديس ابابا عام 1972، وكانت، على الاقل جزئياً - انتصاراً للاتجاه الذي تبناه الشيوعيون، عارضها الحزب الشيوعي بضراوة واعتبرها مجرد "حل برجوازي رجعي لمشكلة القوميات والمسألة الوطنية"!. أي أن الحزب لم يجن ثمرة من مبادراته التاريخية السليمة، بل تنكر لها وظلم نفسه قبل ان يظلمه الآخرون. والسبب كما يبدو وثيق الصلة بالعلاقة مع نظام النميري. خلاصة القول ان محمد محجوب عثمان قدم للمكتبة مساهمة قيمة. فرغم ان عنوان الكتاب يركز على الانقلاب الشيوعي الا ان المغزى ينسحب على كل الاحزاب التي اخترقت الجيش السوداني. صحيح بالطبع ان الجبهة الاسلامية القومية نجحت حيث اخفق العسكريون الشيوعيون، لكن التجربة، رغم مرور سنوات طويلة عليها، لم تنته بعد ولم يكتب الفصل الاخير فيها حتى الآن. فهل سيكون ختامها مختلفاً عن ختام التجربة الشيوعية؟ وهمسة اخيرة مع التهنئة لمركز الدراسات السودانية على نشر هذا الكتاب: هناك خلط في ترتيب الصفحات لا بد من تلافيه في الطبعات اللاحقة.