المولعون بتقسيم الأشياء ثنائية حدية أبيض وأسود، حق وباطل هم الجهلة البسطاء الذين يحاولون بذلك تبسيط الأمور حتى تكون على مستوى عقولهم، فيسهل عليهم التعامل معها. وهم بذلك يتجاوزون منطق الأشياء. لأنك إذا أردت أن تصل إلى الحقيقة فلا بد أن يكون تقسيمك مبنياً على النظر من جهات عدة وباعتبارات عدة ما يساعد في المقاربة من التوصيف الحقيقي للأمر موضع الدراسة. ذلك أن كثيراً من الأفكار والأشياء من حولنا إنما هي نتيجة تفاعل مجموعة من العناصر المؤثرة التي هي في الغالب متباينة في جذورها الأساسية وإن ظهرت للوهلة الأولى كأنها شيء واحد متناسق، لكن النظر الثاقب يظهر أنها مركبة من عناصر عدة بنسب متفاوتة. فالحكم عليها لا بد أن يأخذ في الاعتبار مقادير تلك النسب المؤثرة في الحكم إذا أردناه حكماً دقيقاً وموضوعياً. هذه النسبية في التكوين والنسبية في الحكم تقابلهما أو قل تتوسط بينهما نسبية ثالثة هي عقل الدارس والمفكر. فالإنسان في تكوينه المعرفي والفكري خاضع لمؤثرات نسبية عدة منها: 1 - مخزونه العلمي والمعرفي المكون من سعة الإطلاع والإتجاه الفكري. 2 - موروثه الثقافي من لغة واعتقاد وأعراف اجتماعية. 3 - مقدرته الذهنية على التحليل والتركيب، والتي هي مجال الإبداع والتميز في عقلية المفكر. إن إدراك هذا الحضور القوي للنسبية في مظاهرها الثلاثة، التكوين والحكم والعقل، يمكننا من تفسير الكثير من الظواهر العلمية والسياسية والكونية، ويمكننا كذلك من تفهم الخلافات القائمة وبالتالي الحد من غلواء التنازع والتنافر. وعندما نحاول تحليل إحدى هذه الظواهر، كالظاهرة العلمية مثلاً، فإننا نجد أن أكثر العلوم محكومة بالنسبية خصوصاً العلوم المسماة بالعلوم النظرية - إن صح التعبير - ويراد بها تلك العلوم التي تعتمد على النظر والتفكير من دون التجريب كالعلوم الشرعية واللغوية والفلسفية ونحوها. فإذا أخذنا العلوم الشرعية، على سبيل المثال، وحاولنا تحليلها فإننا سنجد ان هذه العلوم من تفسير ومصطلح وفقه وأصول فقه مبنية على النسبية الظن في غالب اجزائها. ولا أدل على هذه النسبية والظن فيها من الخلاف الكبير والظاهر بين علماء الشريعة في تلك العلوم. والنظرة السريعة في كتب الإجماع وكتب الخلافيات تظهر بوضوح محدودية مسائل الإجماع في مقابل مسائل الخلاف التي لا تكاد تنحصر. فإذا أضفنا إلى ذلك أن الإجماع نفسه فيه خلاف كبير من حيث إمكان وقوعه وتحديد مسائله، ومن حيث ضبط الزمن والعدد المطلوبين لإثباته، فإن الدلالة على وجود الظن وانتشاره في فروع الشريعة ستكون ظاهرة وجلية. وعندما نريد دراسة وتحليل ظاهرة الظن في الشريعة، فإننا ندرسها من خلال ثلاثة محاور رئيسية هي: إثبات وجود الظن في الشريعة ومن ثم البحث عن مصدر هذا الظن حتى نصل إلى فوائد وجود الظن في الشريعة. أولاً: وجود الظن في الشريعة. في ما تقدم دلالة واضحة على وجود الظن في الشريعة، ويزيد الأمر وضوحاً تأمل بعض النصوص الشرعية كقوله تعالى "هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات"، وكقول النبي صلى الله عليه وسلم "إذا اجتهد الحاكم فاخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران". والدليل الأكثر ظهوراً في هذا هو الحديث المتفق عليه عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: "لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة"، فأدرك بعضهم العصر في الطريق فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي، لم يرد منا ذلك. فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحداً منهم. هذا الحديث نأخذ منه أمرين مهمين جداً: 1 - أنه لو لم يكن وجود الظن مقصوداً لذاته لبيّن النبي صلى الله عليه وسلم حكم هذه المسألة خصوصاً أنه رأى كيف اختلفت أفهام الصحابة فيها، فأما إذ لم يفعل عرفنا أن ذلك الظن مقصود ومراد من الشرع الحكيم. 2 - في هذا الحديث إقرار من النبي صلى الله عليه وسلم للأصول المبكرة للمدرستين الكبيرتين في الفقه الإسلامي: مدرسة الظاهر بأقسامها والتي يمثل ابن حزم أشهر المنظرين لها والمدافعين عنها، ومدرسة المقاصد بأقسامها والتي ينتمي إليها أغلب المذاهب الفقهية. وعموماً فإن جميع النصوص الواردة في الاجتهاد تدل على وجود الظن في الشريعة، لأن الاجتهاد لا يكون إلا عند فقدان اليقين والقطع. ثانياً: مصدر الظن. عند تأمل الآية السابقة وهي قوله تعالى "هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات" نجد أن الله تعالى أضاف التشابه هنا للآيات نفسها لا للناظر فيها. ونجد أن الشريعة مقسمة قسمةً ثنائيةً واضحةً فهي بين محكمات قطعيات هن أم الكتاب أي أصوله ومراجعه الواضحة، وبين متشابهات ظنيات هن باقي الفروع. وهذه القسمة الظاهرة في الآية تبين لنا مدى خطأ من يحاول فهم الشريعة بناء على القطع في كل جزئياتها كما هو مذهب ابن حزم الأندلسي رحمه الله، وتبين كذلك موقفنا مما يسميه الشاطبي بالتشابه الإضافي الذي يقول به الإمام ابن القيم رحمه الله "ينبغي أن يعلم أنه ليس في الشريعة شيء مشكوك فيه البتة وإنما يعرض الشك للمكلف بتعارض أمارتين فصاعداً عنده فتصير المسألة مشكوكاً فيها بالنسبة إليه فهي شكية عنده... فكون المسألة شكية أو ظنية ليس وصفاً ثابتاً لها، بل هو وصف يعرض لها عند إضافتها إلى حكم المكلف..." بدائع الفوائد 3 / 271. ولا بد هنا من توضيح أن مراد الله تعالى وحكمه في كل مسألة سواء كانت صغيرة أم كبيرة واحد، فإن الحق لا يتعدد. ولكن الخلاف في دلالة النصوص على كيفية الوصول إليه، هل هي قطعية أم ظنية؟ وفي التفصيل المتقدم ما يكفي عن التكرار، قال ابن العربي رحمه الله في تفسير آية القروء "ولو شاء ربك لبيّن طريقها وأوضح تحقيقها، ولكنه وكل درك ذلك البيان إلى اجتهاد العلماء، ليظهر فضل المعرفة في الدرجات الموعود بالرفع فيها". نظرية التقريب والتغليب ص 214. ثالثاً: فوائد الظن. لا شك في أن وجود الظن في الشريعة وبهذه الكثرة يدل على أنه مقصود من الشارع الحكيم. قال الشاطبي "وقد كان من الجائز أن تتعبد الأمة بالوقوف عند حد من غير استنباط... ولكن الله منّ على العباد بالخصوصية التي خص بها نبيه عليه الصلاة والسلام إذ قال تعالى "لتحكم بين الناس بما أراك الله"، وقال في الأمة "لعلمه الذين يستنبطونه منهم". الموافقات 2 / 416. فلماذا وجد الظن إذاً؟ وما الفائدة من وجوده ؟ للموضوعية فإننا لا ندعي امتلاك الإجابة الكاملة على هذا السؤال الكبير، ولكن بإمكاننا تلمس ما يقربنا من الكمال من خلال النقاط التالية: 1 - من المقاصد العظيمة في أحكام التشريع الإسلامي مقصد رفع الحرج والتيسير على الناس "وما جعل عليكم في الدين من حرج"، "يسروا ولا تعسروا"، وغير ذلك من النصوص الكثيرة الدالة على هذا المقصد. وعلى هذا فلو أن النصوص الشرعية قطعية محدودة لا تحتمل إلا معنى واحداً لكان في ذلك من الحرج والمشقة ما لا يخفى. 2- ان مما حث عليه الإسلام ورغّب فيه تحريك العقل وإثارته وتنمية مواهبه، وهذا يستلزم وجود الظن. إذ لو كانت النصوص قطعية محددة لما احتاجت إلى أكثر من التطبيق الحرفي الذي لا دور للعقل فيه. فظهر بذلك أن من فوائد الظن "تعويد حملة الشريعة على التنقيب والبحث واستخراج المقاصد من عويصات الأدلة". التحرير والتنوير 3/158. 3- ان في هذا ابتلاء وامتحاناً يعرف بهما الحريص على معرفة الحق الساعي إليه بكل سبيل من غيره فيتمايز الناس: "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات"، وأما "الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله". 4- كون الإسلام شريعة دائمة صالحة لكل زمان ومكان اقتضى وجود كثير من التعبيرات المحتملة لمعانٍ عدة يأخذ منها المجتهدون ما يرونه أقرب للشرع باعتبار الزمان والمكان والحال. 5- ان وجود الظن في الشريعة جعل العلماء يفتقرون "إلى تعلم طرق التأويلات وترجيح بعضها على بعض، وافتقر تعلم ذلك إلى تحصيل علوم كثيرة من علم اللغة والنحو وعلم أصول الفقه. ولو لم يكن الأمر كذلك ما كان يحتاج الإنسان إلى تحصيل هذه العلوم الكثيرة" التفسير الكبير 7/149. فكان هذا الظن سبباً في إثراء الأمة بهذا التراث العلمي المتميز في جميع المجالات العلمية السابقة بفروعها المتعددة. هذه هي الخطوط العريضة التي حاولت جمعها وتقصيها للإجابة على ذلك السؤال الكبير حول فائدة وجود الظن في الشريعة، والتي قد تكون مفتاحاً - أيضاً - للإجابة على تساؤل أكبر حول وجود النسبية في الظواهر الأخرى كالظواهر الكونية والسياسية وغيرها. وختاماً فإن هذا النظر التطبيقي على ظاهرة النسبية والظن في الشريعة يمكن تطبيقه على باقي الفنون العلمية مع القليل من التغيير الذي تقتضيه طبيعة كل فن. هذا التحليل يمكننا من فهم العلاقة الطردية بين ازدياد العلم ورحابة الصدر بالخلاف عند العلماء، ذلك أن الممارس للعلم المتمكن فيه يعرف من نفسه كثرة التردد في المسائل بل وكثرة التنقل بين الأقوال بناء على ما يجد له من علوم. والباحث المجتهد قد يتمكن من جمع الظني إلى الظني حتى يصل إلى القطعي و"ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء". وأخيراً فإننا بمثل هذا التحليل نتمكن من الوصول إلى الإدراك الصحيح لمدلول العبارة الشهيرة "وكلما ازددت علماً ازددت علماً بجهلي". * كاتب سعودي.