ميل العقول السطحية إلى التمسك بظواهر نصوص الكتاب والسنة من دون تعمق في فهمها فتنةٌ كبيرة، وتُسبب عدداً من أنواع الخلل المنهجي في التفكير والتقويم والأخلاق، فضلاً عن الخطأ الجزئي في تفاريع المسائل العلمية. والمشكلة أن السطحيين في تعاملهم مع النصوص والآخذين بظواهرها من دون فقه هم الغالبية العظمى والعدد الأكبر دائماً؛ كما تقتضيه العادة البشرية في كل العلوم والتخصصات، ولازم هذه المشكلة أن أهل الفقه الحقيقي سيكونون هم أقل الناس؛ لما يستوجبه الفقه من توافر ملكات ومواهب وعلوم نادراً ما تتحقق في شداة العلم الشرعي، فضلاً عن غيرهم، فمن الطبيعي بعد ذلك أن يكون أهل الفقه الحقيقي هم أقل الناس، ومن الطبيعي أن تستحوذ الظاهرية على غالب العقول، ومن الطبيعي أن يرى أهل هذه الظاهرية في ظاهريتهم التدينَ الحقيقيَّ والتسليمَ الكامل لسطوة النصوص. لكن غير الطبيعي في هذا السياق، والذي لا يصح السكوت عليه: هو أن يتسلط هؤلاء السطحيون على دين الناس بالتصورات والأحكام السطحية المخالفة لدين الله تعالى، وأن يحجروا على الفقه الحقيقي القائم على العمق في فهم النصوص بالطريقة التي كان عليها سلف هذه الأمة وفقهاؤها المتبعون. ولو حاولنا أن نستلهم من تاريخنا الفكري والمنهجي مثالاً ينفع أن نجعله شريحة اختبار مثالية لهذا الأمر، لم نجد أنفع لذلك من فرقة الخوارج؛ لأن أهمّ خلل منهجي اتصف الخوارج به كان هو التمسك بظواهر النصوص من دون فقه وتعمق في فهمها؛ حيث نظر الخوارج إلى نصوص الوعيد التي تتوعد العصاة بالنار أو العذاب أو تنفي عنهم الإيمان فحملوها على ظاهرها السطحي من دون تفقه، فكفّروا المؤمنين بالمعاصي، وحكموا على كل مسلم وقع في ذنب بأنه مخلدٌ في النار. فمشكلة الخوارج النصية تكمن في الافتتان بظواهر النصوص من دون فقه عميق، وهي فتنة عظيمة؛ لأنها توهم أصحابها المفتتنين بتلك الظواهر بأنهم هم الأولى بالنص والأسعد حظاً بالتسليم له. وليت فتنتها تقف بهم عند حد تعاليهم بأنهم (الأولى) و(الأسعد)، بل تتجاوز ذلك، إلى أنهم يعتقدون بأنهم وحدهم من قد سلّم للنص وخضع له، ويعتقدون أن كل من سواهم متلاعب بالنص بالهوى أو الجهل، فينظرون إلى من تفقه في النص من سادة الفقهاء وأئمة العلماء، ممن يفهم النص الشرعي بناء على سياقه وجمعه مع بقية النصوص، وممن يرجع إلى علل الأحكام فينيط الحكم بعلته وجوداً وعدماً، وممن ينظر في مآخذ الأحكام، وممن يراعي مآلات الأمور والمصالح والمفاسد وينظر في مقاصد الشريعة ينظرون إلى هؤلاء الفقهاء حقاً وكأنهم متلاعبون بالنص، وأنهم محتالون على الوحي، منهزمون تحت ضغط الواقع، هذا إذا لم يجعلوهم كفاراً أو منافقين، كما فعل الخوارج مع سادة الأمة من الصحابة والعلماء. وهكذا يتبين أن الافتتان بظواهر النصوص كان هو أحد أهم أسرار الفكر الخارجي، إن صح أن يكون لهم فكر! لأن ما وصل إليه حال الخوارج يجعل فكرهم جنوناً فكرياً! فإن كان الجنون فكراً، فللخوارج فكر، لكنه فكر مجنون. فلقد وصل الأمر بالخوارج (وهم بدو جهلة)، وبسبب فتنتهم بظواهر النصوص، إلى حدّ أنهم ظنوا أنفسهم أعلم بنصوص الكتاب والسنة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم، وأنهم أقوم بالدين وأعظم تمسكاً به من سادة الصحابة، وفيهم رابع الخلفاء الراشدين علي بن أبي طالب رضي الله عنه! بل لم يكتف الخوارج في تعاليهم وغرورهم بتغليط سادات الصحابة وتجهيلهم، ولا وقفوا عند حد تفسيقهم وتمجينهم، حتى تجاوزوا التغليط والتجهيل والتفسيق والتمجين إلى التكفير، فكفّروا الصحابة والأمة كلها؛ إلا من دخل في فئتهم!! وهم بذلك قد حكموا الظواهر السطحية للنصوص فعلاً، واطّردوا مع تلك الظواهر، فقادتهم إلى هذه المصائب العقائدية والفضائح الفكرية والسلوكية والجرائم العملية باستباحة الدماء. نعم ... إلى هذا الحد يصل سحر ظواهر النصوص بغير فقه، وهو كما ترى سحر يصل بصاحبه حد الجنون!!! وإلا فأي جنون أشد من أن يظن أحدٌ في نفسه أنه أعدل من إمام الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم، حينما قال حرقوص بن زهير (مقدم الخوارج ومؤسس فكرهم) لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اعدل يا رسول الله!! وأي جنون أشد من اعتراض أولئك الأعراب الجهلة على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفقهائهم رضي الله عنهم. يقول ابن الجوزي في تلبيس إبليس (2/ 553): «وكانت الخوارج تتعبد، إلا أن اعتقادهم أنهم أعلم من علي بن أبي طالب مرضٌ صعب»، ثم قال (2/ 576) : «ولا أعجب من اقتناع هؤلاء بعلمهم واعتقادهم أنهم أعلم من عليّ عليه السلام، فقد قال ذو الخويصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اعدل، فما عدلت! وما كان إبليس ليهتدي إلى هذه المخازي، نعوذ بالله من الخذلان». فكان أحد أهم أسباب هذه المخازي والخذلان «بحسب تعبير ابن الجوزي» تمسك الخوارج بظواهر النصوص من دون فقه صحيح فيها: يراعي دلالات السياقات، والجمع بين الأدلة، وغير ذلك من صوارف اللفظ عن ظاهره. ومما استفدناه من هذا الجنون الفكري لدى الخوارج: أن للظواهر السطحية للنصوص أسراً شديداً للعقول السطحية، وأنها تتسلط على عقول السطحيين تسلطاً لا تكاد تنفك منه، حتى يصل بها الأمر إلى حد متناه من فساد التصورات والأحكام، وإلى حد متناه من الإجرام الأخلاقي والجنائي بانتهاك الأعراض وسفك الدماء. ولو تأملت حال هؤلاء السطحيين، وكيف يغفلون عن أن تسلط تلك الظواهر عليهم قد جعلهم يخالفون ظواهر أخرى في النصوص من دون أن يشعروا. وإلا فإن الظواهر التي ترد على الخوارج في نصوص الوحيين كثيرة، وهي أيضاً نصوص قطعية، وليست مجرد ظواهر محتملة للمعاني العديدة، مما كان يُوجب عليهم أن يتوقفوا عن إجراء ما أجروه من الظواهر على ظواهرها. من مثل تلك النصوص التي كان يجب أن تدعوهم للتواضع مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم، وإلى التتلمذ عليهم، وعدم تصور أنهم يمكن أن يكونوا أولى بالحق منهم، فالنصوص الداعية إلى ذلك نصوص جليلة كثيرة وأحوال قاطعة تدل على فضل الصحابة رضي الله عنهم وتقدمهم في الفقه والعلم مع الديانة والعبادة، ما كان يجب على عاقل أن يُقدّم عليها ظاهر نصٍّ لاح له بادي الرأي، فتمسك به مخالفاً كل تلك النصوص!! لكنه أسر ظواهر النصوص وسحرها، ذلك السحر الذي يجعلهم بسطحيتهم هذه كمن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض من دون أن يشعروا!! وإلا فلماذا لم يتواضعوا للصحابة رضي الله عنهم؟! ولماذا لم يتعلموا منهم؟! مع كل تلك النصوص والأحوال القاطعة بخلاف سيرتهم معهم!! ومن مظاهر فتنة الظاهرية النصية أنك تجد عند أصحابها من التشدد والحدية ومن مظاهر سطحية الخوارج وافتتانهم بظواهر النصوص بغير فقه: مظهراً آخر، هو القطع (في غير موضع القطع)، والإكثار من دعاوى اليقين الديني في غير موضعه. ما لا تجده عند المتعمقين من ذوي الفقه الصحيح، كالصحابة رضي الله عنهم. ولذلك تجد الخوارج أوسع الناس في دعوى القطع واليقين، بلا ضوابط لدعاوى هذا اليقين. وهذا نفسه هو ما يجعلهم هم أنفسهم أسرع الناس في التفرق والتشرذم، حتى في ما بين بعضهم. لأن ادعاء اليقين فيما لا يقين فيه سيجعل من أي اختلاف اختلافاً تصادمياً حاداً: بأن يصف كل واحد من المختلفين مخالفَه بأنه مبطل أو مبتدع، وربما تجاوز التشديد في الوصف أكثر من ذلك: كالتكفير. ومنشأ هذا التصادم والحدية في الموقف من المخالف هو ذلك التوسع في ادعاء اليقين، فبه سيكون المخالف (ولو بخلاف ظني معتبر سائغ) مخالفاً لقطعيات الإسلام ومعارضاً لثوابت الدين، وربما بلغت الدعوى لادعاء مخالفته للمعلوم من الدين بالضرورة! ومن عجائب تناقض هؤلاء السطحيين: أن اعتزازهم بتلك السطحية وتسميتهم لها بالوضوح ونسبتها ليسر الشريعة وسهولتها، جهلاً منهم بالمقصود باليسر والسهولة، وتسمية منهم للسطحية بالوضوح: أنه يناقض ما نقرره جميعاً من عمق علوم الشريعة، ومن كونها تخصصاً عميقاً، وليست حمى مستباحاً لكل راع حول الحمى. ولا أدري كيف يجمع هؤلاء السطحيون بين تباكيهم من تطاول غير المتخصصين بالعلوم الشرعية على العلوم الشرعية، مع سطحيتهم وظاهريتهم التي تجعل علوم الشرع أبجديات يدركها كل مثقف، حتى ولو كان بعيدا عن التخصص الشرعي! وبذلك يتبين لماذا كان الوقوع في فخ ظواهر النصوص من دون فقه عميق سطحية مهلكة للدين وللأمة، ولماذا كان أسر ظاهر النص من دون فهم كاف أسراً خطيراً على تعاليم الإسلام الربانية. ولهذا كان واجباً علينا أن ندرك خطر تلك السطحية، وخطر الاغترار بظواهر النصوص بغير فقه صحيح يجمع بين النصوص وسياقاتها وعللها ومآخذها وقواعد الشريعة ومقاصدها الكبرى. ويجب أن نحذر من هذا الافتتان، كما نحذر من أي داء فكري فتاك بالعقول؛ لأن هذا الفكر كان وما زال هو مفرخة الإرهاب والتكفير والتفرق والتشرذم، وهو بوابة التعالي والغرور المشرعة المكسورة التي تستعصي على الإصلاح، كما كان الخوارج من قبل، الذين هم سلف هؤلاء الغلاة. * عضو مجلس الشورى.