تنقسم المقاصد إلى «مقاصد عامة» و«مقاصد خاصة»، فالعامة تعني «تحقيق مصالح الخلق جميعا في الدنيا والآخرة»، ويتحقق هذا من خلال جملة أحكام الشريعة الإسلامية، أما الخاصة فهي «الأهداف التي تسعى الشريعة إلى تحقيقها في مجال خاص من مجالات الحياة كالنظام الاقتصادي أو الأسري أو السياسي وغيرها»، وذلك عن طريق الأحكام التفصيلية التي شرعت لكل مجال على حدة. وتكون «المقاصد» تارة حكما وغايات، وتارة أخرى تكون أحكاما تحقق تلك الحكم، وتارة تكون نوايا المكلفين وغايتهم كما أوضح ذلك العلامة الإسلامي المعروف الدكتور عبدالله بن بيه الذي أضاف أنها «فلسفة التشريع الإسلامي» معللا ذلك بتقديمه الإجابة لثلاثة أسئلة أساسية تواجه كل تشريع وهي: مدى استجابة التشريع للقضايا البشرية المتجددة وهو ما سماه بعض القدماء بالقضايا اللا متناهية كابن رشد؟، ومدى ملاءمة التشريع للمصالح الإنسانية وضرورات الحياة؟، والمكانة الممنوحة للاجتهاد البشري المؤطر بالوحي الإلهي. كيف يمكن استكشاف المقاصد واستشفاف الحكم والفوائد؟ ? الدعوة إلى كشف مقاصد الشريعة واستشفاف الحكم فهمها السلف فتجلت في فقه الراسخين في العلم وظهرت في قضاياهم وفتاواهم رضي الله عنهم في أمور لم يسبق فيها حكم أو أمر منه عليه الصلاة والسلام أو سبق فيها حكم أو عموم فخصصوه في الزمان، ويفتون فيما تجدد من قضايا اعتمادا على ما حفظوه من الوحيين وتارة اعتمادا على ما فهموه من دلالة المقاصد، وامتد هذا الفقه في عصر التابعين بنسب متفاوتة «فسالت أودية بقدرها» وأخذت كل مدرسة بنصيب ومع ذلك كانت الإشارة إلى مدرسة أهل المدينة بأنها مدرسة المقاصد إذ منها الفقهاء السبعة واستمر عمل أهلها على منهج ما ورثوه من تراث النبوة فوجد أوقافهم قائمة دليل على جواز الوقف. اتجاهات متعارضة المقاصد ظلت ماثلة في فقه الأئمة ومع ذلك ظهر التباين مبكرا في اجتهاد الفقهاء السبعة، اتساعا وضيقا، لصوقا بالنص وبعدا منه.. لماذا؟ ? يصف الإمام الشاطبي هذه الاتجاهات المتعارضة في موقفها من التعامل مع النص: فأولا: الاتجاه الظاهري الذي لا يهتم بالمعاني وإنما يقتصر على ظواهر النصوص وهم يحصرون مظان العلم بمقاصد الشارع في الظواهر والنصوص. والاتجاه الثاني: يرى أن مقصد الشارع ليس في الظواهر ويطرد هذا في جميع الشريعة فلا يبقى في ظاهر متمسك وهؤلاء هم الباطنة وألحق بهؤلاء من يغرق في طلب المعنى بحيث لو خالفت النصوص المعنى النظري كانت مطرحة. والثالث: أن يقال باعتبار الأمرين جميعا، على وجه لا يخل فيه المعنى بالنص، ولا بالعكس؛ لتجري الشريعة على نظام واحد لا اختلاف فيه ولا تناقض، وهو الذي أمّه أكثر العلماء الراسخين؛ فعليه الاعتماد. اتجاهات داخل المذاهب يعترف بعض العلماء وأنت واحد منهم أن تقسيم الإمام الشاطبي تقسيم دقيق، إلا أنهم يرون أنه يحتاج إلى تجلية.. كيف تفسرون ذلك؟ ? اختلفت المدارس الفقهية بين متمسك بظاهر النصوص مع دليل واحد هو الاستصحاب، وهؤلاء هم أهل الظاهر، بينما قال الشافعية مع الظاهرية بظاهرها وزادوا بالقياس مع اضطراب في مذهبهم حول الاستصلاح، وهؤلاء أقرب إلى حرفية النص، وزادت المدارس المالكية والحنبلية والحنفية على الظاهر والقياس فقالت بالاستدلال وهو لغة طلب الدليل. قال الشوكاني: «وهو في اصطلاحهم ما ليس بنص ولا إجماع ولا قياس». وفي آخر القرن الثاني بدأت تتبلور صورة المشهد المتباين والمتساكن والمتداخل والمتقابل، وإن كان أئمة المذاهب الثلاثة الحنفية والمالكية والحنبلية لم يعلنوا عن هويتهم إلا من خلال اجتهاداتهم المتناثرة في المسائل التي تجسدت فيما بعد في قواعد فإن الإمام الشافعي رحمه الله سطر أصوله التي كان لدلالات الألفاظ فيها النصيب الأوفر والحظ الأوفى ولم يكتف بذلك فقد أوضح موقفه من الآخرين وبذلك قدم لنا مواقفهم كما يراها فتحدث عن الاستحسان وعن الذرائع معلنا موقفه المبدئي الحاسم منها، وهكذا تميزت اتجاهات داخل المذاهب الأربعة التي تجمع بينها روابط نسب العلم بالأخذ المباشر بين أئمتها. ذكرتم في إحدى محاضراتكم أن «المقاصد» خرجت من عباءة هذا الجدل، وأن من المفارقات أن يكون الشافعية في طليعة مؤسسي الفكر المقاصدي من خلال مقولات إمام الحرمين الجويني وردوده اللاذعة على مذهب مالك وأبي حنيفة.. كيف تفسرون ذلك؟ ? عندما يلج النزاع ويحتدم الجدال وتلتك البراهين على حياض الاجتهاد في محاولة لضبط أوجهه خارج نصوص الكتاب والسنة والإجماع والقياس فيما سمي لاحقا بالاستدلال، كانت المقاصد الوسيلة والمعيار لهذا الضبط لأنها كلية مشككة وإن كانت قطعية بتفاريق أدلة شتى حسب عبارة الغزالي تقريبا. وقد بدأ البحث عن المقاصد انطلاقا من الرسالة ورد الفعل عليها والجدل حولها الذي اشترك فيه علماء من مختلف المذاهب أرسخهم القاضي أبو بكر الباقلاني، إلا أن الفلسفة المقاصدية كانت مع الجويني سنة 478 ه، وتلميذه أبي حامد الغزالي سنة 505 ه، وتلميذه أبي بكر ابن العربي سنة 543 ه، والعز بن عبدالسلام سنة660 ه، وتلميذه القرافي سنة 682ه، مع آخرين كالرازي وأبي الخطاب وأبي الحسين البصري وغيرهم من الأصوليين والمتكلمين. وإن تأخر رد فعل الأحناف ليكون في القرن الثالث فإنهم انخرطوا في جدل مع الشافعية وغيرهم في مختلف قضايا الخلاف التي يرجع بعضها إلى دلالات الألفاظ وبعضها إلى معقول النص أي المقاصد، إلا أن تدخل المدارس الكلامية كالأشعرية والماتريدية والمعتزلة والشيعة أثرى الفكر المقاصدي، وأوجد أسسا جديدة للحوار الدائر حول المسألة المقاصدية من خلال طرح إشكالية التحسين والتقبيح العقليين ووجوب الصلاح والأصلح أساسا لتعليل أحكام الباري جل وعلا وأفعاله ومسألة الباعث في التعليل فكان الفقيه الأصولي مدفوعا لخوض غمار علم الكلام وأحيانا السباحة في بحر الفلسفة الأرسطية دون أن يكون قد أعد لها زورقها. استنباط المقاصد وماذا يعني الاستنجاد بالمقاصد واستثمارها ? نعني بهذا أن المقاصد بعد استنباطها واستخراجها من مكامنها كيف نجني ثمرتها، وكيف تنجدنا وترفدنا وتسعفنا وتتحفنا بفوائد تشريعية، فأول استثمار لها هو ترشيح المستثمر الذي هو المجتهد ليكون مجتهدا موصوفا بهذا الوصف، لابد من اتصافه بمعرفة المقاصد، ولقد بني الشاطبي اجتهاد المجتهدين على دعامتين من المعرفة، أولاهما: معرفة اللغة العربية فيما يتعلق بدلالات الألفاظ ومقتضيات النصوص، وثانيهما معرفة مقاصد الشريعة جملة وتفصيلا إذا تعلق الاجتهاد بالمعاني من المصالح والمفاسد. ولهذا فيمكن أن نقرر وجود مقاصد كبرى قطعية ثابتة بأكثر من دليل في حكم التواتر، ومقاصد ثانوية ثبوتها كثبوت العلل، ومقاصد عامة تنتشر في كل باب من أبواب الشريعة، ومقاصد خاصة تخص بابا واحدا أو طائفة من أحكام أحد الأبواب. وبهذا يتضح توالد المقاصد وترابطها وتضامنها وتسلسلها وتراتبها في سلم العموم والخصوص، تتدرج بين العام والخاص وبين الأعم والأخص، وهناك أيضا مقاصد المقاصد ومقاصد الوسائل. وتعرض ابن عاشور لاحتياج الفقيه إلى معرفة مقاصد الشريعة فقال: إن تصرف المجتهدين بفقههم في الشريعة يقع على خمسة أنحاء. ولبيان ما دندن حوله أبو المقاصد أبو إسحاق الشاطبي والعلامة الشيخ الطاهر بن عاشور رحمهما الله تعالى نقول: إنه يستنجد بالمقاصد في أكثر من ثلاثين منحى من مسائل الأصول يمكن أن نستعير لها كلمة المحائر والأكنسة، لأنها مكامن لؤلؤ الحكم ومكانس ظباء المقاصد وجذور أرومتها وأقناس أجناسها. خلاصة القول: إن المقاصد روح الشريعة وحكمها وغاياتها ومراميها ومغازيها. ذكرتم في وقت سابق تباينا بين الباحثين حول المقاصد.. من أي جانب يكون هذا التباين؟ ? نعم.. تباينت آراء الباحثين حول المقاصد من مبالغ في اعتبارها متجاوز لحدود عمومها، حيث جعله قطعيا وجعل شمولها مطردا غافلا أو متجاهلا، وما يعتري العموم من التخصيص وما ينبري للشمول من معوقات التنصيص، فألغوا أحكام الجزئيات التي لها معان تخصها بدعوى انضوائها تحت مقصد شامل، ومن مجانب للمقاصد متعلقا بالنصوص الجزئية إلى غاية تلغي المقاصد والمعاني والحكم التي تعترض النص الجزئي وتحد من مدى تطبيقه وتشير إلى ظرفيته، فهي كالمقيد له والمخصص لمدى اعتباره إلى حد المناداة بإبطال المصالح. منظومة الشريعة ما هو في نظركم المنهج الصحيح في هذا التباين بين العلماء؟ ? المنهج الصحيح وسط بين هذا وذاك، يعطى الكلي نصيبه ويضع الجزئي في نصابه، وقد انتبه لهذه المزالق الشاطبي رحمه الله تعالى حيث حذر من تغييب الجزئي عند مراعاة الكلي، ومن الإعراض عن الكلي في التعامل مع الجزئي. وهذا نكون قد رمينا نظرية استقلال المقاصد عن أصول الفقه بالفند، وأبنا الاندماج بينهما اندماج الروح في الجسد والمعدود في العدد. والقول الفصل إن للمقاصد أصولا كبرى فوق علم الأصول وأصولا عامة مشتبكة بمباحث الأصول وأخرى أخص من ذلك إلا أنها في خدمتها مفصلة لها مبينة تارة ومكملة تارة أخرى. فمنظومة الشريعة لا يعزب عنها حكم ولا تغيب عنها حكمة وقد تفطن الأصوليون للمقاصد الكبرى وهي مقصد العبادة ومقصد الابتلاء والامتثال في مبحث التكليف. لكن بحر المقاصد لا يزال زاخرا يتجدد عطاؤه وبخاصة في القضايا المتجددة وذلك في اتجاهين: قضايا لم يقم موجبها في الزمن الماضي ولم تظهر الحاجة إليها: فقام في هذا الزمان كما أشار إليه الشاطبي في أحداث الصحابة أحكاما في قضايا لم يكن مقتضاها قائما في زمنه عليه الصلاة والسلام ولم يكن من نوازل زمانه كما يقول الشاطبي كجمع المصحف وتدوين العلم وتضمين الصناع.