5- رسالة من تاجر اندلسي في مدينة فاس - بتاريخ 1140م، او قبيل هذا التاريخ - الى ابيه في مدينة ألمرية بالاندلس، وفي ما يلي نص هذه الرسالة الطريفة والغنية بالمعلومات عن وضع اليهود بمدينة فاس آنذاك، والمكوس الاضافية المفروضة على الاغراب عن المدينة، والبضائع التي احضرها من الاندلس لبيعها في المغرب، وابتياعه كمية كبيرة من الكحل المغربي: "وصلت الى فاس يوم الجمعة. ولدى وصولنا قابَلَنا المخبرون وعرفوا بالضبط عدد الاحمال الخاصة بنا، ثم ذهبوا الى المُشرف على المكوس واخبروه. وصباح يوم الاحد، استدعاني وابراهيم وقال له: هل انت على استعداد لأن تقسم بأن جميع ما وصل معك هو ملكك، وان هذا الرجل ليست له حصة فيه؟ ثم قال لي: هل انت مستعد لأن تقسم بأنه لم يُجلب من طرفك شيء الى هذا المكان؟ وجرى بيننا حديث طويل، الا ان من الواضح انه كان يعلم ان احمال خمسة من الابل وصلت معي. وبعد متاعب جمة اتفق على ان يأخذ القائد الوالي عشرة مثاقيل، والمشرف ثلاثة مثاقيل، والمخبرون مثقالين، والخدم نصف مثقال. وقد مرضت لمدة ثلاثة ايام غيظاً وحسرة! ولو انني كنت امتلك من الشجاعة هنا ما امتلكه في ألمرية لنجوت بأقل من هذا. ولكنني واسيت نفسي بمن لا خيار له، وقلت لنفسي لعل الله يعوضنا عن الخسارة… "بالله عليك لا تسافر اذا استطعت الى الخارج. سوف اتوجه الى مدينة مراكش صحبة اول رفقة مسافرة اليها، وسأخبرك عن الوضع عند الضرورة، وعليه يمكنكم اتخاذ ما ترونه من قرار. وكل غايتي ان اجنبكم مشاق ومتاعب هذه الاسفار براً… وارغب في افادتكم بأنني نشرت النَصافي 34، واول نصفية وقعت في يدي كانت قد تلفت بعض الشيء بسبب الماء عند ثناياها، ففقدت صوابي، لكن من رحمة الله ان التلف لم يحدث الا لهذه النصفية الواحدة، وكان ذلك بسبب هطول مطر غزير في الطريق. وحتى اليوم بعت عشرة ازواج من الاردية بمبلغ اجمالي مقداره 80 ديناراً، بما في ذلك العشرة الرديئة والرداء الذي تلف بسبب الماء… اشتريت كحلاً ممتازاً درجة اولى - حوالي 20 قنطاراً، والقنطار بدينار واحد. اذا رأيت ان اشتري كمية اكبر اخبرني. "دفع لي ثمناً للاّك 24 ديناراً، ولن ابيع اذ قد احصل على 25 ديناراً. النحاس الرجيف يباع هناب تسعة دنانير للقنطار الواحد. "السقمونيا 35 تسوى 3 دنانير للرطل. تقصّ، واذا وصل سعرها في ألمرية هذا الثمن بعها، والا ارسل لي النصف واحتفظ بالنصف الباقي… "كُرهُ اليهود متفش في هذه البلاد حتى ان ألمرية بالقياس رحمة" 36. 6- رسالة حررت في مدينة فاس في اواخر شهر كانون الاول من سنة 1141م، ونظراً الى ضياع اولها والعنوان على ظهرها، فان كاتبها غير معروف، الا ان المرجح انه كاتب الرسالة السابقة بعث بها الى ابيه في ألمرية. وفضلاً عن اهمية الرسالة الاقتصادية، فانها ذات اهمية تاريخية خاصة، اذ كتبت في فاس قبل خمس سنوات فقط منس قوط المدينة في ايدي الموحدين. ان سيطرة الموحدين آنذاك على اقليم السوس بجنوب المغرب الاقصى كان لها صداها في فاس، حيث ركدت السوق وتوقفت الاعمال. ومما يسترعي الانتباه اشارة كاتب الرسالة الى عبد المؤمن بن علي بالغاصب "الخارجي" لخروجه على سلطان المرابطين. وفي ما يلي مقتطفات من الرسالة: "… ان قلبي يحترق لأنني جمعت ذهباً ولم اجد من ارسله معه، ولذلك اضطررت الى ارساله مع دافيد، وهو امر لا يسرني اطلاقاً… كما سوف ارسل معه نحاساً بقدر ما اجد… "ولعلمك، فان اللاّك بقي على سعره الاصلي فترة قصيرة. ومنذ ان احتل "الخارجي" يعني عبدالمؤمن بن علي السوس، ساد الركود… وما زال عندي خمسة اعدال، كما ان بروخ لم يتمكن من بيع الكميات التي سلّمتها له، وهذا امر يزعجني اكثر من اي شيء آخر 37. ان كل اللاّك معي في حجرتي… "سألتني عن سعر البَقَم 38. رطل ونصف رطل بمثقال واحد. "ذكرتُ في رسالة سابقة ان صائغاً يهودياً هنا ساعدني كثيراً في تحصيل الديون، وهو يرغب في الحصول على ميزان ومجموعة اوزان، وقد سلمني الثمن بالكامل. وبالاضافة الى رسالتي اليك، فقد كتبت الى الميزانيّ مباشرة. الرجاء الاهتمام بهذه الرسالة 39. "ألفت انتباهكم الى ان شحنة الشَبّ 40 التي ارسلتها لكم تشتمل على 7 اعدال من النوع الممتاز جداً كلّف القنطار منها اكثر من الثمن العادي بمقدار ربع مثقال… والصفقة كلها كانت بسعر منخفض… ان اجمالي الشب الخاص بكم 45 قنطاراً… لو كنت امتلك شجاعة لارسلت لكم 100 قنطار، لكنني لم اجرؤ لانه كان عليه طلب كبير" 41. 7- رسالة من ابراهيم بن يجو في عدن الى اخيه في المهدية او اي مكان في البلاد التونسية، مؤرخة في منتصف شهر ايلول سنة 1149م. كان صاحب هذه الرسالة قد فارق اهله في المهدية منذ سنوات، وهو يعبّر في الرسالة عن قلقه الشديد بشأن مصير اهله في افريقية بعد استيلاء النورمان على المهدية سنة 1148م. كان اهله في الواقع قد فروا الى صقلية واستقروا في مدينة مازر في حالة يائسة من التشرد والفاقة. ويبدي كاتب الرسالة استعداده لمساعدتهم مالياً بعد ان جمع ثروة طائلة من مزاولة التجارة بين الهندوعدن ومصر. وفي ما يلي فقرات من الرسالة: "… اعلمك يا اخي بأنني ابحرت من الهند ووصلت سالماً الى عدن - حرسها الله - مع اموالي واطفالي… واود اعلامك ان لديّ ما يكفي من المال لسد حاجتنا جميعاً… "انني عاتبٌ عليك يا اخي لأنك جئت الى مصر، ولم تتوجه الى عدن. بعثت لك في مصر كمية من غالية الزباد 42 تسوى 40 ديناراً، ووزنها حوالي 50 اوقية… وعلمت بعد ذلك… ان غالية الزباد وصلت الى الفسطاط، ولأنهم لم يجدوك فيها فانهم ارسلوها اليك الى صقلية مع يهودي موثوق به من الجزيرة. ارجو ان تكون قد وصلتك. "قابلت سليمان بن جبّاي فاخبرني ان الحال قد وصلت بكم الى درجة اصبحتم لا تحصلون فيها الا على رغيف واحد من الخبز في اليوم. لذلك اطلب ان تجيء اليّ بدون تأخير مهما كانت الظروف، وان اتكفّل باعالتكم… بعد مجيئك اليّ سوف نعيش اما في عدن واما في الفسطاط واما في الاسكندرية اذا تعذر علينا الذهاب الى المهدية او افريقية، اي تونس، او القيروان 43. "… سمعت عمّا حل بمدن ساحل افريقية - طرابلس الغرب وجربة وقرفة وصفاقس والمهدية وسوسة، الا انه لم تصلني اية رسالة تمكنني من معرفة من مات ومن بقي على قيد الحياة. اناشدك الله ان تكتب تفاصيل دقيقة، وان تبعث برسائلك مع اناس يعتمد عليهم كي يطمئنّ بالي…" 44. هوامش 1 عن "جنيزة القاهرة" تنظر مادة Geniza بقلم س.د. جويتين Goitein في دائرة المعارف الاسلامية، الطبعة الجديدة، باللغة الانكليزية، المجلد الثاني، ليدن - لندن 1965، ص 7 - 989. 2 عن تحريق الكتب فيها اسم الله عند المسلمين، انظر: ابن مرزوق التلمساني، محمد: المسند الصحيح الحسن في مآثر ومحاسن مولانا ابي الحسن، الجزائر 1981، ص 470 - 471. 3 Goitein, S.D., "Medieval Tunisia the Hub of the Mediteranean", in Studies in Islamic History..., Leiden 1966, p.318. 4 دائرة المعارف الاسلامية، 2/ ص988. 5 Udovitch, A.L., Journal of Economic and Social History of the Orient, vol.17 1974, p.219. 6 Goitein, A Mediterranean Society - vol.I: Economic Foundations, U. of California Press 1967, p.265. 7 نفسه، ص 271. 8 Goitein, S.D., Letters of Medieval Jewish Traders, Princeton U.P. 1973, p.325, n.5. 9 الادريسي، محمد: صفة المغرب والاندلس مأخوذة من كتاب "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق"، ليدن 1866، ص 190. 10 Goitein, A Mediterranean Society..., U. of California Press. 11 ابن جبير، محمد: رحلة ابن جبير، بيروت 1968، ص 235. 12 Goitein, A Mediterranean Society, I, pp. 70-71. 13 Goitein, "Mediterranean Trade in the Eleventh Century in Studies in the Economic History of the Middle East, London 1970, p.55. 14 يذكر ابو شامة ان الفرنج الصليبيين استولوا على مركبين للمسلمين في طريقهما من مصر الى الشام، وكان على ظهرهما امتعة تشمل "عدة من الاثواب السوسية" - ابو شامة، عبدالرحمن: كتاب الروضتين، القاهرة 1962، 1/2، ص 517. 15 Goitein, "Medieval Tunisia...", p.321. 16 Goitein, A Mediterranean Soiciety, I, p.235. 17 نفسه، 449. 18 نفسه، 330. 19 نفسه، 111 - 112. 20 نفسه، 271، 235. 21 نفسه، 636. 22 نفسه، 340. 23 نفسه، 310. 24 نفسه، 308. 25 رحلة ابن جبير، 8، 257، 282، 249. 26 Goitein,A Mediterranean Soiciety, I, p308. 27 Goitein,Letters of Medieval Jewish Traders, Princeton U.P. 1973. 28 اللاّك مادة للصباغة تؤخذ من عدة اشجار في جزر الهندالشرقيةوالهند، تعطي لوناً احمر. 29 عيد الصليب عند الاقباط 26 - 27 ايلول، ويشار اليه بالصليب او الصليبية. كما تعني الكلمة الريح الشرقية التي تهب آنذاك فتساعد المراكب المتجهة من الشرق الى الاندلس والمغرب. وفي مثل فلسطيني "ما لك صيفيات بعد الصليبيات". يقول ابن جبير، انه قصد عكا يلتمس "ركوب البحر مع تجار النصارى وفي مراكبهم المعدة لسفر الخريف، المعروف عندهم بالصليبية" - رحلة ابن جبير، 244. انظر كذلك: Medieval Jewish Traders ص245، هامش 2. 30 كانت الادوات النحاسية من صادرات المغرب والاندلس الرئيسية الى السودان الغربي، وكانت تلمسان بداية احدى الطرق الرئيسية للقوافل المتجهة عبر الصحراء الى غرب افريقيا. 31 من المستبعد ان تكون الاشارة هنا الى الدينار الحمودي - نسبة الى دولة بني حمود بالاندلس في النصف الاول من القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي كما يقول جويتين، بل الى الدينار الحمّادي نسبة الى بني حماد اصحاب القلعة ثم بجاية بشرق الجزائر. كان صاحب بجاية آنذاك يحيى بن العزيز، وهو صاحب "مركب السلطان" الوارد ذكره اعلاه. 32 الميروبالان عشب طبي شرقي كان شائع الاستعمال لاوجاع الامعاء. 33 التربد مقيّئ مشتق من نبات يزرع في جزيرة سيلان وبلدان جنوب شرقي آسيا. 34 النصفية - وتجمع على نصافي - قماش ثمين من الحرير او الكتان كان يتهاداه الناس، ويبدو انها كانت تباع مزدوجة. 35 السقمونيا - او المحمودة - مادة صمغية تؤخذ من نبتة تزرع في مناطق شمال شرقي البحر المتوسط كانت - وما تزال - تستعمل مسهلاً. 36 كان من نتائج حرب "الاسترداد" الاسبانية في شبه جزيرة ايبرية منذ منتصف القرن الحادي عشر للميلاد - ومشاركة بعض اليهود في قشتالة فيها - وتدخل المرابطين في الاندلس منذ وقعة الزلاقة سنة 479ه/ 1086م، ازدياد حدة مشاعر المسلمين تجاه اهل الذمة من مستعربين ويهود. ويذكر جويتين انه جاء في احدى رسائل الجنيزة من نفس الفترة الزمنية ان بغض اليهود في مدينة ألمرية بالاندلس قد خفّت حدته قليلاً - انظر Letters of Medieval Jewish Traders, p.55, n.16. 37 كان بروخ هذا تاجراً محلياً، ولم يرغب كاتب الرسالة في ان تحوم حوله الشبهات بأنه يريد التملص من اداء المكوس بادعائه ان بضاعته تخص تاجراً محلياً - Letters of Medieval Jewish Traders, p.266, n.14. 38 البقَم عود صباغة هندي يعطي لوناً احمر. وقد خلط بعض اللغويين بينه وبين العندم. ويذكر الكيماويون المسلمون استعمال البقم في صنع الادوية. 39 يلاحظ جويتين وحدة الاوزان في الاندلس والمغرب الاقصى، ولكنه يستغرب ان مركزاً صناعياً كبيراً كمدينة فاس لم يكن فيها ميزانيّ. فلعل موازين المرية كانت ادق واجود صناعة - Letters of Medieval Jewish Traders, p.266, n.17. 40 كان الشبّ alum يوجد بكثرة الى الجنوب من المغرب الاقصى على تخوم الصحراء. 41 كان كاتب الرسالة يخشى ان يقوم التجار الاندلسيون بارسال الشب الى المرية فيهبط بالتالي ثمنه فيها. 42 قطط الزباد civets توجد في غابات اثيوبيا. تصاد وهي صغيرة وتربى في اقفاص، ويستخرج منه الزباد مرتين او ثلاث مرات في اليوم، وهو عرقها. "يضرب القط… ليتحرك في قفصه حتى يعرق، ثم يجمع العرق تحت ابطيه وفخذيه وذنبه، وذلك ما يكون الزباد" - انظر الحسن الوزان: وصف افريقيا، الجزء الثاني، الرباط 1982، ص 267. 43 يقول جويتين ان مما يلفت الانتباه ظهور مدينة تونس التي كانت ضئيلة الاهمية في القرن الحادي عشر للميلاد، وكذلك انتعاش القيروان. ان اهمية ذكر المدينتين - في نظرنا - تكمن في كونهما من مدن افريقية القليلة التي سلمت من غزو النورمان وعيثهم، وفي كون كاتب الرسالة اختار لسكناه هو واقاربه مدينتين احتفظتا باستقلالهما عن النورمان - كان بمدينة تونس بنو خراسان، وكانت القيروان يحكمها امير عربي من بني هلال. 44 استولى النورمان - على عهد رجار الثاني - على جزيرة جربة سنة 529ه/ 1135م ثم تواصلت حملاتهم المدمرة على مدن ساحل افريقية من سنة 537ه/ 1143م، فاستولوا على مدينة برشك وجزيرة قرقنة سنة 539ه/ 1144م، وعلى طرابلس الغرب سنة 541ه/ 1147م، وعلى سوسة وصفاقس وقابس والمهدية سنة 543ه/ 1148م. * استاذ جامعي فلسطيني باكسفورد.