شهد المغرب الأقصى في النصف الثاني من القرن الثامن عشر للميلاد فترة هدوء واستقرار على عهد السلطان العلوي مولاي محمد بن عبدالله الذي تمكن في فترة حكمه الطويلة من توطيد الأمن والسلام في البلاد، ومن استرداد مزغان الجديدة من أيدي البرتغاليين. كما ابرم معاهدات ود وتجارة مع عدد من الدول الأوروبية في مقدمها اسبانيا، فهو لذلك جيدر بأن يعد من بين سلاطين المغرب الأقصى الذين عاد عهدهم بالخير على البلاد. وأبدى السلطان طوال فترة حكمه 1757- 1789م اهتماماً خاصاً بأحوال أسرى المسلمين في أيدي الاسبان، وعمل جاهداً على افتكاكهم من الأسر، وبخاصة حَفَظة القرآن الكريم والعَجَزة منهم. وقد أوفد لهذا الغرض إلى بلاط كارلوس الثالث ملك اسبانيا سفارة في شهر ذي الحجة العام 1179ه/ أيار مايو 1766م على رأسها كاتبه الفقيه والأديب أبو العباس أحمد بن المهدي الغزال الأندلسي المالقي - الفاسي الدار الأندلسي النسبة - وكلفه بتدوين ملاحظاته وانطباعاته عن كل ما يشاهده ويسمعه في رحلته إلى مدريد. فدوّن السفير الغزال أخبار رحلته وانطباعاته في كتاب عنوانه "نتيجة الاجتهاد في المهادنة والجهاد". استغرقت السفارة ثمانية شهور، ونجحت في الافراج عن بضع مئات من أسارى المسلمين من المغرب الأقصى والأقطار المجاورة، وفي إبرام معاهدة سلم بين البلدين، كما جَلَبَ السفير لدى عودته إلى المغرب مجموعة من الكتب العربية والإسلامية من مدريدوغرناطة. وللسفير أحمد بن المهدي الغزال في كتابه ملاحظات طريفة عن وضع المرأة في اسبانيا، وعن وجهة نظره من مصارعة الثيران. ويحدثنا الغزال عن آثار المسلمين الكثيرة الباقية في المدن الاسبانية التي مرّ بها، وهو كثيراً ما يقارن بين هذه المدن الأندلسية وبين مدن المغرب من حيث التخطيط والعمارة. وترد في كتابه عبارات اسبانية معربة كالفريلية بمعنى الرهبان من Fraile الاسبانية، والشليات بمعنى الكراسي من Silla الاسبانية، والشحرير بمعنى القبعة من Sombraro الاسبانية، والقراريط بمعنى العربات من Carreta الاسبانية، والباشدور أي السفير من Embajador الاسبانية، والبلاصة بمعنى الميدان من Plaza الاسبانية. كما ترد كلمة "مواكن" - التي ما زالت مستعملة في المغرب - بمعنى الساعات. إلا أن القارئ يستغرب استعمال الغزال للأسماء الاسبانية للمدن من دون اسمائها العربية الأندلسية المعروفة كالجزيرات بدلاً من الجزيرة الخضراء، ولوخة بدلاً من لوشة، وأزناليوص بدلاً من حص اللوز، وخريز بدلاً من شريش، وقالص بدلاً من قادس. وهو يستعمل التسمية "البوغاز" عند الحديث عن مضيق جبل طارق المعروف في تاريخ الأندلس باسم بحر الزقاق. وترد كلمة "القاضي" بمعنى عميد البلدية، وهو استعمال دقيق من جانب المؤلف، إذ أن عميد البلدية بالاسبانية alealde مشتق من "القاضي" حيث ان القاضي كان يحتل الصدارة مكانة ونفوذاً في مدن الاندلس عند سقوطها في أيدي الاسبان. يذكر الغزال في الفصل الأول من كتابه ان السلطان تلقى كتباً عدة من أسارى المسلمين في اسبانيا متضرعين إليه، فكتب السلطان في الحال إلى ملك اسبانيا طالباً حُسن معاملة الأسارى، وبخاصة رجال الديم والعلم منهم "مثلما نفعل نحن بأسراكم من الفرايلية الرهبان... لا نكلفهم بخدمة... فعلى ما لا تحترمون الرؤساء من الأسرى ولا تعبأون بحامل كتاب الله؟... ونُطلق أسراكم لا نحملهم ما لا يطيقون... نترك مريضهم لمرضه، ونسمع ضراعتهم وننصت لما يقولون. فتأمل في ذلك بنفسك واعمل بمقتضاه وأمر به أبناء جنسك"1. فلما وصله الكتاب بعث للسلطان من حضر لديه من أسارى المسلمين، وأمر السلطان من جانبه بسراح الأسارى الاسبان بمن فيهم "اثنان من الفريالية الرهبان كانا في قيد الأسر منذ سنين، وبعث له بعدةٍ من الأسود مواصلة"2. واستدعى الملك سفيراً من السلطان، فأجابه لما طلب، وعيّن لمواصلته عدة من الابل والعتاق من الخيل3. بدأ الغزال رحلته من مكناسة ماراً بمدينة سبتة، ثم جاز مضيق جبل طارق إلى الجزيرة الخضراء، فطريف، فشريش، فاشبيلية، فقرطبة، وانتهى إلى مدريد حيث أمضى شهرين. وفي طريق العودة عرج الغزال على طليطلة وغرناطة، وعاد بحراً إلى تطوان عن طريق قادس. وكان لظهور النساء ورقصهن مع الرجال أثر قوي لدى الغزال، فيعلق على ذلك بقوله: "ونساؤهم ملاصقات للشراجيب يسلّمن على الذاهب والآيب، ورجالهن في غاية الأدب معهن"4، ويضيف بأن "الرقص عندهم من كمال المروة، وأداء الواجب عليهم من إكرام الضيوف من ذوي الأقدار"5. ودعي السفير الغزال مرة لمشاهدة مصارعة الثيران، وهو يعلق على هذه المصارعة بقوله: "وقد استحسنّا لعبهم جبراً للخواطر، حيث سُئلنا عن ذلك، والاعتقاد خلافه، فإنه تعذيب للحيوان لا يجوز للإنسان"6. وفي قرطبة زار الغزال المسجد الجامع ولاحظ بأنه من أعظم مساجد الدنيا في الطول والعرض والعلو الفادح، وترك لنا وصفاً ضافياً عن المسجد ومحرابه ومنبره ذاكراً عدد سواريه وارتفاع صومعته مئذنته وعدد أبوابه. وحدث أن شاهد عند عتبة البهو بالمسجد لوحتين من الرخام على الأرض كُتب على كل واحدة منهما "بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم"، ومن بعده تاريخ الجامع، ومن زاد فيه على الأول من الملوك واحداً واحداً. وهو يقول: "فلما اشرفت على اللوحتين المذكورتين بادرتني العَبرة، وسقطت عليهما أمرغ عليهما شيبتي، وأزيل عنهما الغبار بلحيتي"، وأصر على وجوب رفسهما من مكانيهما، فكان ذلك7. وعند الوصول إلى مدريد، زار الغزال نحو مائتين من أسارى المسلمين - جُلهم من أهل الجزائر وبعضهم من الترك - كانوا يعملون في ترميم الطريق بين مدريد والاسكوريال، فأوصى المشرف عليهم بحسن معاملتهم، كما كلمهم، ووعدهم خيراً8. وقد استقبله الملك كارلوس الثالث بكل حفاوة، وتم الاتفاق على الافراج عن عدد من أسارى المسلمين، وعلى حسن معاملة حاملي الكتاب، وعلى رد مجموعة من الكتب الإسلامية. وقدم السفير للملك هدية السلطان من الإبل وعتاق الخيل، فقال الملك: "هذه خيل نريد ان تنسل خيلاً حرائر إن شاء الله"9. ولما غادر الغزال العاصمة الاسبانية رافقته سفارة اسبانية أبرمت في ما بعد معاهدة سلم مع السلطان، واتفاقية بشأن تبادل الأسرى. وفي طريق العودة من مدريد، زار الغزال مدينة طليطلة ولاحظ ان "أزقتها ضيقة... والمدينة في نفسها غير بعيدة عن فاس، تُشاكلها في البيوت والغرف واستدارة الطبقة العليا بالدرابيز من الخشب"10. وفي قرطاجنة الحلفاء، تمكن الغزال من تسريح اثنين وستين شيخاً انتسبوا للمغرب، لكي يتسنى لهم الافتكاك من الأسر، مع أن جلهم من الجزائر وتونس11. ولما زار الغزال مدينة غرناطة لاحظ ان "بنيانها باقٍ على حاله الاسلامي، وهي أقرب شبهاً بفاس في بنيانها وجريان الأودية بجدرانها، ثم القناطر المضروبة عليها"12. عاد الغزال إلى المغرب بعد أن تكللت سفارته بالنجاح. ويصف مثوله بين يدي السلطان بقوله: "وذهبنا في هذه الجموع بعد ان قدمنا الثلاثمئة إلا عشرة من الأسارى المسرحين على يد سيدنا الكريمة رجالاً ونساء، وجعلنا على رأس كل واحد من الأسرى كتاباً من كتب الإسلام... المتخلفة من عُمّار العُدوة المغرب من المسلمين فيما سلف، مصاحف وكتب الحديث والفقه وغير ذلك"13. وفي سنة 1182ه/ 1768م اوفد الغزال إلى مدينة الجزائر للاشراف على تبادل الأسرى الجزائريين والاسبان 1600 أسير من كل جانب، وتكللت مهمته هذه أيضاً بالنجاح. إن كتاب "نتيجة الاجتهاد في المهادنة والجهاد" الذي دوّن فيه أحمد الغزال أخبار رحلته إلى اسبانيا وانطباعاته عنها في منتصف القرن الثامن عشر يكتسب أهمية من ناحيتين: فمن الناحية التاريخية يعتبر وصفه وثيقة قيمة، إذ يورد المؤلف تفاصيل عن الغرض من سفارته إلى ملك اسبانيا كارلوس الثالث. وأما من الناحية الأدبية، فإن الكتاب يصف مراحل الرحلة ويعطي صورة عن الحياة الاجتماعية - وبخاصة بالنسبة إلى الطبقة الارستقراطية المتنفذة - في اسبانيا آنذاك، كل ذلك بأسلوب نثري مُرسل خال من السجع والتنميق اللفظي المتكلفين. وفي سنة 1185ه/ 1771م - أي بعد خمس سنوات من سفارة الغزال - هاجم سلطان المغرب مدينة مليلة التي كانت - وما تزال - خاضعة للاسبان، وحاصرها أياماً. فكتب إليه الملك كارلوس الثالث يذكّره بمعاهدة الصلح بينهما قائلاً: هذا خط كاتبك الغزال لا يزال تحت يدي. فأجابه السلطان قائلاً: "انما عقدت معك المهادنة في البحر، فأما المدن في ايالتنا فلا مهادنة فيها". فأوقف السلطان العمليات الحربية ضد مليلة، ولكنه سخط على الغزال وعزله من منصبه. أما سوء التفاهم فيرجع إلى أن الغزال كان قد كتب في صدر المعاهدة "ان المعاهدة بيننا بحراً لا براً"، إلا ان الاسبان مَحوا "لا" وجعلوا مكانها واواً، فصار النص "براًَ وبحراً". وقد حاول الغزال - عبثاً - شرح الأمر وإثبات التزوير من طرف الاسبان، فقد أنكر عليه السلطان اختزال العبارة بحيث أصبحت قابلة للتحريف والتزوير بيما كان بإمكانه أن يقول مثلا: إن المهادنة بيننا وبينكم في البحر، واما في البر فلا مهادنة12. وقام ملك اسبانيا آنذاك بفسخ معاهدة السلم التي سبق أن أعدها الغزال وأبرمها العاهلان. وعلى الأثر، أفل نجم الغزال، فاعتكف في مدينة فاس، وفقد بصره، وتوفي في فاس سنة 1191ه/ 1777م، ودفن في زاوية الشيخ عبدالقادر الفاسي. سفارة مغربية ثانية إلى اسبانيا لافتكاك الأسرى بعد سفارة أحمد الغزال بثلاث عشرة سنة، أوفد السلطان محمد بن عبدالله سنة 1093ه/ 1780م سفارة ثانية إلى ملك اسبانيا كارلوس الثالث لتفقد أحوال أسارى المسلمين والعمل على افتكاكهم من الأسر، وكان على رأس السفارة هذه المرة كاتبه محمد بن عثمان. وقد وجه السلطان إلى الملك خطابين رأينا ان نورد في ما يلي نصيهما كاملين لتمكين القارئ من التعرف على فحواهما، وكذلك لإعطاء فكرة عن الاسلوب والعبارات المستعملة آنذاك في المخاطبات الديبلوماسية. أما الخطاب الأول من السلطان إلى الملك فهذا نصه: "إلى كارلوس عظيم الاصبنيول، سلام على من اتبع الهدى. أما بعد، فإنه لا يخفانا ما أنت عليه من المحبة في جانبنا العلي بالله التي أوجبت لك عندنا التمييز على غيرك من عظماء النصرى النصارى، وقد وجهنا إليك كاتبنا السيد محمد بن عثمان ليتفقد أحوال أسارى المسلمين الذين بأيديكم، فنحبك أن توجهه إليهم حتى ينظرهم ويختبر أحوالهم. وهم وإن لم يكونوا من إيالتنا، ولا لهم تعلق بنا، فقد وجب علينا ان نتفكرهم ونبحث عنهم، لأن كلمة الإسلام جمعتنا وإياهم، فلا ينبغي ان نهملهم ولا ان نغفل عنهم. ومن أجل ذلك بعثنا إليكم كاتبنا السيد محمد بن عثمان البشادور أي السفير تجديداً لعهدكم وتأكيداً لمودتكم ومحبتكم التي ثبتت عندنا، ويبلغكم كلامنا الذي أوصيناه عليه، ويصلكم معه عشرة آلاف مثقال دينار من سكتنا صدقة على جميع الأسارى الذين في إيالتك وغيرها مثل رومة والجنوة جنوة والكرنة ليجورنو، بايطاليا ومرسيلية، يأخذ الأسارى الذين في إيالتك خمسة مثاقيل للواحد، وما فضل عنهم يفرق على الأسارى الآخرين على التساوي. وما كلفناك بهذا الأمر إلا لمحبتك لتأخذ حقك من الأجر، وبعثنا إليك ستة من النصرى النصارى مالطية تذكرة ومحبة، ولو كان عندنا أكثر منهم لبعثناهم إليك، لأننا لنا محبة في تسريح الأسارى، فالله يسرحهم على أيدينا وأيديكم، وكذلك أساراكم لا نغفل عنهم إن شاء الله، والسلام. ونحن معكم على الصلح والمهادنة. صدر الأمر به في عشرين شوال عام ثلاثة وتسعين ومئة وألف 31 تشرين الأول 1779م"15. أما الخطاب الثاني فقد بعث به السلطان عمر بن عبدالله إلى ملك اسبانيا كارلوس الثالث بعد سنة وشهرين من الخطاب الأول، وعلى اثر عودة سفيره وكاتبه محمد بن عثمان، وفي ما يلي نص الخطاب: "إلى عظيم اصبانية كارلوس الثالث، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإنه منذ ورد علينا من عندكم كاتبنا البشدور أي السفير السيد محمد بن عثمان، وهو يحدثنا بما رآه وعاينه من محبتكم الخالصة ومودتكم الصادقة في جانبنا أنت وولدك سلطان نابلس نايولي، وأثنى عليكم ثناء حسناً من وقوفكم في جميع مئاربنا وقضاء اغراضنا، كما هو معروف فيكم، فأوجب ذلك ان تكون مرتبتك عندما لا يدركها أحد من ملوك النصرى النصارى وانك عندنا مميز ومقدم على كل أحد، وكذلك رعيتك مجازاة في الأصل: مجازات لمحبتك فينا بمثلها، وأما لنجليز الانكليز فقد اخرجناهم من مرسى طنجةوتطوان، ولم يبق لهم فيها نفع، وكل ما كانوا يحملون منها من المأكولات إلى جبل طارق فقد منعناهم منه وجعلناه مقصوراً على رعيتك ومراكبك. وشروط الصلح التي جعلتم مع السيد محمد بن عثمان المذكور امضيناها وتصلكم مع كتابنا هذا ممضية، فابعثوا لنا نسخها التي بقيت عندكم بعد أن تمضيها، ونحن معكم على المهادنة والصلح التامين، والسلام. كتب في طنجة رابع المحرم الحرام فاتح سنة خمسة وتسعين ومئة والف 31 كانون الأول 1780م"16. هوامش 1 الغزال، أحمد بن الهدي: نتيجة الاجتهاد في المهادنة والجهاد، تحقيق اسماعيل العربي، بيروت 1980، ص 40. 2 نفسه 41. 3 نفسه 43. 4 نفسه 52. 5 نفسه 63. 6 نفسه 65. 7 نفسه 101. 8 نفسه 3-154. 9 نفسه 139. 10 نفسه 163. 11 نفسه 183. 12 نفسه 195. 13 نفسه 229. 14 مقدمة محقق كتاب "نتيجة الاجتهاد في المهادنة والجهاد" اسماعيل العربي، ص 13-15. 15 ماريانو اريباس بالاو Palau: مقال باللغة الاسبانية بعنوان "خطابات عربية لمولاي محمد بن عبدالله بشأن سفارة ابن عثمان سنة 1780م"، نشر بمجلة "هسبريس - تمودا" Hespژris-Tamuda، الرباط، السنة الثانية، فصلة 2-3 1961، ص 328-329. 16 المرجع السابق، 333. * استاذ جامعي فلسطيني في اكسفورد