أحدث رحيل المؤسس محمد بن تومرت الملقب بالمهدي حالات فراغ استوجبت اخفاء موته على اتباعه خوفاً من تفكك عصبية الدعوة وتنافر شوكة الموحدين. واضطر صاحبه عبدالمؤمن الى اخذ مكانه، ولكونه ليس من جلدة هرغة، كما يذكر ابن خلدون في تاريخه، وخوفاً من افتراق الكلمة ارجأ اعلان الأمر "الى ان تخالط بشاشة الدعوة قلوبهم" ص270. وزعم عبدالمؤمن مرض "المهدي" لمدة ثلاث سنوات "حتى اذا استحكم أمرهم، وتمكنت الدعوة من نفوس كافتهم كشفوا حينئذ القناع عن حالهم". ولعب الشيخ أبو حفص دوره في إظهار موت "المهدي" للناس و"عهده لصاحبه وانقياد بقية أصحابه لذلك" ورضي الكافة و"أجمعوا على بيعته بمدينة تينملل سنة أربع وعشرين" ابن خلدون، ص 270. وابتداء من سنة 524 هجرية قاد عبدالمؤمن أمر الموحدين فغزا درعة واستولى عليها سنة 526 هجرية، ثم "تسابق الناس الى دعوتهم افواجاً، وانتفض البرابر في سائر أقطار المغرب على لمتونة" ص 271. ونجح الموحدون في تسجيل انتصارات على زعيم لمتونة علي بن يوسف وابنه تاشفين سنة 533 هجرية. وعلى أثرها بدأ عبدالمؤمن في غزو بلاد المغرب وسجل انتصارات مهمة بين 534 و541 هجرية. وهلك خلال تلك المعارك أمير لمتونة علي بن يوسف وتولى مكانه ابنه تاشفين في سنة 537 هجرية، في لحظة أخذت الانقسامات تأكل دولته بعد رحيل والده فوقعت فتنة بين لمتونة ومسوفة فلحق أمراء مسوفة بعبد المؤمن ودخلوا في دعوته. واستمر عبدالمؤمن يضغط عسكرياً، فغزا جبال غياثة وبطوية وافتتحها ثم نزل ملوية وافتتح حصونها، ثم توجه الى بلاد زناته فأطاعته قبائل مديونة. واتسعت دولة عبدالمؤمن وبدأ يفتتح الحصون والقلاع والبلدات والمدن وقوات تاشفين تتراجع أمامه الى ان دخل الموحدون وهران واستولوا على معسكر لمتونة فهرب تاشفين الى حصن، لكنه اضطر للخروج فقتل سنة 539 هجرية. برحيل تاشفين فتحت الطريق أمام دولة عبدالمؤمن فتقدم الى تلمسان وحاصرها وتوجه الى فاس سنة 540 هجرية فحاصرها وقاد قوة اخرى لمحاصرة مكناسة. ووصلته في هذه الفترة اخبار بيعة أهل سبتة فقويت شوكة الموحدين فتوجهوا الى مراكش وحاصروها الى ان تم لهم فتحها في سنة 541 هجرية و"امّحى اثر الملثمين واستولى الموحدون على جميع بلاد المغرب" كما يذكر ابن خلدون، وما كاد عبدالمؤمن يوطد دعائم دولته حتى خرج عليه ثائر في ناحية السوس اطلق على نفسه "الهادي" فأرسل اليه قواته وهزمه و"قتل داعيتهم في المعركة مع أكثر اتباعه" في سنة 541 هجرية ص274. استقرت دولة الموحدين في المغرب على نار الفتنة فاستمرت الانتفاضات ضدها حتى نجح عبدالمؤمن في استئصال مختلف المعارضات واخضع مختلف القبائل لطاعته في سنة 542 هجرية. بعدها "صرف عبدالمؤمن نظره الى الاندلس" وكان بدأ اتصالاته بالأمراء هناك في سنة 540 هجرية لكسبهم الى جانب دعوته، ونجح في تحقيق تقدم سريع وأخذ نفوذه يتسع من قلعة الى اخرى ومن مدينة الى مدينة حتى "حاصروا إشبيلية براً وبحراً" واقتحموها في سنة 541 هجرية و"فرّ الملثمون منها الى قرمونة وقتل من أدركه منهم" ص277. وفي جو المعارك والفوضى واضطراب السلطة أتى القتل على عبدالله وهو ابن القاضي أبي بكر بن العربي تلميذ الإمام الغزالي، فاضطر والده القاضي ابن العربي الى التوجه على رأس وفد من اشبيلية الى مراكش وتقديم الطاعة لعبدالمؤمن في سنة 542 هجرية. الا ان القاضي ابن العربي توفي في طريق عودته الى الأندلس ودفن في فاس سنة 545 هجرية. وهي السنة التي نجح فيها عبدالمؤمن في بسط سيادة دولة الموحدين على الاندلس بعد ان دخل في طاعته أصحاب مدن باجة، ولبلة، وشريش، ورندة، وبطليوس، وطابيرة و"رجع عبدالمؤمن الى مراكش وانصرف أهل الاندلس الى بلادهم". ص278. آنذاك كانت أو ضاع المشرق قد أخذت بالتغير، وبدأت العملية الاحيائية التي باشرها الغزالي تؤتي ثمارها بعد رحيله بسنوات. فالخلافة العباسية أخذت تسترد عافيتها وبدأ الخليفة يمسك زمام المبادرة بصعوبة في البداية وبالتعاون مع أصحاب الدولة. ونجح عماد الدين زنكي في استعادة الرها وغيرها من حصون الجزيرة في أعالي بلاد الشام من الفرنجة سنة 539 هجرية. وعلى رغم مقتل عماد الدين زنكي في سنة 541 هجرية وتوزع إمارته على ولديه سيف الدين في الموصل ونورالدين في حلب، تابع نورالدين محمود زنكي التصدي لحملات الفرنجة وسجل انتصارات عسكرية معتبرة رفعت من معنويات المسلمين في وقت كانت الاندلس تشهد حملات افرنجية مضادة بسبب الفراغ الذي نشأ نتيجة صراع عبدالمؤمن مع الملثمين ومطاردته لإمراء المدن في فترة توطيده دعائم ملكه في المغرب. ويذكر ابن كثير في تاريخه قيام الفرنجة بالسيطرة على عدة حصون في الاندلس في العام 542 هجرية، في وقت كان نورالدين محمود زنكي يسقط الحصون الافرنجية في السواحل البداية والنهاية صفحة 240. ويربط ابن الأثير الذي عاصر تلك الفترة، في "كامله" بين حملات الفرنجة في الاندلس وخسائرهم في بلاد الشام. كذلك يرى علاقة ما بين انتصارات المسلمين المحدودة في خطوط التماس مع دار الخلافة وبين انتصارات الفرنجة المحدودة في الاندلس. الى الحملات المضادة والمتبادلة ضد المشرق والمغرب، تصاعد الصراع مع ممالك الافرنجة وأخذت أوروبا تستعد لمواجهة جديدة مع المشرق، وبدأت النداءات لتجميع القوات وإرسالها لحماية الحصون والتصدي لمبادرات نورالدين محمود العسكرية في المشرق وفي الآن نفسه الضغط عليه من خلال غارات سريعة ضد المواقع والحواضر الاسلامية في السواحل المغربية. ويسجل التاريخ في العام 543 هجرية قيام الفرنجة بمحاولة لاحتلال دمشق وإرسال نورالدين قواته وحمايتها من السقوط، كذلك إقدام الفرنجة على اقتحام المهدية في السنة نفسها وانهاء حكم آخر ملوك بني باديس استمرت دولة ابن باديس من 335 الى 543 هجرية. ورد نورالدين محمود في المشرق بسلسلة هجمات مضادة وتصدى لحملات الافرنجة وقام بالضغط العسكري على العديد من الحصون ونجح في فتح حصن فاميا قرب حماه سنة 544 هجرية. واستمر بالضغط وتسجيل الانتصارات وفتح الحصون واسقاط القلاع في 545 هجرية وهي السنة التي وطد فيها عبدالمؤمن دعائم دولته في شمال افريقيا بعد ان استقر الوضع لسلطته في الاندلس. آنذاك نجح عبدالمؤمن في كسر شوكة خصومه في المغرب والاندلس وبدأ يفكر في تدعيم دولته في سنة 546 هجرية في مناطق شمال افريقيا كامتداد جغرافي - بشري للمغرب سواحل الجزائر وتونس وطرابلس الغرب وباشر أيضاً في التخطيط لإنشاء مؤسسات وادارات لإطلاق نهضة عمرانية في البرين الاندلسي والمغاربي وتجهيز جيشه لمواجهة حملات الفرنجة المتزايدة، فاتصل بصاحبنا ابن رشد واستدعاه الى مراكش في سنة 547 هجرية وكلفه بمساعدته في انشاء معاهد العلم هناك. كان ابن رشد شاباً بلغ الپ27 سنة من عمره، وكانت شهرته آنذاك كطبيب من الأطباء، ومن تلامذة أبي جعفر هارون الذي أخذ عنه الطب. وجعله اتصاله بأبناء زهر من مشاهير زُهر محط اعجاب وتقدير خصوصاً عندما برع في الطب وكتب في حقوله، فابن زهر كان من أعلام الطب في زمانه. الى اتصاله بالطبيب ابن زهر اتصل ابن رشد بالفيلسوف ابن طفيل، وهو ثاني ثلاثة ظهروا في القرن السادس الهجري في حقل الفلسفة بعد ابن باجة وقبل ابن رشد. ولعب ابن طفيل دوره في التأثير على صاحبنا وكان له الفضل في تقديمه وتعريفه على ابن عبدالمؤمن الذي سيخلف والده لاحقاً. ويعتبر ابن طفيل أبرز اساتذة ابن رشد في الفلسفة اضافة الى اساتذته كوالده القاضي، وابن بشكوال، وابي مروان بن مسرة، وابي جعفر بن هارون، وابن زهر. انطلق الشاب الطبيب ابن رشد ينفذ المهمة بالتعاون مع علماء عصره ورجال زمانه من مهندسين وأطباء وقضاة وفقهاء لتنظيم ادارات دولة الموحدين ونشر مدارسها. تم تكليف ابن رشد بعد عودة عبدالمؤمن من غزواته في شمال افريقيا سنة 547 هجرية وتصادف مع اتساع رقعة دولته وتوافد عليه "كبراء العرب من أهل افريقية طائعين فوصلهم ورجّعهم الى قومهم" ابن خلدون، صفحة 279. الا ان القلاقل عادت وانفجرت عندما أخذ عبدالمؤمن يقسم البلاد ويوزعها على أولاده وأصحابه، فثار اصحاب "المهدي" لحرمانهم من الحصص وتمردوا عليه وفشلت حركتهم و"قتل أخوا المهدي ومن داخلهم فيها" كما يذكر صاحب "تاريخ العبر". ولم يحسم مقتل أصحاب المهدي مؤسس الدعوة الموقف اذ استمر الصراع على الاندلس الى ان نجح عبدالمؤمن في تأمين الاستقرار فيها والقضاء على بقايا دولة الملثمين واسترد مدينة المريّة من الفرنج في سنة 552 هجرية، ثم قام بهجوم معاكس ضد الفرنجة في مدينة المهدية واستردها منهم وأحكم سيطرته على كل الساحل الافريقي المغاربي في سنة 554 هجرية. وما كاد وضع افريقيا يستقر حتى قام انقلاب داخلي في مدينة غرناطة في سنة 557 هجرية بدعم من الفرنجة فأرسل عبدالمؤمن ابنه "ابا يعقوب يوسف في عشرين ألف مقاتل، فيهم جماعة من شيوخ الموحدين" كما يذكر ابن الاثير في تاريخه، واسترد غرناطة من الفرنجة وأعوانهم من الانقلابيين الكامل، المجلد 11، صفحة 284. لم يعش عبدالمؤمن طويلاً بعد هذه الحادثة اذ توفي في سنة 558 هجرية وقبر، كما يقول ابن خلدون، في تينملل "الى جانب المهدي" ص281. وأوصى عبدالمؤمن قبل وفاته "شيوخ الموحدين من أصحابه" بولاية ابنه يوسف لأنه يرى فيه الرجل المناسب أكثر من ابنه محمد كما يذكر ابن الأثير الكامل، صفحة 291. ويذكر ابن خلدون ان الشيخ أبا حفص أحد وزراء عبدالمؤمن أخذ البيعة لأبي يعقوب يوسف "باتفاق من الموحدين كافة" ص 282. مضى على تكليف ابن رشد بالمهمة حوالى 11 سنة وحتى الآن لم يظهر عليه اشتغاله بالفلسفة. فشهرته الاساسية كانت في الطب وانه صديق ابن طفيل صاحب القصة الفلسفية "حي بن يقظان" التي وضع فيها تصوراته التوفيقية بين الشريعة والحكمة وحاجة الانسان اليهما كغذاء للروح والعقل. بعد موت عبدالمؤمن واعتلاء ابنه يوسف أبو يعقوب أخذ نجم ابن رشد يسطع في دوائر الدولة وحقل الفلسفة. ويعود الفضل في الأمر الى ابن طفيل الذي أحب ابن رشد وعطف عليه واعجب بذكائه واطلاعه ومعرفته بالفقه وعلوم التفسير والتأويل، فعزم على تقديمه للخليفة الثاني يوسف بن عبدالمؤمن بعد ان طلب منه القيام بتلخيص كتب ارسطو وتفسيرها بسبب كثرة الترجمات وتعارضها. ونصح ابن طفيل خليفة الموحدين الثاني تكليف ابن رشد بالمهمة فهو ما يزال شاباً في الپ39 من عمره ويتمتع بقدرات ذهنية وتأويلية تسمح له بإنجاز هذه المهمة الصعبة. انشغل الخليفة الثاني بتوطيد أمره في المغرب والاندلس بعد ان تعرضت مواقع المسلمين الى هجمات الافرنجة رداً على انتصارات نورالدين محمود العسكرية في المشرق ونجاحه في استرداد قلعة بانياس في سنة 559 هجرية وفتح المنيطرة في سنة 561 هجرية، وبروز اسم صلاح الدين الايوبي كأحد قادة جيش نورالدين في بلاد الشام. وبسبب ضغوط الفرنجة على مواقع الموحدين في الاندلس اضطر الخليفة يوسف بن عبدالمؤمن أبو يعقوب ان يخاطب العرب في افريقية، كما يذكر ابن خلدون، ويستدعيهم الى الغزو ويحرضهم على القتال في سنة 563 هجرية. واحتاج في تلك الفترة الى تنظيم دولته فتذكر ابن رشد واستدعاه وطلب منه تولي القضاء في اشبيلية، وفي الآن يقوم بالمهمة التي اعتذر عنها ابن طفيل وهي تلخيص أرسطو وشرح فلسفته. وهكذا عينه خليفة الموحدين في سنة 564 هجرية، قاضياً لأشبيلية مع تكليف رسمي بالاشتغال على الفلسفة اليونانية. ومنذ تلك اللحظة غاص ابن رشد في حقل الفلسفة، وكان بلغ الرابعة والأربعين من عمره.