يقدم محمد برادة في كتابه الأخير سلسلة من الذكريات يُركبها انطلاقاً من سيرته الذاتية في مصر والقاهرة منذ أن تعرف عليهما. وها هو يستهيم عبر الخطابات الثقافية والأشرطة التصويرية التي تحولت لديه الى كَوْنٍ تتداخل فيه الوقائع والإشارات التخيلية، مستعيداً بكتابة نص يمارس أو يستحضر أشكالاً سردية متنوعة من دون أن يكون وفياً لنمط منها في ما يسعى اليه في محكياته القاهرية. وعلى هذا الاعتبار جاء كتابه "مثل صيف لن يتكرر" دار الفنك، الدار البيضاء، 1999 أقرب للسيرة - الرواية منه الى السيرة أو الرواية. وحصراً للمعنى تقول إن أشكال المعيش والتخييل" تتقاطع فيه وتتكاثف صور الكتابة ووصف الرحلة بما يستتبعها من تداعيات في الكتابة وانثيالها من مواقع مختلفة: من الأحداث التاريخية والمشاهدات" من الأحلام والاستيهامات ومن الحوارات اليومية أيضاً... بل من كل الأشكال التعبيرية التي يلتقي فيها الحكائي بالغنائي" السردي بالاستعاري ليصبح فعلُ الكتابة تجسيداً لرغبة الذات في أن يكون المحكي بوتَقة انصهارِ الواقع بالخيال ومَحفلاً يأتيه القارىء مُنوعاً لاستهاماته وعلاقاته بالنص الإبداعي. تعود المحكيات الى أول عهد محمد برادة بالقاهرة" نهاية الخمسينات. الى أول لقاء فعلي بأجواء مدينة ما فتئت تتسع كمتخيّل في ذهنيته وتصوراته التي نسجتها القراءات والأفلام وأصداء العمل السياسي من أجل مقاومة الاستعمار الأجنبي. فقد لعبت هذه المدينة دوراً أساساً في جمع أصوات المنادين باستقلال دول المغرب العربي، وتبدت لحماد الحاكي / الكاتب قلعة لانطلاق النداءات والتصورات السياسية التي كان لها أثرها في التوجهات والمعتقدات التي سادت في عموم البلدان العربية. ولعلها الحجة التي دفعت محمد برادة لأن يُعنون نصه بالفصل الذي عاد فيه الى ذكرياته الأكثر دلالة وتأثيراً" والى أعمق مرحلة في تاريخه الذهني، ويقصد بها صيف 1956. وقد صادف حصوله على شهادة البكالوريا وانتقاله الى مصر للدراسة" وقوع أحداث وطنية وقومية كبرى كاستقلال المغرب وتأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي... بالإضافة الى بداية انكشاف بعض المظاهر الثقافية والأدبية في حياة كاتب ما زال يتلمس خطوته الأولى في عالم الأصوات والذهنيات كما أفاضت بها أجواء القاهرة للسارد / الكاتب. يؤثِّثُ الكاتب نصَّه السِّيري منها ومن بعض محكيات الحياة الجامعية، حيث تهيأت له معرفة أساتذة كشوقي ضيف وسهير القلماوي ويوسف خليف ونجيب سرور الى جانب آخرين وَسَموا الجامعة المصرية. كما من بعض ما عاشه من منافسة طلابية مع طلبة آخرين جمعَتهُم به الدراسة ولحظات لا تنسى كزيارة الرئيس ناصر لرحاب الجامعة أو تلك التي كانوا يقومون بها أيام الجمعة الى بيت العقاد. وإذ تبدو هذه الإشارات عامة فإنها تكتسي أهميتها من الدور الذي لعبته المرحلة في تكوين الذهنية الثقافية والوعي السياسي والنقدي لدى محمد برادة بالخصوص. فقد تكشفت الأحداث عما لاحظه الكاتب من تبدلات نوعية بدأت برفض دعوات الديموقراطية من كتابات محمد مندور سنة 1952" ولم تنته بتصفية المنجز الناصري غداة السبعينات، حيث آل التعلق بالماضي الى بلسمٍ من الذكريات يتداولها الناس والنخبة المثقفة في حب الموتى: "ولحسن الحظ" عندما يتراجع الإنسان عن أحلامه الطوبوية لا يستطيع أن يزيل من فضاء الذاكرات لحظات التعبير عنها". بذلك تهيأت محكيات "مثل صيف لن يتكرر" انطلاقاً من رغبة الكاتب في جعل هويته موضوع تخييلٍ حيث يُعاد بناء الذات بممارسة الكتابة، وبجعل الموضوعي عنصراً مكوناً" الى جانب التخيُّلي" للحقيقة كما تبدَّت في لحظات معينة للكاتب. تتكشف هذه الاستراتيجية بمجموعة من الطرائق الفنية اعتمدها الكاتب. فإذا كانت السيرة الذاتية أقرب الى تمثُّل المُعطى الواقعي وسَحبه في خطاب فني" فإن هدف المحكيات قلب الآية بجعل الوقائع عنصراً لاحماً في البناء التخيلي الذي هو نسيج الكتابة. فالاشتغال بالذاكرة في السيرة يتضمن بالأساس إعادة خلق الموضوعي في إطار تخيلي ما دامت الذاكرة جداراً يسنُد الذاتَ أمام الزمن في تتابع اللحظات واشتغال الذاكرة: "الذاكرة متعددة الأوطان والفضاءات. من ثمة تعيش بين نارين كما قيل: أتوبيا التذكر وأتوبيا الرغبة. كلما تذكرنا تسللت الرغبة لتكون ذاكرتنا" وكلما استسلمنا للرغبة جعلناها تمتح من ذاكرة طوبوية". يخضع بناء "مثل صيف لن يتكرر" لاستراتيجية نظرية واضحة. فلتلاحُقِ المحكيات خطةٌ مسبقة تعتمد تقسيم وتنويع لحظات التذكر والتخييل والحكائي والميتا نصي عبر المقاطع من دون أن يعني فصلاً بينهما التي تشكل بناء مُتعالقاً من العناصر والفواعل الواقعية والنصية الدالة على رؤية الكاتب الى التحولات المُعضلة التي لحقت بزمن ومكان جسَّدهما فضاء القاهرة. إذا كانت العلاقة النوعية بالقاهرة هيأت للكاتب بناء سردٍ حكائي بمَحافل خطابية متنوعة" بتنوع الجهات الصادرة عنها الحوارات والنصوص المُدمجة في "مثل صيف..."، فهي تشكل" بالإضافة الى ذلك" جانباً من المتخيل الفردي الذي ظل ملتبساً وعصياً على الانقياد ضمن "رومانطيقية" الكاتب" وفلوتا في فوضاه من الخطاطات السردية المسبقة العاجزة عن تجسيد الألفة والانسجام في الغرابة واللامتجانس. وفي اتساع تصور الكاتب للرومانطيقية" تنداح السجلات والخطابات المتعددة ضمن المحكيات بما يجعلها حوارية متقاطعة بين الأدب والمعيش. يدفعها الكاتب في اتجاه التجريب الروائي بتداعيات الذات ورؤاها النقدية الى الوقائع والتاريخ والى الخطابات السائدة والإيديولوجية المُمِيتة... كما كانت أظهرتها وأنذرت بها نصوص كتابٍ كروايات وشخصيات نجيب محفوظ ويوسف إدريس أو جابر عصفور" المتنبهة قبلاً الى صيرورة القيم وتحولات العلاقات بين الفئات المجتمعية إبان الانتقال من الناصرية الى عهد الانفتاح البائس في مصر الجديدة.