اعتاد القاموس السياسي القومويّ، لا سيما في العراق، استخدام مصطلح "الشعوبية" في وصف الاتجاهات، والتيارات والأفكار الاخرى، وبالأخص الشيوعيين ودعاة النزعة الوطنية العراقية، باعتبارها في رأيهم، معادية للانتماء القومي العروبي. واتسع استخدام المصطلح واتهام الخصوم به الى حد انه تحول احياناً الى سلاح ذي حدين. فاذا كان حزب البعث وحلفاؤه في "الجبهة القومية" يتهمون عبدالكريم قاسم والشيوعيين بالشعوبية، فان بيانات عبدالسلام عارف في تشرين الثاني نوفمبر 1963 حين انقلب على البعث وصفته وحرسه القومي بالشعوبيين. فأي تبادل للاتهامات او اي ثأر للمصطلحات! حورب عبدالكريم قاسم ومعه حلفاؤه الشيوعيون، منذ الأسابيع الأولى للثورة بحجة كونهم "شعوبيين" بمعنى معاداة العروبة. واتهم قاسم ب "الانحراف" منذ تلك الأسابيع بالذات، اي قبل تدهور الاوضاع، وانفجار الخلافات الحادة مع قيادة الجمهورية العربية المتحدة، وانتهاكات احداث الموصل آذار/ مارس 1959 وكركوك تموز/ يوليو 1959. ولا بد اولاً من وقفة أمام أصل المصطلح وتطور معانيه واستخداماته. وممن تصدى لذلك الباحث القدير احمد أمين في الجزء الأول من موسوعة "ضحى الاسلام". فقد شخّص ثلاث نزعات: الأولى تفاخرية عربية متعالية على بقية الشعوب والأمم، متباهية بأن العرب افضل الجميع. والثانية "شعوبية" بمعنى "اهل التسوية"، اي القائلين ان الأمم والشعوب متساوية، وإن الاسلام يرى "ان اكرمكم عند الله أتقاكم"، وان "لا فضل لعربي على اعجمي الا بالتقوى". وكانت هذه النزعة رد فعل على عنصرية غلاة الحكام والكتاب العرب، مؤكدة ان لكل امة افراداً افاضل وآخرين اشراراً، وان التمايز يتم بين الافراد لا بين الشعوب والأمم. وفي العصر العباسي الأول برز مفهوم آخر للمصطلح ليشمل دعاة الحطّ من قدر العرب وتفضيل الأمم الاخرى عليهم. ويستخدم الكثيرون من القومويين اليوم هذا المعنى بالذات في الحديث عن عبدالكريم قاسم وخصوم آخرين. ومن المفارقة ايضا وسوء الاستعمال وعُقد الخصومة ان من المؤلفين الأقدمين من وضعوا الجاحظ في مقدمة الخط الدفاعي عن العرب وأفضالهم، لكن آخرين وصفوه بالشعوبية لأنه كتب في فضائل الموالي. وقد آلف ذلك في أيام المعتصم. ويرى احمد امين ان الجاحظ كان يذم الشيء ويمدحه استجابة لدعوة كبيرة أو رغبة في اظهار مقدرته البيانية على تصوير الشيء بصورتين متباينتين. والمهم ان الجاحظ المدافع عن العروبة هو نفسه المتهم بالشعوبية، كما وقعت المفارقة لحزب البعث بانقلاب حليفه عبدالسلام عليه. والآن، فهل كان عبدالكريم قاسم "شعوبياً" بمعنى معاداة العرب والعروبة؟ وما هي مبررات التآمر عليه منذ الاسابيع الأولى واتهامه بپ"الانحراف"؟ فلندع الحقائق والوقائع تتكلم: 1 - شارك قاسم في حرب فلسطين الأولى 1948 وأبلى بلاء حسناً باعتراف اكثر الشهادات الموثقة. 2 - ابرم قاسم مع الجمهورية العربية المتحدة بعد الثورة مباشرة اتفاقات عدة، ثقافية وعسكرية. 3 - ساند قاسم ثورة الجزائر مساندة فعالة لا يزال الجزائريون الأوائل يمجدونها. 4 - وساند القضية الفلسطينية عملياً اذ فتحت الهيئة العربية العليا لفلسطين مكتباً لها في بغداد دعمه قاسم بالأموال ومختلف المساعدات، وتقرر تشكيل "جيش التحرير الفلسطيني" بقانون رقم 102 في آذار 1960. اتهام قاسم بالشعوبية بالمعنى المعادي للعروبة تعكز على مفهوم قاسم لمعنى الوحدة العربية وكان مغايراً او مخالفاً لمفهوم الوحدة الاندماجية الفورية في الجمهورية العربية المتحدة. وجدير بالذكر انه لا "جبهة الاتحاد الوطني" المؤلفة من حزب البعث وحزب الاستقلال والحزب الشيوعي والحزب الوطني الديموقراطي ولا تنظيم الضباط الاحرار، قد وضعا هدفاً لما بعد الثورة الانضمام الفوري الى الجمهورية العربية المتحدة. بل لم يصوغا حتى شعار الاتحاد الفيديرالي. فكل من "الجبهة" وقيادة "الضباط الاحرار" وضع هدفه المباشر لما بعد الثورة "التقارب الوثيق مع الجمهورية العربية المتحدة والدول العربية المتحررة، ومساندة الاقطار العربية التي لا تزال تسعى لنيل استقلالها". فاذا كان بعضهم أضمر هدف الاندماج الفوري فانه لم يطرحه اصلاً حتى للنقاش قبل الثورة. وكان حزب الاستقلال، ويعتبر أباً روحياً لكثير من البعثيين الأوائل قد ألف مع الوطني الديموقراطي تنظيم المؤتمر الوطني في أواسط الخمسينات وطرح هدفاً قومياً له "الاتحاد الفيديرالي" بين الدول العربية. اما اذا كانت "الشعوبية" تعني تجاوزات الشيوعيين من خلال تصرفاتهم في "المقاومة الشعبية" و"لجان صيانة الجمهورية"، فان تلك التجاوزات لا يمكن وصفها بالشعوبية، فضلاً عن انها في الأشهر الأولى كانت موجهة ضد من اعتبرهم الشيوعيون "اذناب العهد البائد"، ثم "المتآمرين" على السلطة. ولم تكن اتهامات التآمر باطلة على رغم المبالغات وكثرة الاشاعات. وقد تأكد ان ثلاث خطط على الأقل قد أُعدت، بالاتفاق مع سلطات الجمهورية العربية المتحدة، لقتل قاسم، او الانقلاب العسكري عليه، او إحداث اضطرابات عشائرية يتدخل من خلالها فريق من العسكر. ووردت اسماء المرحوم احمد حسن البكر ورشيد عالي وغيرهم في هذا الشأن. اما عبدالسلام عارف فقد أراد قتل قاسم في مكتب الاخير، وهو ما اورده في ذكرياته المنشورة في "روزاليوسف"، كما ورد التأكيد على محاولته التآمرية في شهادات عدد من خصوم قاسم ومنهم صبحي عبدالحميد. ويورد الأخير انه كان في مطار بغداد استعداداً للسفر الى القاهرة في 9 ايلول سبتمبر 1958 فاستدعي لمكالمة عبدالسلام هاتفياً قائلاً له: "قررت اخيراً ان أقوم بالثورة ضد عبدالكريم قاسم في 14 ايلول... اخبر الاخوان في الجمهورية العربية المتحدة ان رقم واحد المقصود قاسم سيذهب ويحل محلة رقم اثنين اي عارف..." انظر وقائع الندوة بعنوان "الذاكرة التاريخية لثورة 14 تموز 1958" كتاب صادر عن دار الشؤون الثقافية - بغداد 1987. والواقع ان "القنبلة "التي فجرت العلاقات الوطنية العراقية - العراقية بعد اسابيع قليلة من الثورة كانت شعار الانضمام الاندماجي والفوري الى العربية المتحدة، وكان هذا يلاقي معارضة قوية من الأغلبية الساحقة من الشعب فضلاً عن السلطة. ولم يكن هؤلاء معادين للأمة العربية ولهدف الوحدة، وانما مخالفين لاحدى صيغ الوحدة، ولتوقيتها، ولطريقة العمل لها من وراء ظهر الآخرين والارادة الشعبية. وكان اكثر القوى الوطنية يطالب باحترام الحياة الحزبية، وبمراعاة الشأن الكردي، والخصوصيات العراقية الاخرى، دون ان يعني ذلك شعوبية معادية للعروبة ولأحلام الوحدة. وقد برهنت تجربة الوحدة المصرية - السورية وانهيارها الكارثي على صواب مواقف من دعوا الى مراعاة الخصوصيات المحلية واحترام الحريات الديموقراطية. ولم تكن نقاط خالد بكداش الپ13 لتخرج عن هذا السياق. وقد أدت انتكاسة الوحدة وانهيارها الى ضربة بليغة للآمال الوحدوية، في حين ان النقاط التي كانت القوى الديموقراطية العراقية والسورية تطالب بها، كان من شأنها تدعيم الوحدة وإرساؤها على اسس صلدة وجعلها نواة أو نقطة جذب للدول العربية المتحرةة الاخرى. وبرهنت التجربة ايضاً على ان المرحوم عبدالسلام عارف استخدم شعار الوحدة الفورية، ومناجاة القيادة الناصرية مع تجاهل ذكر قاسم لأغراض المزايدة، والاحراج، لازاحة قاسم والتسلط من بعده. ولم تتحقق اية وحدة مع مصر لا بعد اسقاط قاسم عام 1963 وترؤس عبدالسلام للجمهورية، ولا بعد انقلابه على البعث في اواخر ذلك العام. ولو عدنا بهدوء الى تلك الأيام وأعني الأشهر القليلة لما بعد الثورة والتي تفجرت فيها الخلافات التي انتهت بتصادمات وبتجاوزات فان المرء لا يمكن الا ان يستغرب لمسارعة البعض الى طرح شعار الاندماج، بدلاً من تعزيز مواقع الثورة ودفعها باتجاه تأسيس دولة المؤسسات والقانون، والسير نحو هدف الوحدة خطوة خطوة بلا ارتجال وبلا استعجال... لكن ما حدث فجّر التناقضات والخلافات بين القوى الوطنية، ودفع بالعلاقات بين العراق والعربية المتحدة الى التوتر المشحون، ومن ثم تحولت الثورة تدريجياً الى حكم فردي عسكري نرجسي يقف قاسم على قمته... وفي نهاية المطاف خسر الجميع. فما احرانا جميعاً بالوقفة الموضوعية الهادئة مع تلك الاحداث، واستنباط العبرة اللازمة من اجل اعادة لحمة الحركة الوطنية العراقية وفي سبيل مواجهة موجة التشكيك بطاقات الأمة العربية وشرعية هدف وحدتها... ولن تجدي شعبنا العراقي المنكوب محاولة هذه القوة الوطنية او تلك القاء كامل المسؤولية على الآخرين. فقد كنا جميعاً مسؤولين عما حل بثورة 14 تموز وعن تردي العلاقات بين عراق الثورة ومصر الوحدة، هذا من دون ذكر لدور قيادة الاخيرة في مواقفها المتشنجة من الثورة والمعادية لعبدالكريم قاسم. كان قاسم عروبياً على طريقته الخاصة، وكان يقرن شعار "جمهورية عراقية خالدة" بشعار و"أمة عربية واحدة"، ومات مخلصاً لشعبه، وإن اقترف الاخطاء الجسام. وليس من الصدف ان المنقلبين عليه يوم 8 شباط فبراير 1963 رفعوا صوره على دبابات حركتهم الانقلابية. كان عبدالكريم قاسم، ولا يزال، رجلاً اشكالياً تتعدد حوله الاجتهادات وتتضارب الآراء. فقد حول الثورة الى حكم عسكري فردي، وحارب الاكراد بعد الانفتاح على حقوقهم، واسترد حقوق العراق من احتكارات النفط بينما جازف بالمطالبة الصاخبة والعشوائية بالكويت، واستند للقوى السياسية اليسارية ثم نكل بها، وعمل على شقها، وحارب القوى القومية ثم هادنها ضد الشيوعيين الذين تحولوا في رأيه الى "عملاء"، وهي الكلمة التي علق بها على مذكرة الحزب الشيوعي المطالبة بالاجازة القانونية، وفي الوقت نفسه كان رمزاً للتسامح الديني والمذهبي، حريصاً على خدمة الكادحين... وقطعاً كان وطنياً مخلصاً حتى النهاية وكان عروبياً لا شعوبياً. * كاتب عراقي مقيم في باريس.