انطوت أربعة عقود من عمر العراق وأعمارنا، منذ اعلان الثورة صبيحة الرابع عشر من تموز يوليو 1958. أربعون سنة وموضوع عبدالكريم قاسم تقويمه والنظرة اليه، والموقف منه كان ولا يزال محوراً لاجتهادات، وخلافات، وحساسيات، وإثارات بين الوطنيين العراقيين خصوصاً، والوطنيين العرب عموماً، وحتى داخل الحركات السياسية الواحدة كما برز خصوصاً لدى الشيوعيين العراقيين. وهناك موضوعات مهمة اخرى تثير الخلافات وتدفع بعض الطروحات الجديدة، لا سيما: هل كانت الثورة خيراً ام بداية الشر والكارثة. وهذا موضوع تبرز فيه اجتهادات مستجدة، لكن اغلبية الآراء والتقديرات الوطنية لا تزال، وكما اعتقد، مع ترجيح كفة الثورة، وحتميتها التاريخية. وعلى كل، فليس هذا هو موضوعي هنا، وإنما هو رأي ابديه في النظرة الى عبدالكريم قاسم. ومما ألاحظه بأسف ان النقاش السياسي العراقي كثيراً ما يتأثر بالعاطفة، او تغليب جانب وتجاهل جوانب، وكثيراً ما نخضع لمنطق الأبيض والأسود، لا غير. فالحكم الملكي في العراق إما كان شراً كله وبلا جوانب مضيئة وانجازات محمودة، وإما كان صفحة نقية من الشوائب والمساوئ والخطايا. وهكذا ايضاً بالنسبة الى قاسم، فثمة اليوم كتابات جديدة تبرئه من كل خطأ كبير، وتصوره مجرد ضحية للآخرين. اما الذين عادوا قاسماً، وحقدوا عليه وحاربوه بتهمة "الانحراف القومي" فان قلة قليلة منهم فقط هي التي عدلت نظرتها القديمة، والتقويم الذي لا يزال لديهم سائداً هو تخوين قاسم، وتجريمه، واعتباره اباً لمآسينا الراهنة او جدّاً. ان القوى والحركات السياسية العراقية والمثقفين والمحللين السياسيين ذوي الاهتمام بالشأن العراقي، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، لا يمكن ان يغلّبوا عواطف امس وعقده في مناهج التحليل وتحديداً المواقف. كما ان الكوارث التي حلت ببلدنا منذ سنوات، وأوضاعه الشاذة، قد تخلق اجواء القياسات الخاطئة في النظرة لاحداث الماضي وإجراء المقارنات الاعتباطية المرتجلة بعيداً من تباين الظروف والنسبية التاريخية. تحققت ثورة 14 تموز في بلد لم يعرف من الحياة الديموقراطية الصحيحة غير بعض التشكيلات ونتف من الممارسات المشوهة، اي انها لم تقم في بلد عرف بتقاليد ديموقراطية عريقة. وعلى رغم الوعي الوطني العام فان الجماهير المسيّسة وحتى قياداتها والاكثر فاعلية بينها كانت تعمل سراً لم تكن تمتلك ادوات العمل السياسي الناضج، ولا تؤمن في اعماقها بأن الحقيقة الايديولوجية والحقيقة السياسية نسبيتان، ولا ترى في "الآخر" غير خصم أو حليف مرحلي "تكتيكي". اما القيادات العسكرية المعارضة الفاعلة سراً ضد النظام فكانت، بالطبع، اقل خبرة واستعداداً للعمل الديموقراطي من زميلاتها المدنية. هذه الخصائص والظروف السياسية اضافة الى التخلف الاجتماعي العام، تفسر الكثير مما وقع غداة الثورة، ابتداء من عمليات سحل عبدالاله ونوري السعيد وتشويه الجثث والاستهتار بها، وهو ما ترفضه تعاليم الدين نفسها ناهيكم عن اعلان حقوق الانسان وعن القانون والاعراف. هذا ليس تبريراً ولكنه محاولة تفسير. وقد انحدر عبدالكريم قاسم من سلك العسكريتاريا متأثراً ببعض افكار الحزب الوطني الديموقراطي، وما ان مضت اسابيع حتى وجد نفسه امام صراعات حزبية عنيفة، وأمام ضغوط وتحركات ومناورات باسم الوحدة الاندماجية الفورية، وردود الفعل لا سيما من الحركة الشيوعية وجماهيرها المؤازرة. هذه الصراعات الحادة خلقت الاجواء السلبية بالنسبة الى التطور الديموقراطي للبلد الذي كان شهد تشكيل حكومة وطنية ائتلافية عدا الشيوعيين، وميلاد صحف حزبية حرة، ومؤتمرات وتحركات عمالية وفلاحية وطلابية ونسائية نشيطة. الصراعات الحزبية - الحزبية، خصوصاً البعث - الشيوعي، والتدخل المصري المتزايد في كواليس السياسة الحزبية العراقية الى حد تمويل تمرد الشواف وتسليحه في آذار/ مارس 1959، دفعت بالسلطة تدريجاً نحو طابع الحكم الفردي العسكري، وفي قمته قاسم الذي انتعشت وانتشرت عبادة شخصيته، وصار هو نفسه يؤمن بأنه أب للشعب وانه منقذ ومعصوم من الخطأ وان ما يقوله قانون. وظروف الصراعات السياسية الحادة، والمؤامرات المتتالية ضد حكمه، ومحاولة الاغتيال 1961، ثم اندلاع الحرب الاهلية ضد الشعب الكردي، تصحّ الاشارة اليها في التخفيف من مسؤولية عبدالكريم قاسم الشخصية في تهاونه ومماطلته في شأن اقامة دولة المؤسسات واجراء الانتخابات... الا ان هذا كله لا يمكن ان يبرر له استمرار السير في طريق الحكم الفردي العسكري، ولا يسوّغ لبعض المحللين العراقيين اليوم ان يبشروا بأن فكرة اقامة حكم المؤسسات الديموقراطية، عهد ذاك، كانت طوباوية وغير عملية. ان فهم ظروف قاسم والاوضاع التي قاد فيها البلاد شيء، وتبرير اخطائه الفادحة بحجة تلك الظروف والاوضاع شيء مختلف ولا يجوز، خصوصاً وقد كان من واجبه وفي امكانه المبادرة الى حل القضية الكردية سلمياً وديموقراطياً وخلق جو عام من الوفاق الوطني بقدر الامكان، والسير نحو تنفيذ الوعود المتكررة الصادرة عنه بوضع الدستور الدائم وبالانتخابات. ولكن، اذا كان من غير الجائز تبرئة عبدالكريم قاسم من نهج الحكم الفردي والتعود عليه بدلاً من فتح صفحة جديدة في الاتجاه الديموقراطي، فان من غير الجائز اصلاً، نزع صفة الوطنية عنه او اتهامه بمعاداة العروبة والقومية العربية. عبدالكريم قاسم كان وطنياً مخلصاً لبلده ولشعبه، والنزعة العراقية الاصيلة من اهم صفاته وخصاله، وأبرز مآثره، ومعها روح التسامح في النظر للأعراق والاديان والطوائف. وتقترن النزعتان باحترام عميق للمرأة، والايمان بحريتها وحقوقها، حتى انه اقدم على مغامرة محفوفة بكل الاخطار في موضوع المرأة والارث، وهي مغامرة صدمت القوى المحافظة والمراجع الدينية، من سنية وشيعية. وإذا كان موقف قاسم هذا راقياً من الجهة الانسانية والمستقبل الأبعد، فانه كلفه الكثير على الصعيد التكتيكي، بتعبئة شرائح وقوى جديدة ضده. وبمعنى من المعاني فانه كان "اكثر تقدماً" في النظرة للمرأة من معظم شرائح المجتمع والقوى السياسية ومن اكثر القيادات العربية الرسمية الاخرى. لكن اهم ما تحقق لقاسم وضمن له شعبية منقطعة النظير هو حسه الاجتماعي المرهف في التعاطف مع الطبقات والشرائح المحرومة وما قدم لها على صعيد السكن والتعليم والوضع المعاشي، من انجازات كبيرة حفرت له في الضمير الشعبي البسيط صورة محبوبة لم تغيرها الأحداث التالية والحملات التشهيرية المستمرة الى يومنا هذا. لم يكن قاسم زعيماً مثالياً ولا قائداً معصوماً، لكنه كان وطنياً مخلصاً، محباً لشعبه، لا سيما كادحيه ومتحلياً بروح عالية من التسامح حتى نحو من أرادوا قتله. وعندما تعرض بعض المتهمين في اعقاب حركة الشواف الى اهانات وتعذيب في دوائر التحقيق فان قاسماً هو الذي امر باستكتابهم للادلاء بتفاصيل ما تعرضوا له، ليتخذ اللازم تصحيحاً. وقدمت حكومة قاسم الكثير لنصرة الثورة الجزائرية وللشعب الفلسطيني ولم يكن عدواً للوحدة، وإنما كانت له نظرته العروبية المتميزة عن بعض الايديولوجيات التي كانت سائدة في الحقل القومي العربي. وكم كان حرياً بدعاة الوحدة العمل لتثبيت الثورة وترسيخ اقدامها ودفعها نحو حياة المؤسسات والديموقراطية المتنامية التي تقرر وحدها افضل الروابط بين اجزاء الأمة الواحدة. وكم كان حرياً بالشيوعيين التحلي بصبر اكثر وانفعالية وغرور اقل، وتصميم جاد على الحوار والمصالحة. وإذا لم يخط قاسم خطوات حاسمة نحو الانتقال الى الحياة الديموقراطية الراسخة فان الآخرين وباستثناء كامل الجادرجي لم يبدوا نشاطاً ملحوظاً من اجل التطور الديموقراطي العام. وهكذا فان لقاسم ما له وما عليه، له مآثره وله خطاياه، لكن اخطاءه وخطاياه كانت ادنى خطراً وعواقب مما فعلته القوى السياسية الحزبية المتناحرة بعضها ببعض وبالثورة وما آلت اليه من ردة وانتكاس. * كاتب عراقي مقيم في باريس.