أصدر زهير الدوري كتابه «الفكر السياسي للأحزاب والحركات العلمانية في العراق» (منشورات «جداول»)، متطرقاً إلى البيئة السياسية العربية العامة، وإلى الاتجاهات الفكرية الأساسية التي اعتملت ضمنها، وإلى النشاط العملي للأحزاب الأساسية التي اتخذت من الميدان العراقي مساحة اختبار لأفكارها. لقد واءمت الكتابة بين التأريخ للبلد والتأريخ لحركاته، ومن نسيج تلك المواءمة حيك الثوب العراقي، وأطرافه العربية، بألوان كانت متناقضة غالباً، بحيث لم تتسق جمالية الفكرة مع «بشاعة الممارسة». يذكر الدوري أربعة اتجاهات رئيسية طبعت الحياة السياسية العربية، عموماً، بطابعها، هي الماركسية اللينينية، والإسلامية، والإقليمية، والعلمانية، وإذ يعود إلى تجربة محمد علي باشا في مصر، بحثاً عن بداية انطلاق للإصلاح والتنوير في دنيا العرب، فإنه لا يهمل الخيط الواصل بين تلك المحاولة وما أعقبها من محاولات امتدت حتى لامست الحقبة السياسية الحديثة، التي استوت على قواعد تنظيمية واضحة، منذ أواخر العهد العثماني وحتى تاريخ انهيار التجربة البعثية في العراق، بعد اجتياحه من «التحالف الدولي» في ربيع العام 2003. على درب التواصل هذا مشى تياران أحدهما نادى بعلمانية «خالصة»، وكان من رواده شبلي الشميل، وفارس نمر، ويعقوب صروف، وناصيف اليازجي، وبطرس البستاني... وسواهم، والثاني، رفع لواء التوليف بين الأصالة والمعاصرة، وكان من أعلامه رفاعة الطهطاوي، وخير الدين التونسي، ومحمد عبده. وفي سياق المحاولات إياها، وداخل العراق، الذي هو ميدان «استطلاع» الكاتب ومتابعته، كان ثمة بدايات مع الحزب الوطني، حيث برز جعفر أبو التمن، ومع نادي المثنى، وجماعة «الأهالي»، التي شكلت تربة صالحة لنشوء أحزاب أخرى نهلت من مواردها الفكرية، كان منها الحزب الوطني الديموقراطي، الذي رأى النور بعد قرار السماح بتأسيس الأحزاب في العراق في العام 1946. إلى جانب الحزب الوطني، نشأ حزب الاستقلال العراقي، وقد حملت أفكاره الإصلاحية نشرات «اليقظة والأفكار والجريدة»، وركز في مطالبه على الإصلاح العام، وعلى الاستقلال والتحرر من الاستعمار. لقد تمسك الحزب بزعامة كامل الجادرجي، بالديموقراطية البرلمانية، وبالأهداف الاشتراكية الديمقراطية، وأغرته فكرة «حزب العمال البريطاني»، لذلك رفض الاتصال بمجموعة الضباط الأحرار في الجيش، لأنه لم يكن مع «الثورة» كسبيل لتغيير الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية. لكن ما رفضه حزب الاستقلال، ذو البنية «المثقفة البورجوازية»، من أفكار وممارسات انقلابية، كان بنداً أساسياً على جداول أعمال الحزب الشيوعي العراقي، وحركة القوميين العرب، وحزب البعث العربي الاشتراكي، وهذين الأخيرين تكاد السيرة السياسية لكل منهما، تتلخص في جانبها الانقلابي، الذي كانت ذروة نجاحه تكثيفاً لصعود الطرفين السياسي، ومراحل تقهقره تعبيراً عن فشلهما الشامل المشترك، كلٌّ في ميدانه، وكل ضمن بيئة نشأته، وبالاتصال الوثيق مع الشروط العامة التي أحاطت بها. على صعيد تفصيلي، يذكر الكاتب أن بداية الاهتمام «الشيوعي» بالعراق، بدأت مع نداء الكومنترن عام 1920، الذي خاطب أهل الرافدين، لتتأسس بعد ذلك في بغداد «جمعية متدارسي الأفكار الحرة» بإشراف حسين الرحال، ولسان حالها جريدة «الصحيفة»النصف شهرية. بعدها دارت عجلة التأسيس في البصرة، مع عبدالحميد الخطيب، وصولاً إلى أول كونفرنس عام 1944، وإلى الدور الأساسي الذي لعبه يوسف سلمان يوسف (فهد) حتى إعدامه. لقد انخرط الحزب الشيوعي في الأحداث التي عصفت بالعراق، حاملاً شعار «وطن حر وشعب سعيد»، لكن الأداء لم يكن دائماً أميناً لهذا الشعار، بل هو تقلب بتقلب المواقف الدولية، وبتغير مواقف الاتحاد السوفياتي. تلك كانت الحال مع حكومة رشيد عالي الكيلاني، ومع الإنكليز بعد اجتياح الألمان للأراضي السوفياتية، ومع نظام جمال عبد الناصر، الذي صار نظام تطور نحو الاشتراكية. لقد جاءت الإساءة الكبرى لتاريخ الحزب من تحالفه مع عبدالكريم قاسم، وإفادته من حركته في 14 تموز (يوليو) 1958، وتصديه للحركة القومية، وعدم تردده برفع شعار المطالبة بإعدام من ناوأه، وبغض الطرف عن عمليات السحل في الشوارع والتعليق على أعمدة الكهرباء، بخاصة بعد حركة عبدالوهاب الشواف في الموصل، وبعد أحداث كركوك عام 1959، حيث تصرف الشيوعيون كأكراد، وليس كحملة أفكار شيوعية، وفق الوصف الذي ساقه الكاتب. لقد حدثت جملة من التحولات في مواقف الحزب الشيوعي العراقي بعد «خط آب 1964»، وتعرضت بنية الحزب لانشقاقات متعددة، وكان اللجوء إلى الكفاح المسلح في الأهوار، واحداً من الخيارات، فسقط خالد أحمد زكي هناك. أما العلاقة مع البعث، فانتقلت من انسجام إلى عداء، وانتهى الحزب الشيوعي مطارداً ومعتقلاً ومنفياً ومقتولاً... حتى عاد مع قوات «التحالف الدولي»، ليستأنف وجوده داخل إطار المشهد السياسي، بقرار من رعاة التحالف ومندوبيه. بين التأسيس واللحظة، تطرح جملة الكاتب الأخيرة حول العودة الشيوعية إلى العراق، أكثر من سؤال، وتضع أكثر من علامة تعجب وعلامة استفهام. حركة القوميين العرب، التي كانت تنظيماً قومياً عربياً، كان لها فرعها العراقي أيضاً. يذكّر الكاتب بالجو السياسي العام الذي أحاط بالقوميين الأوائل، الذين هزَّتهم نكبة فلسطين، من أمثال قسطنطين زريق ونبيه فارس، ويأتي على ذكر الإرهاصات التنظيمية الأولى لحركة القوميين العرب، وعلى ذكر المجموعات التي سبقتها وكانت جزءاً لاحقاً من مكوناتها. هنا نقرأ عن كتائب الفداء العربي، وعن منظمة القمصان الخضر المصرية، وعن جمعية العروة الوثقى ومنظمة الشباب القومي العربي الطلابية. كذلك نسمع بأسماء كان لها قصب السبق في ميدان التأسيس وفي دنيا الممارسة، من أمثال جورج حبش وهاني الهندي وجهاد ضاحي وحسين توفيق، من خط الرعيل الأول، ومن أمثال محسن إبراهيم ومحمد كشلي ونايف حواتمه وأبو ماهر اليماني وأبو عدنان قيس من خط الرعيل الثاني. على خط التأسيس القومي، كلف حامد الجبوري التأسيس في العراق، وأنشأ سعيد بركة النواة الأولى في بغداد ونجح هاشم علي محسن في وضع اللبنة الأولى ضمن صفوف العمال، ولعب باسل الكبيسي دوراً بارزاً وأساسياً في الحركة العامة. وعلى صعيد العلاقات مع الأحزاب، كان التوافق تاماً مع البعث، بسبب الارتباط بمصر، ومثل «الزميل البعث»، خططت الحركة لاغتيال عبدالكريم قاسم، لكن زميلها سبقها إلى ذلك، وعلى خط المعارضة اصطدمت بعبدالسلام عارف، وانقلبت عليه مع عارف عبدالرزاق، لكن المحاولة فشلت. باختصار، لقد جربت حركة القوميين العرب ما جربه الآخرون من وسائل عمل جماهيرية وسرية، فكان لها تنظيمها بين الضباط، وكانت لها تقلباتها بالتناسب مع تقلبات الأوضاع العربية العامة، لكنها قبل غيرها انهارت ككيان تنظيمي، بعد هزيمة العرب أمام إسرائيل عام 1967، وتوزعت إثر مراجعة راديكالية، على تنظيمات بديلة، كان نصيب الفرع العراقي منها بداية قيام بديل اسمه الحركة الاشتراكية العربية، وهذه ما لبثت أن توزعت على مجموعات ثلاث، قادها قوميون عرب معروفون، هم عبد الإله النصراوي، وخير الدين حسيب والضابط صبحي عبد الحميد من كتلة الضباط القوميين. بخلاف مصير حركة القوميين العرب، ثبت واستمر المنافس الآخر، حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي عرف بداياته مع مفكرين أساسيين، ميشال عفلق وصلاح الدين البيطار، وعاش نكبته مع سقوط بغداد وإعدام صدام حسين، والتحول إلى العمل السري والانصراف إلى «مقاومة الاحتلال»، من ضمن «جبهة الجهاد والتحرير»، التي دخل على خط عملها لاحقاً من هو من بنات أفكار البعث، ومن على الطرف النقيض من تلك الأفكار. لقد جمعت حلقة «نصرة العراق»، ميشال عفلق والأرسوزي، وكانت حلقة أخرى باسم شباب البعث العربي، مع صحيفتها «البعث»، قد شهدت النور عام 1946. أما المؤتمر الأول لحزب البعث فقد كان في 4 نيسان 1947، حيث اختير ميشال عفلق عميداً للحزب وصلاح الدين البيطار أميناً عاماً. يسلط عزيز الدوري الضوء على تكوين الحزب ونشاطاته ومبادئه، من موقع «المتعاطف والمحبذ»، فيركز على نخبوية اختيار الأعضاء، وعلى النشاطية النضالية التي كانت للحزب خاصة في صفوف الطلاب، هذه النشاطية التي نجحت في تأسيس أول اتحاد طلابي عراقي. كذلك لا يفوت الكاتب التركيز على الحماسة الوحدوية للحزب، ودعوته الدائمة للوحدة بين مصر وسورية والعراق، وهو، أي الحزب، أصدر بيان 17 نيسان، ليعتبره رداً على ما كان من انهيار للجمهورية العربية المتحدة، التي جمعت مصر وسورية. وقاد التظاهرات إبان العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وظل الأنشط ضمن الطلاب، فقاد التظاهرات الكبيرة التي توجت بانقلاب شباط عام 1963. لقد كان حضور الحزب أكبر من حجمه، لذلك استثمر الأمرين في محاولتين انقلابيتين، فشلت إحداهما مؤقتاً، وتكرست الثانية عام 1968، واستمرت مفاعيلها إلى «الأمس القريب». ولأن التاريخ سيرة متصلة، فإن مسيرة حزب البعث، تضمنت حقيقة اسمه، الذي كان حصيلة دمج اسمين: البعث والحزب العربي الإشتراكي، وتضمنت أسماء «مناضليه القدامى»، من فؤاد الركابي إلى عزة إبراهيم الدوري. ثمة إشارة تبدو مهمة، يوردها الكاتب، تلك التي تشير إلى الثغرات التي اعترت عمل الحزب، بعد توليه السلطة في العراق، وهو إذ يذكر ذلك، لا يذهب إلى حد مراجعة أسس البعث الفكرية، بل يكتفي «بتنزيه الحزب عما ارتكب باسمه»، خلاصة فيها الكثير من التبرير، الذي لا يحتمل واقع الحال غيره، ولعل البنية الفكرية لا تستطيع راديكالية تطيح بالكثير من المنطلقات التأسيسية. كخلاصة عامة، يمكن القول، أن كتاب عزيز الدوري يحفل بمعلومات تضيء على حقبة مهمة من السياسة في العراق، مرتبطة بشكل وثيق مع الحقبة العربية ذاتها عموماً. ومن الإشارات الدالة، أن الفكرة التغييرية العراقية لم تكن واحدة، بل توزعت على اتجاهات انقلابية، وأخرى تطورية، إذا صح التعبير، ومن اللافت أن الانقلابيين، من أبناء الاتجاه القومي والشيوعي، تقاطعت ممارساتهم، فكلهم أسس له حلقات في الجيش، ومارس الإقصاء والاستحواذ، ولجأ إلى التآمرية وغطى القمع والبطش، وشارك فيهما، عند الضرورات، ولم ينجُ تنظيم من التقلب والاستنسابية، بحيث كان لسان حاله: «بوسع سماء المبادئ أن تنتظر». * كاتب لبناني