في مرحلة مبكرة من عملية التحول في روسيا، كتبت صحافية أميركية بأسلوب ينم عن اعجاب الى حد ما، كيف أن رأسمالية "العراب" وهي تمر في مرحلة تطور في الاتحاد السوفياتي السابق، قامت في أساسها على سرقة ممتلكات الدولة. ومن المواقف التي شاهدتها الصحافية الأميركية روبن ترودي من صحيفة "فيلادلفيا انكويرر" ان الرأسماليين الناشئين يبدأون باستنزاف المؤسسات المملوكة للدولة... وذلك بتحويل أجزاء من مؤسسات الدولة ومصانعها الى "مؤسسات خاصة" صغيرة، وأحياناً الى مشروعات مشتركة مع الأجانب، ومن ثم "الاستيلاء على أرباحها". أما أقرب مثال للصحافية الأميركية فكان مترجمها الخاص، الذي اشترى شُحنات كاملة من الكتب من مدير مكتبة مملوكة للدولة مقابل ضعف أثمانها المحددة عليها، ليبيعها لاحقاً في الشوارع من خلال فريق من المتعاونين معه مقابل أضعاف ما دفعه هو في الأصل، معطياً كل من تعاون معه مبلغاً سخياً. وفي هذا السياق يقول أحد التجار صغار السن بصراحة: "اننا نقرأ كل القصص الأميركية، مثل "العراب The Godfather، فهذه هي المرحلة الأولى من الرأسمالية ولا يمكن تفاديها". وقد عبّرت الصحافية في نهاية الأمر عن ازدواجية بعيدة المدى حين قالت ان "السرقة من الدولة اما أن تيسر المرحلة الانتقالية نحو نظام جديد، أو تعجل في الفوضى وحسب. وان مستقبل الرأسمالية الروسية معلق عند الحد الفاصل بين الأمرين". وقد يصبح تمييز هذا الحد الفصل أصعب فأصعب عندما يمتد الأمر من مصادرة شخص كتباً لتحقيق أرباح شخصية، الى ان يشمل تحويل المعدات الطبية لمصلحة خاصة أو بيع صناعات بأكملها. وبينما يبقى عمال المناجم والعلماء والجنود والمتقاعدون من دون رواتب، تزدهر أحوال أصحاب الصفقات والمتاجرين في السوق السوداء. وفي الوقت الذي نقترب من نهاية العقد، فإننا نجد أنفسنا في موقف من القطبية الاجتماعية المشدودة، تزيده تعقيداً الأزمة المالية الحادة. ونجد على رأس السلطة عرّاب المرحلة الانتقالية السقيم وقد ازداد سلطوية شيئاً فشيئاً، العرّاب الذي بذل جهوداً حثيثة للحصول على قروض قصيرة الأمد من الغرب، بينما لم يبذل جهوداً مماثلة لتحقيق التنمية طويلة الأمد لدولته الجديدة. وبما أن الرئيس الروسي قد أضحى شيئاً من الماضي، فحتى أولئك الذين أيّدوا المرحلة الانتقالية سابقاً في روسيا أصبحوا منتقدين للاستراتيجية الغربية. وفي هذا السياق يرى جيفري ساكس الآن كيف أن سلسلة المساعدات المالية التي قدمها صندوق النقد الدولي ليست إلا وسيلة "للابقاء على حكومة فاسدة في ادارتها على قيد الحياة"، من دون إبداء أي اهتمام بما بدده نظام يلتسن "من عشرات البلايين من الدولارات من خلال تحويل شركات النفط والغاز المملوكة للدولة الى أصدقاء مقربين بأسعار مخفضة". أما المحصلة النهائية وفقاً لرئيس البرلمان المؤيد للرئيس يلتسن فهي "اننا فضلنا عبودية الدَين على التنمية". وكما يقول مايكل سبيكتر، وهو معلق غربي مؤيد عموماً للرئيس الروسي، حول المخاطر التي يغامر بها الرئيس يلتسن وبشكل موسع مناصروه الغربيون في قيادته لروسيا في هذه المرحلة الانتقالية "ان التخلص من الشيوعية لن يكون سطراً مؤسفاً في سيرة ذاتية. اما تسليم دولتك الى عصابة من المجرمين الجشعين فهو كذلك". بالطبع هذه ليست قضية رجل واحد، بل هي قضية دولة بأكملها، دولة من أكبر دول العالم ومن أكثرها اكتظاظاً بالسكان. وهي الدولة التي تمثل مرحلتها الانتقالية الحالية حداً حاسماً قد يتقرر به مصير معظم العالم في حقبة ما بعد الحرب الباردة. ان روسيا - في نهاية الأمر - هي أول حالة اختبار لاستراتيجيات الخوصصة، والسياسات النقدية المدعومة من الغرب. وهي أول حالة معالجة بالصدمة shock therapy، لا تحميها سوى ديموقراطية انتخابية ضعيفة. إن تقويماً متزناً للاستراتيجيات المطبقة في الحالة الروسية لأمر مهم للغاية لمن هم في العالم العربي، ممن يدفعون، بل في الحقيقة يواجهون ضغوطاً، من أجل تبني النموذج ذاته. لقد تبنى العديد من مجتمعاتنا العربية، ولأسباب تراوح بين المساعدة السوفياتية وتأثيرها وبين الاهتمام الاسلامي بالفقراء وما يمثله من تراث في حد ذاته، نموذجاً تنموياً أكثر انضباطاً، يشمل التخطيط وتركيبات دعم الهياكل الشعبية، التي أصبحت مرفوضة الآن تماماً من جانب مؤيدي النموذج الليبرالي الجديد. وقد كان الاتحاد السوفياتي، رغم قوته العسكرية الهائلة، دولة نامية ليس أكثر. لذلك فإن على الدول العربية أن تقوِّم سياسات ما بعد الحقبة السوفياتية وهل يمكنها أن تعطي أملاً ما للدول النامية؟ وعلينا أن نتذكر أيضاً ان الاتحاد السوفياتي كان جزءاً كبيراً من العالم الاسلامي، وان عواقب انهياره، ومستقبل الدول التي خلفته، بما فيها روسيا، تعطينا دروساً مهمة، وأن ما حدث سيؤثر في مستقبل العالم الاسلامي برمته. الصورة حتى هذه اللحظة لم تكن مشرقة تماماً. ورغم ان الاحصائيات الدقيقة غير متاحة بسهولة، لأن أنشطة اقتصادية واسعة أضحت تتم سراً لتجنب الضرائب، إلا أن بعض التقديرات يشير الى تراجع الانتاج الصناعي بنسبة 80 في المئة خلال العقد، واستثمارات رأس المال بنسبة 90 في المئة. أما أكثر التقديرات تفاؤلاً فترى أن النمو الاقتصادي أصبح موجباً بعدما كان سالباً، وهو يتأرجح حول 1 في المئة. ونحن نعلم، كما أخبرنا رئيس الوزراء السابق سيرجي كيرينكو بنفسه ان دفعات الديون تتطلب ضعف العوائد الشهرية للحكومة الفيديرالية وبمقدار 1.4. أما المساعدة المالية التالية من صندوق النقد الدولي، والمقدرة بنحو 22 بليون دولار أميركي، فسوف تعني بالطبع أخذ ديون جديدة لدفع الديون القديمة، وفي الوقت ذاته قبول شروط "جديدة" قد تعجل بانتشار أسوأ مجاعة جماعية يعرفها العالم منذ الحرب العالمية الثانية. ومهما اختلفت التعبيرات، فإن روسيا تمر الآن بأزمة مالية خطيرة. وتأتي هذه الأزمة في الوقت الذي تشهد فيه البلاد فترة طويلة وقاسية من الركود الاقتصادي، والتي قد لا تكون مثيلاتها دافعاً لمساعدات غربية اضافية، بل سبباً للسخرية والاستهجان والانتقاد في أي دولة في حقبة ما بعد الثورة. غير أن أسباب دعم الغرب لاستراتيجيات المرحلة الانتقالية في عهد يلتسن انما هي سياسية وايديولوجية بمقدار ما هي اقتصادية. فالغرب يقوده إيمان قوى ايديولوجية اقتصادية مسيّسة، أكثر من اهتمامه باجراء تقويم متزن للآثار الحقيقية للسياسات الاقتصادية. وكان الرئيس يلتسن الأمل الرئيسي لمواصلة ما أضحى يعرف بمسيرة التنمية الأميركية الليبيرالية الجديدة. ومن وجهة نظر الغرب فإن أبرز معارضي يلتسن كانوا اما مقيَّدين بنموذج شيوعي تصعب الثقة به، أو وطنيين رجعيين ومتخوفين مما سيكون. غير أن هذا التفسير يغفل مسؤولية السياسات المدعومة من الغرب، ومنهجية يلتسن في متابعتها، في خلق حالة الفوضى، التي كان يعتقد أن الرئيس يلتسن نفسه هو الحصن المنيع منها. كما يغفل هذا التفسير الأصوات الجديدة التي يمكن أن ترتفع بين الطبقات الاجتماعية القلقة. ولكن إذا ما أراد الغرب أن يتبنى استراتيجية بديلة ليست موضوعة لتجنب حالة الفوضى فحسب، بل لإزالة الأوضاع الاجتماعية المشوشة، فإنه يتعين عليه أن يتقبل نموذجاً انتقالياً وتنموياً دقيقاً. كما قد يتطلب ذلك أيضاً ظهور قيادة روسية جديدة تعطي لاحتياجات الشعب الروسي أولوية على الاهتمامات الدولية الاستثمارية عند وضع استراتيجية تنموية بديلة. وزير المالية البولندي السابق عبر عن ذلك مؤخراً بدقة حين قال محذراً روسيا من ان بلاده حين حاولت أن تتبع الأوامر الغربية الملحة "لتحرير الاقتصاد وانتهاج الخوصصة في أسرع وقت ممكن"، أدى ذلك الى "تفاقم الفقر والبطالة علاوة على التوترات الاجتماعية والسياسية". وأضاف الوزير البولندي انه "عندما توقفت بولندا عن التطلع الى المؤسسات المالية الدولية للموافقة" ونظرت الى مواطنيها البولنديين بدلاً من ذلك، وجدت أمامها طريقاً انتقالياً خالياً من العثرات. وقد ترتب على الموقف البولندي هذا أن رفضت بولندا التخلص من شبكات الضمان الاجتماعي، وواصلت دفع الرواتب والمخصصات التقاعدية. ويضيف الوزير البولندي: "اننا احترمنا مجتمعنا وواصلنا في الوقت ذاته مفاوضات صعبة مع المستثمرين الدوليين والهيئات المالية". وينبه الوزير البولندي الى أن على "روسيا والعالم أن يتفهما أن مصلحة عمال المناجم في سيبيريا بعيدة تماماً عن مصلحة مستثمري محافظ السندات المالية قصيرة الأمد، وهي أشبه ما تكون بمصلحة السمكة مقارنة بمصلحة صائدها... فاقتصاد يذهب 45 في المئة من ميزانيته الوطنية لخدمة الدَين الوطني المتزايد يوماً بعد يوم، واقتصاد لا يدفع اغنياؤه الجدد الضرائب المفروضة عليهم ولا يقوى فقراؤه الجدد على تلبية احتياجاتهم الأساسية، واقتصاد قد لا يعني ما قيل عنه يوم أمس شيئاً غداً، ليس اقتصاد سوق وانما هو فوضى". في الواقع، انه من غير الواضح كيف يمكن ل "آليات السوق"، حاضراً أو مستقبلاً، أن تحدد وصول المرحلة الانتقالية الروسية الى "اقتصاد السوق". وكما يقول ألكسي باير، وهو أحد المغتربين العائدين، عن روسيا الجديدة: "ان أكثر رجال الأعمال نجاحاً فيها ليسوا أولئك الذين ينافسون في الأسواق، بل في ردهات السلطة، فرجال الأعمال الأوائل في روسيا الجديدة فتحوا جمعيات تعاونية وحصلوا عل قروض بفائدة ضئيلة، لا تعطى إلا للمتنفذين. كما حققت المصارف الروسية الخاصة أرباحاً طائلة بفضل الأعمال الحكومية، ومن ثم... سُمح للمؤسسات المالية بأن تشتري الشركات الصناعية والتعدينية بثمن بخس لا يقارن بقيمتها السوقية الحقيقية في شيء. ان أقطاب الأعمال الروس منشغلون الآن بمشاجرات تافهة وبغيضة لجذب انتباه الرئيس يلتسن". ولكن ما علاقة هذا كله بفضائل "السوق"، وما علاقة هذا كله بالمخاطرة والمبادرة وانضباط الأسعار وغيرها؟ الكل متفق على أن الاقتصاد الروسي في حالة من الفوضى، غير أن الغرب لا يملك سياسة بديلة أو قيادة بديلة لمن تسبب في خلق هذه الفوضى. ويتفق الجميع على أن العواقب المحتملة أضحت أكثر خطورة من ذي قبل. وإذا كان هناك ما يدعو للخوف من ظهور أنماط وطنية رجعية، أو فاشية جديدة، أو شعبوية، فإن ذلك مرده الى أن سياسات عهد الرئيس يلتسن خلقت أوضاعاً تجعل ردة فعل كهذه أمراً لا مفر منه. ويحذر المغترب من أنه في الوقت الذي تستمر الخلافات المتأصلة بين نخبة رجال الأعمال، فإن "الفقر والاستياء أصبحا أيضاً متأصلين في معظم ارجاء الدولة، ولم يعد هناك نظام سوفياتي يضمن الاستقرار الاجتماعي... ولعل أكثر ما يقلق المستثمرين في روسيا اللهجة المتعالية بين عمال المناجم، والمعلّمين، والعمال المنظمين. فأولئك الذين كانوا يسمّون بالجماهير أضحوا يرون نصيبهم في النظام الروسي الجديد يتضاءل شيئاً فشيئاً". ونرى وزير المال البولندي السابق ينبِّه الى الحقيقة ذاتها، إذ يقول ان "أخطر تهديد قد يداهم روسيا هو أن تشهد ثورة مضادة ضد السوق، سببها الأوضاع القاسية، التي لها ما يبررها للشعب. وإذا ما تفهم الزعماء الروس هذا الخطر الآن، فقد لا يكون ذلك قد تأخر كثيراً. ولكن على الولاياتالمتحدة الأميركية وغيرها من الدول الصناعية الكبرى، وكذلك المؤسسات المالية الدولية وأسواق المال في وول ستريت، أن تتفهم ذلك أيضاً". وحتماً فإنه من الصعب ، بل من المتعذر على "القادة الروس" والأطراف الأخرى المذكورة هنا أن ينسحبوا من استراتيجية التزموها، مالياً وسياسياً وفكرياً وأخلاقياً. ولعل الأمل الأفضل لروسيا، ولغيرها من الدول النامية، أن تظهر قيادة شعبية مصممة على تحقيق أهدافها، وتعكس بعض الأصوات الواعية التي أوردناها هنا، كما تلتزم وضع سياسات "تحترم مجتمعاتها". * مؤسس "معهد الدراسة عبر الاقليمية لشمال افريقيا والشرق الاوسط وآسيا الوسطى" في جامعة برنستون.