تربط وسائل الاعلام في الآونة الأخيرة بين انهيار الاقتصاد الروسي، الذي يعاني من المتاعب منذ زمن، وتراجع اسواق الأسهم الأميركية. وهناك ما يشبه الاجماع بين السياسيين وخبراء المال والأكاديميين والمعلقين الصحافيين على ان ما تشهده روسيا، على رغم فداحته، لا يعدو في جوهره ان يكون أزمة مالية عابرة يعتمد علاجها على الثبات على سياسات الاصلاح التي يسير عليها الرئيس بوريس يلتسن منذ 1991. وكان الرئيس بيل كلينتون ونائبه آل غور اثناء زيارتيهما لموسكو حضا الروس على مواصلة "اصلاحات يلتسن"، أي الوصفة التي يصر عليها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وكل الخبراء والدوائر في الغرب، لا سيما وزارة الخارجية ووزارة المال الأميركيتين. محور هذه الاصلاحات هو التقشف في ما يخص الموازنة والضرائب، ودعم سوق الاسهم الروسية ونظامها البنكي والنقدي، اضافة الى خفض سعر الروبل وبعض المساعدات من الغرب. الافتراض العام كان ان هذه الاصلاحات تضمن الانتقال من نظام الاقتصاد الشيوعي الذي تديره الدولة الى رأسمالية السوق الحرة. لكنني أرى ان هذه الاصلاحات، كما يسمونها، لم تسهّل عملية الانتقال الى سوق حرة فاعلة، وربما كانت ألحقت ضرراً خطيرا بالاقتصاد الروسي والظروف المعيشية للشعب الروسي. انه الرأي الذي تتمسك به اقلية -- لكنها اقلية متزايدة - من الخبراء الأميركيين والروس، الذين يؤكدون ان الوصفات المالية الجاهزة لن تعالج الضعف الجوهري الذي ساهم في الانهيار الاقتصادي والوضع المعيشي المزري الذي يعاني منه الروس. البروفسور ستيفن كوهين من جامعة نيويورك، وهو من بين اهم الخبراء في المرحلة السوفياتية والوضع الروسي الحالي، كتب اخيراً أن "مشكلة روسيا الأساسية هي الانهيار الاقتصادي الشامل الذي لا سابق له. انه اقتصاد في زمن السلم تعرض خلال السنين السبع الماضية الى عملية تدمير متواصلة. وانخفض مجمل الانتاج المحلي بنسبة 50 في المئة على الأقل، بل هناك تقرير يقول ان الانخفاض كان بنسبة 83 في المئة، فيما انخفض استثمار الرساميل بنسبة 90 في المئة. وأيضاً، وهو مؤشر على المستوى نفسه من الأهمية، تراجع انتاج اللحوم والألبان بنسبة 75 في المئة. ولا ينتج البلد الآن شيئا يذكر عدا الطاقة، ويحصل على المواد الاستهلاكية عن طريق الاستيراد، خصوصا في المدن الكبيرة". اقتصاد الاتحاد السوفياتي الذي كانت تديره الدولة وصل الى شفير الانهيار بسبب الانفاق العسكري الهائل اثناء الحرب الباردة عندما كان ينافس الولاياتالمتحدة. وكانت نصف مساحة الاتحاد السوفياتي تعرضت الى الدمار اثر غزو هتلر له خلال الحرب العالمية الثانية. وبلغت خسائر السوفيات خلال تلك الحرب نحو 22 مليون من المدنيين والعسكريين. وكانت روسيا وقتها حليفنا الرئيسي، لكن الحلفاء لم يساعدوها على اعادة بناء اقتصادها بعد الحرب بسبب توجهها الشيوعي. المفارقة اننا بدل ذلك سارعنا الى مساعدة الدولتين العدوتين، اي المانيا واليابان، على استعادة اقتصادهما. من المؤكد ان تريليونات الدولارات التي انفقتها الولاياتالمتحدة خلال الحرب الباردة شكلت عبئاً باهظاً على دافعي الضرائب وعلى كل مواردنا وقوانا العاملة. لكننا دولة أغنى بكثير من الاتحاد السوفياتي، وخرجنا من الحرب العالمية الثانية القوة الاعظم في العالم، صناعياً وزراعياً وعسكرياً. حاولت روسيا بعد تلك الحرب منافسة القوة العسكرية الأميركية، لكنها كانت، عدا في ما يخص القوة العسكرية، دولة من العالم الثالث، ولم تستطع منافسة اميركا في المجالات الاقتصادية الأخرى. النتيجة كانت تعرض المواطن السوفياتي الى ظروف اقتصادية بالغة الصعوبة، حرمته من مستويات المعيشة التي تمتع بها الغرب على اصعدة الاسكان والتغذية واللبس والمواصلات وغيرها. أدى هذا الترافق بين الانفاق العسكري والسيطرة الاقتصادية والسياسية من قبل البيروقراطية الشيوعية الى رفض الجمهوريات السوفياتية ودول أوروبا الشرقية لسيطرة موسكو. واحتفل المراقبون الأميركيون والغربيون عموماً بتفكك الاتحاد السوفياتي ورفضه كنموذج اقتصادي باعتباره انتصاراً في الحرب الباردة التي استمرت نحو نصف قرن. وكان هذا بالفعل هزيمة للنظام السوفياتي، ساهم الاستراتيجيون الأميركيون الغربيون في الحاقها به من خلال ايصال سباق التسلح الى مستوى يفوق طاقة الاقتصاد السوفياتي. مع تحرر اوروبا الشرقية وتفكك الاتحاد السوفياتي اكدت الولاياتالمتحدة والدول الغربية على الروس ضرورة الاستعاضة عن الاقتصاد المركزي الذي تديره الدولة برأسمالية السوق باعتبارها الطريق الى الديموقراطية والرفاه. واستجابت موسكو للنداء بدءاً من ايام الرئيس ميخائيل غورباتشوف ثم عبر السنين السبع الأخيرة تحت قيادة يلتسن. لكن روسيا، لسوء الحظ، لا تملك خبرة تذكر في رأسمالية السوق، كما ان هذا النظام لم يثبت فاعليته على رغم كل محاولات غورباتشوف ويلتسن العمل حسب نصح الغربيين. وبدل اقامة "السوق الحرة" استعمل "الرأسماليون" الروس الجشعون حريتهم الجديدة للقيام بمضاربات هائلة الحجم في السوق السوداء وغير ذلك من الممارسات الاستغلالية، فانتشر الفساد في شكل لا سابق له، حيث تكدثت ثروات كبرى لدى قلة على حساب غالبية الشعب الروسي. وتراجعت في المقابل، الى حد الزوال في كثيرمن الاحيان، فرص العمل التي كانت تقدمها الدولة، وايضا الخدمات التي تكفلت بها في مجالات مثل الصحة والتعليم والاسكان، فيما توقف الكثير من الدوائر والشركات عن دفع الرواتب للعاملين. ويبدو الاقتصاد عموما في حال من التخبط الكامل وفقدان التوجه، فيما تتضاءل ثقة السكان به يوما بعد يوم. يقول البروفسور كوهين في نهاية تقريره: "كارثة روسيا الاقتصادية والاجتماعية وصلت حداً يحتم علينا التكلم عن تطور آخر لا سابق له: انه، بالحرف الواحد، تراجع بلد في القرن العشرين عن مرحلة الحداثة. فعندما تتفكك البنى التحتية للانتاج والتكنولوجيا والعلوم والمواصلات والتدفئة والمجاري، وعندما يحرم عشرات الملايين من الرواتب على ما يؤدونه من اعمال، وعندما يعيش 75 في المئة من السكان على مستوى الكفاف او دونه، ويعاني 15 مليوناً منهم على الاقل من الجوع، وعندما يتراجع معدل الاعمار لدى الذكور الى 57 سنة من الاسباب الرئيسية لهذا التراجع انتشار الادمان على الكحول، ويصبح سوء التغذية شيئا مألوفا بين تلاميذ المدارس، وتعود الى الظهور امراض واوبئة كانت اختفت، ويحتاج حتى المهنيون من ذوي الاختصاصات العالية الى زرع ما يحتاجونه للغذاء، ويقوم اكثر من نصف مجموع التبادل التجاري على المقايضة - فكل هذا وغيره يقدم دليلا قاطعا على "تحول" مأسوي الى الخلف، الى عصر سابق للعصر الحديث". وفي هذا الوقت الذي يكيل فيه الغرب المديح الى يلتسن لدوره في عملية "التحول" التي يقوم بها منذ سبع سنين ويحضه على مواصلتها، لا بد ان يشكل حكم البروفسور كوهين على الوضع صدمة مخيفة للقارئ. يقول كوهين: "حتى لو وقعت معجزة وعاد النمو الاقتصادي غداً فستحتاج روسيا الى عقود لكي تستعيد ما فقدته في التسعينات. لكن ليس هناك ما يمكن ان يعيد الملايين الذين انهى هذا "التحول" حياتهم". كان من الطبيعي لاستراتيجيي الحرب الباردة الأميركيين ان يبتهجوا لسقوط الاتحاد السوفياتي. مع ذلك يبدو لنا الآن ان وجود نظام اقتصادي اجتماعي ما، مهما كان سيئاً، أفضل من انعدام اي نظام. فالفوضى ليست البديل المناسب للتخطيط الحكومي. ان وضع ما بعد الاتحاد السوفياتي وما بعد الحرب الباردة لا يتطلب ما يسمونه رأسمالية السوق، بل نظام الاقتصاد المختلط الأكثر عملية، من بين عناصره الدعم والادارة من قبل الدولة اضافة الى قدر اكبر من الاستثمارات الغربية والمساندة للنظام الأقل تسلطاً الذي يحاول النهوض في روسيا. ربما كان الأفضل لروسيا، بدل فرض نموذج ريغان - ثاتشر للسوق الحرة، ان تتبع طريقاً مشابهاً لسياسة "الصفقة الجديدة" التي اتبعها الرئيس فرانكلين روزفلت، او الاقتصاد المختلط الذي سارت عليه الدول الاسكندنافية وغيرها من الديموقراطيات الاشتراكية في أوروبا الغربية. ان الحد الأدنى المطلوب من صانعي السياسة الأميركية تخفيف حماسهم لاجراءات يلتسن "الاصلاحية" التي ترى اعداد متزايدة من الروس انها لا تحمل لبلدهم وحياتهم سوى الدمار. من الأفضل للمصالح الأميركية والروسية على حد سواء التركيز على نوعين من انواع الدعم الأميركي: الأول، تمويل برامج تشغيل للعاطلين عن العمل في روسيا في حقول الفيزياء النووية والهندسة والتقنيات، من اجل اعادة برامج الابحاث والتطوير بما يخدم انظمة المواصلات، من ضمن ذلك الطرق والجسور والسكك الحديد والكومبيوتر والبيئة وانظمة المياه والمجاري. ولن يؤدي هذا الى تقوية الاقتصاد الروسي فحسب، بل سيرفع مستوى معيشة السكان العاديين، ويخفف من خطر لجوء العلماء والباحثين الروس الى تسويق مهاراتهم الى الاعداء المحتملين للولايات المتحدة ورافضي السلام بين الشعوب. ثانياً، علينا استعمال فائضنا الزراعي لاطعام 15 مليون روسي يتعرضون للمجاعة، من ضمن ذلك برامج للوجبات لتلاميذ المدارس. من شأن مشروع كهذا مساعدة المزارعين الأميركيين الذين يعانون من انهيار اسعار منتجاتهم بسبب فائض الانتاج الزراعي. كما ان اطعام الجياع واجب اخلاقي تحض عليه كل الاديان. واستطيع القول انني، بصفتي سفيراً للولايات المتحدة الى وكالات الأممالمتحدة في روما المكلفة مكافحة الجوع في انحاء العالم، اضع روسيا على رأس قائمة الدول المحتاجة الى المساعدة الغذائية العاجلة، خصوصا وان ذلك لا يعني المساهمة في انقاذ روسيا من تعاستها فحسب بل مساعدة المزارعين الأميركيين وعائلاتهم المكافحين من اجل الرزق. عدنا، انا ورئيس الغالبية السابق في مجلس الشيوخ الأميركي روبرت دول، الى تحالفنا القديم عندما كنا سوية في المجلس، الداعي الى "المزاوجة" بين الفائض الزراعي الأميركي والجوع في انحاء العالم، بغض النظر عن العرق او القومية، ما يأتي بالفائدة على الأميركيين كما الروس، والأفارقة مثل الآسيويين. * سناتور ومرشح سابق للرئاسة الاميركية من الحزب الديموقراطي. حالياً سفير الولاياتالمتحدة لدى منظمة الاغذية والزراعة الدولية في روما.