باختصار شديد : روسيا أفلست. الرأسمالية في سنواتها العشر لم تسعفها الا بقدر ما نجحت الاشتراكية في سنواتها السبعين في اسعافها. اللعنة الروسية عادت تعمل بنشاط، لكن الترسيمة هذه لا تختصر المشكلة والمسؤوليات. فالدولة لم يمكن استخلاصها من توازن قبضاتٍ كل واحدة منها تعادلها قوةً وجبروتاً: مليونيرية الانفتاح الجديد والمافيات، زعماء المناطق كالجنرال ليبيد، الجيش، الشيوعيون... كذلك لم يمكنها أن تجمع ضرائبها وتؤمّن عائداتها. الدولة استحالت واقتصاد الدولة استحال تالياً، فلما جاءت الأزمة الآسيوية وقل الطلب على النفط، انكشف افلاس اقتصادٍ كان عاجزاً عن دفع المرتبات والأجور. الدولة استحالت، أما السلطة فلا. رئاسية يلتسن الاعتباطية كانت مثلاً صريحاً على ذلك. الدولة الديموقراطية، اذن، كانت ابطأ من السوق وأبطأ من السلطة في آن. هكذا غدا الروس حيال سلطة من دون دولة، وحيال اقتصاد من دون دولة. نتائج العولمة فعلت فعلها من دون التاريخ والمسار اللذين افضيا الى العولمة في الغرب: الدولة الديموقراطية لم تتشكل أصلاً لكي تنحل، بل حوفظ على شيء من استبدادية السلطة السوفياتية التي أضيف اليها اقتصاد السوق. تأكد، مرة أخرى، أن حرق المراحل ليس نافعاً دائماً. كون النخبة الروسية لم تراجع تجربة بلدها التاريخية التي وجدت تتويجها في الشيوعية، لعب دوره في التمهيد للهبوط العام الى الدرك الحالي. المراجعة اقتصرت على الاقتصاد والتحول الرأسمالي، وعلى السلطة والمواقع فيها. النقاش في التسيير حل محل النقاش في الأصول. هذا غذى ويغذي الميل الشعبي الى التنصل من المسؤوليات، وتصعيد نبرة العداء للغريب وتحميله ما يحل بروسيا من اخفاقات. والآن، مع حكومة تشيرنوميردين التي يفترض تشكيلها في اية لحظة، تُطرح الحلول: في السياسة، الحد من صلاحيات الرئيس يلتسن الذي قد يستقيل وقد.... إشراك الشيوعيين في الحكومة بحقائب ثلاث ربما. أما في الاقتصاد فالاحتمالات المرجحة خطيرة: تأميمات للمصارف، طبع عملة بما يجعل التضخم فلكياً ويخل بشروط الاقتراض من المؤسسات الدولية البنك الدولي، صندوق النقد.... الرائحة دولتية، والعلاقات مع العالم الخارجي على سكّة التردي. والسؤال: هل ستكون الدولتية الموعودة مع تشيرنوميردين من المصاف الروزفلتي ابان الكساد الأميركي للثلاثينات، مصحوبة بمصالحة وطنية عامة لا بد ان ينعكس فيها وزن الشيوعيين، أم أن "الحمر تحت الأسرّة"، وهم "حمر" لا يزالون ستالينيين الى حد بعيد، وربما كان من هم أخطر من الشيوعيين تحت الأسرّة: فاشيون على أنواعهم؟ في هذه الحال الأخيرة لا بد من أسئلة للمستقبل القريب: ماذا عن الترسانة النووية، عن البلدان التي انفكت عن الاتحاد السوفياتي السابق، عن أوروبا الوسطى والشرقية التي أصبح بعضها في الأطلسي، وماذا عن الصين، بل ماذا عن احتمالات تجدد الحرب الباردة بعد حين يطول او يقصر؟ تفاؤل العالم كان مسؤولاً بالطبع، والخفّة الثورية، الديموقراطية والرأسمالية هذه المرة، كانت مسؤولة أيضاً. لكن المسؤولية الأولى تبقى روسية، والجمرة، أولاً وأساساً، ستكوي الجسم الروسي الثقيل، قبل ان تتعداه الى الأجسام الأخرى. فإلى أين ستأخذ موسكو نفسها هذه المرة، بعد كل ما فعلته بنفسها، وبالعالم، في هذا القرن القصير؟