نورهان الشيخ صناعة القرار في روسيا والعلاقات العربية - الروسية مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1998 132 صفحة خلال عقد التسعينات دخلت روسيا الاتحادية أتون تجربة فريدة في تاريخ الدول في العالم، فقد تحولت من دولة عظمى الى دولة عادية، لكن فاعلة في الاطار الدولي بشكل نسبي. وهذا التحول لم يكن شبيهاً بما حدث لكل من الامبراطوريتين الانكليزية والفرنسية بعد أفول عهد الامبراطوريات وسيادة عهد "الاستقلالات" في دول العالم الثالث. وذلك لأن انكلترا وفرنسا بعد فقدانهما مستعمراتهما في آسيا وافريقيا ومناطق أخرى من العالم، استمرتا بوصفهما قوتان لهما ثقلهما في الحسابات الاستراتيجية العالمية في عهد الحرب الباردة وفي عهد القطب الواحد أو في عهد عالم متعدد الأقطاب. وتأتي فرادة التحول في النموذج الامبراطوري الروسي أو "امبراطورية الشر" حسب التعبير الأميركي من عدد من السمات الخاصة بروسيا، التي وصفها ماركس ذات مرة بأنها "سجن للشعب"، وبتاريخها وتراثها وبناها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وتتضح هذه السمات لدى دراسة عملية صنع القرار في روسيا على مختلف الصعد وفي مقدمتها، ما هو مرتبط بالسياسة الخارجية والصراع في الشرق الأوسط وإعادة صياغة العلاقات العربية - الروسية على أسس جديدة بعد زوال السحر الايديولوجي الذي كانت تنعم به موسكو سابقاً. استندت نورهان الشيخ في دراستها لعملية صنع القرار الروسي الى عدة مقولات رئيسية هي: الدور المحوري للرئيس في عملية صنع القرار، ومحدودية تأثير الأحزاب وجماعات المصالح، والرأي العام الروسي، والصحافة، والكنيسة في هذه العملية، مقابل التأثير الملحوظ، الذي يعتد به، للغرب بصفة عامة وللولايات المتحدة بصفة خاصة في عملية صنع القرار الروسي، والأثر المحتمل لعودة العلاقات الروسية - العربية بكل مضامينها على هذه العملية. شملت هذه الدراسة تعريفاً ببيئة صنع القرار في روسيا واطارها الدستوري، مع تبيان طبيعة الثقافة السياسية الروسية، وبنية التكوين الاجتماعي لروسيا، وواقع الحياة الاقتصادية في روسيا. وتعريفاً بالرئيس يلتسن من خلال عرض أهم مراحل سيرته الذاتية وفوزه بالرئاسة مرتين متتاليتين، وحالته الصحية، والأهم من ذلك صفاته ونمط اتخاذه للقرارات الهامة استناداً الى قدراته الذاتية من جهة، وسلطاته الواسعة جداً من ناحية أخرى، التي ضمنها له دستور 1993، التي تجعله قيصراً بلا تاج. ولدى عرض العوامل الداخلية المؤثرة في عملية صنع القرار الروسي، الممثلة ب "الحكومة بتكويناتها واختصاصاتها، والبرلمان بمجلسيه مجلس الفيدرالية ومجلس الدولة - الدوما واختصاصاته وسلطته المقلصة لصالح سلطة رئيس الدولة، وهامشية النخبة السياسية وأحزابها ذات التلاوين الايديولوجية المختلفة، ومحدودية دور جماعات المصالح، وضعف تأثير الرأي العام الجماهيري والصحافة والكنيسة، تتبدى خطورة الاعتقاد أننا أمام نموذج ديموقراطي غربي قيد التكوين في روسيا، فهذا الاعتقاد خاطئ لا تؤكد صدقيته العلاقة القائمة بين الرئيس وحكومته وبين الرئيس ومجلس النواب، فهذه العلاقة القائمة راهناً تدفع للاعتقاد ان ما حدث في روسيا الاتحادية في عهد يلتسن هو استمرار لما كان يحدث في عهد ستالين وقبل ذلك في عهد القيصر، اي ان ما حدث هو تجديد لسلطوية الفرد ممثلة بالقيصر في العهد الامبراطوري والأمين العام للحزب الشيوعي في العهد السوفياتي والرئيس في عهد الدولة الفيدرالية - الديموقراطية. وتجديد التوتاليتارية الفردية في نموذجها الروسي لم يتم بفضل النصوص الدستورية فحسب بل بوجود بيئة ثقافية ومحدودية تأثير الأحزاب السياسية الجديدة والصحافة والرأي العام ومنظماته، هذه المحدودية في التأثير كانت نتاجاً للعهدين القيصري والسوفياتي الستاليني والبرجنيفي اللذين جعلا الأمة الروسية متقوقعة على ذاتها. وفي العهد اليلتسني كان لانفتاح روسيا على العالم وتحديداً على العالم الغربي، وإعادة صياغتها لعلاقاتها مع الولاياتالمتحدة الأميركية وألمانيا الموحدة وبريطانيا وفرنسا، تأثير بارز في تدعيم سلطة الفرد في روسيا، حيث أن الدول الغربية أكدت في مناسبات مختلفة دعمها للرئيس يلتسن في مواجهة خصومه ومنافسيه الداخليين، بينما لم يكن للعلاقات الروسية الجديدة مع جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق ومع القوى الآسيوية وخاصة الصين واليابان أثر ملحوظ في تدعيم سلطة الرئيس بل حاول يلتسن استخدام هذه العلاقات في سياق تأكيد بقاء روسيا قوة عظمى وانتهاج سياسة مع هذه الدول تشبه الى حد ما سياسة الاتحاد السوفياتي السابق. أما العلاقات الروسية - العربية التي كان لها أولوية في سلم أولويات السياسة الخارجية السوفياتية، فقد تراجع بعدها الايديولوجي في عهد يلتسن، وتمت عملية إعادة صياغتها على أساس المصالح الحيوية الروسية في الشرق الأوسط على النحو التالي: "أولاً: تأمين حدودها الجنوبية، ومنع أي صراعات في المنطقة قد يكون لها آثار سلبية في أمنها القومي. ثانياً: جذب المساعدات والاستثمارات العربية - وبخاصة الخليجية - لمساعدة روسيا في التغلب على أزمتها الاقتصادية. ثالثاً: تنشيط العلاقات الاقتصادية والتجارية بين روسيا والوطن العربي، والحصول على المعاملة التفضيلية، وبخاصة مع بلدان الخليج باعتبارها أغنى بلدان المنطقة. رابعاً: تنشيط تجارة السلاح الروسية، حيث يعتبر الوطن العربي سوقاً لمثل هذه التجارة". كما نشطت علاقات روسيا مع حلفاء الأمس سورية - مصر - العراق... وتميز هذا النشاط بوضوح، مؤخراً، على محورين هما: عملية السلام في الشرق الأوسط، وقضية العقوبات الدولية المفروضة على العراق منذ حرب الخليج الثانية. وهذا النشاط تعبيراً عن الدور المحوري الذي يلعبه الرئيس يلتسن في رسم السياسة الخارجية الروسية ازاء الشرق الأوسط. لكن محدودية تأثير الدور الروسي في عملية السلام، رغم كون روسيا أحد راعيي هذه العملية، وكذلك الحال بالنسبة للشأن العراقي توقعت المؤلفة استمرار "التراجع النسبي للأبعاد السياسية في علاقة روسيا بالمنطقة العربية مع تصاعد الاهتمام بالأبعاد الاقتصادية والعسكرية. وان المدخل الحقيقي للنفاذ العربي الى دائرة صنع القرار في روسيا والتأثير فيها هو اقامة علاقات اقتصادية وعسكرية قوية مع روسيا، والوطن العربي قادر على ذلك بما لديه من رؤوس أموال، وبما يمثله من سوق واسعة للسلع والأسلحة الروسية". واستخلصت المؤلفة من بحثها لعملية صنع القرار الروسي وجود "استقلالية في صنع القرار السياسي الروسي، وان سلاح المساعدات والمعونات له حدود في التأثير في عملية صنع القرار في روسيا وبخاصة إذا ما تعلق الأمر بمصلحة اقتصادية مباشرة أو بالأمن القومي الروسي ... وعلى الرغم من تركيز السلطات والصلاحيات المختلفة في يد رئيس الجمهورية، والضعف النسبي للقوى السياسية الأخرى - بما فيها البرلمان - إلا أن هذه القوى لها تأثيرها في بعض القضايا الحساسة مثل قضية جزر الكوريل". ولذلك دعت الى اقامة علاقات عربية - روسية على أسس سياسية واقتصادية وعسكرية وثقافية نظراً لأن روسيا "ما زالت احدى القوى الكبرى الفاعلة والمؤثرة في النظام الدولي الراهن، ولها مواقفها التي تتسم بدرجة ما من الاستقلالية في مواجهة غيرها من القوى الكبرى". هذه الدعوة رغم تدعيمها بمعلومات غزيرة حول عملية صنع القرار السياسي الروسي إلا أنها لم تستند الى تحليل عميق لتاريخ العلاقات العربية مع روسيا ابتداء من العهد القيصري، مروراً بالعهد السوفياتي، وصولاً الى العهد اليلتسني من جهة، ومن جهة أخرى تجاهلت المؤلفة عدم وجود قرار عربي موحد ازاء سياسة عربية موحدة تجاه موسكو. غياب هذا التحليل العميق، لا ينتقص من قيمة الجهد الذي بذلته نورهان الشيخ في تقديم صورة تفصيلية لعملية صنع القرار في روسيا. ففي هذا الأمر أهمية كبيرة تساعد على تهيئة المعلومات الضرورية لرسم سياسة عربية ازاء موسكو وتجديد العلاقات العربية - الروسية على أسس جديدة.