ليس النظام اللغوي السائد في لبنان بأضلاعه الثلاثة، العربية والفرنسية والانكليزية، امراً طارئاً، وانما هو جزء لا يتجزأ من تاريخ هذا البلد، ارتبط به، وترافق معه بحركاته وسكناته وتغلغل في تكويناته الاجتماعية والثقافية وعمق فيها الفواصل السياسية والطائفية والايديولوجية التي ما زالت عصبياتها تعصف بهوية لبنان الوطنية. واليوم يبدو ان اللبنانيين يتجهون الى التحلل مما خلفته تلك العصبيات الموروثة ويتطلعون الى ما يملكونه من رصيد لغوي كبير بغية توظيفه واستغلاله والارتقاء به الى آفاق مستقبلية جديدة تقتضيها حتمية الانفتاح على العصر وعلومه ولغاته وأسواقه وحضاراته وتكنولوجياته. سيما وان لبنان يعد نفسه لأداء دور ريادي في مشروعات السلام الواعدة تمهيداً، ربما، لانطلاقه في رحاب العولمة التي باتت هاجس الدول كبيرها وصغيرها لمواجهة ما تفرضه من تحديات. فالمشهد اللغوي في لبنان قائم في ثلاثة معاقل كبرى الجامعات الاميركية واليسوعية واللبنانية تختلف نشأة وتوجهاً وغايات ويرتبط كل منها بشبكة من المدارس والمعاهد والكليات والمؤسسات الثقافية. وتتفاوت بتأثيرها وحضورهما وانتشارها، وتنتمي اثنتان منها الى منظومتين لغويتين عالميتين الفرنكوفونية والانكلوسكسونية تمدانهما، خلافاً لپ"المنظومة العربية" بكل مقومات الحياة والبقاء، وتحرصان على تزويدها بأرقى الاساليب والابحاث والتقنيات علاوة على ما تهيئان من فرص عمل في كل بقعة يمتد اليها ظلهما وتأثيرهما ونفوذهما. انطلاقاً من هذه المعطيات تطرح التعددية اللغوية اشكالات وتساؤلات من ابرزها: - ان التعددية اللغوية التي تتقاطع مع موقع لبنان الاستراتيجي كمفصل تجاري وحضاري عالمي لا تقتصر بالضرورة على حصرها بالفرنسية او الانكليزية الى ما شاء الله كلغتين اجنبيتين قائمتين الى جانب العربية، اللغة الأم، ذلك ان الافق العالمي ينذر باطلالات واعدة لبعض اللغات العملاقة الاخرى، كالصينية واليابانية والاسبانية وغيرها مما قد يضاف الى الفسيفساء اللغوي اللبناني او يحل مكان بعضه او ينافسه، تماماً كما جرى لاختفاء العديد من اللغات الاجنبية كالايطالية والألمانية والروسية التي تقاسمت لبنان القرن التاسع عشر لتستقر اليوم على ثنائية فرانكو - انكلوفونية ما زالت هي الاخرى تتقاسم البلاد والعباد، افراداً وجماعات ومؤسسات ومناطق وطوائف. - تشير معظم الدراسات والابحاث والآراء المعنية بالشأن اللغوي طرحت النهار اخيراً جانباً هاماً منها الى انه علاوة على انتشار اللغات الثلاث في مختلف المناطق اللبنانية والمدارس والجامعات الرسمية والخاصة ولدى الطوائف وشرائح النخب المثقفة، وان بنسب متفاوتة، فان اللغة الفرنسية تشهد انحساراً وتراجعاً ملحوظين من تلك المواقع التي كانت لفترة خلت حكراً عليها، لصالح ما تبديه اللغة الانكليزية من تغلغل لافت وحضور مميز في تلك المستويات جميعاً، الامر الذي ينبئ عن دلالات وتحولات عميقة باتجاه تخفيف وطأة الهيمنة اللغوية التي كانت تنسحب على الطوائف وتصنف بها على غرار ما كان شائعاً، الفرنسية للمسيحيين والانكليزية للمسلمين. - تقف وراء الثنائية الفرنسية والانكليزية كتلتان لغويتان عالميتان تحرص كل منهما، وهذا امر طبيعي، على التمدد والتنافس والنفوذ بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة احياناً للدفاع عن مصالحهما وبقائهما واستمرارهما طالما تؤتيان اكلهما وترفدان الحياة السياسية ومؤسساتها في الحكم والادارة برموز من هذه المنظومة او تلك. فعلى سبيل المثال كان معظم رؤساء الجمهورية اللبنانية من خريجي الجامعة اليسوعية في حين يتعاظم اليوم تمثيل خريجي الاميركية في المناصب الوزارية والادارية ذات الطابع التكنوقراطي. الا ان ما يخشى منه، وهذا ما يثير الدهشة، ان يقع لبنان تحت تأثير هاتين الكتلتين اللغويتين ويتخلى عن هويته اللغوية الرسمية على غرار المرسوم الذي اصدرته الحكومة منذ ثلاث سنوات وأجازت بموجبه اعادة تعليم الرياضيات والعلوم في المرحلة الابتدائية باحدى اللغتين الفرنسية او الانكليزية بعد ان كانتا تدرسان بالعربية طيلة عهود الاستقلال. - تطرح المسألة اللغوية جانباً اجتماعياً خطيراً يتمثل في انحراف التعليم العالي نحو اتحاد طبقي فئوي نخبوي حاد في ضوء ما تعانيه الفئات الشعبية وبقايا الطبقة الوسطى من تفاقم الاوضاع الاقتصادية والظروف المعيشية الصعبة. فالراغبون في متابعة تحصيلهم الجامعي باحدى اللغتين الفرنسية او الانكليزية ينصرفون حكماً، وجلهم من الطبقات الغنية والميسورة، الى احدى الجامعتين الاميركية او اليسوعية او ما يماثلهما، في حين تبقى الجامعة اللبنانية، ولغتها العربية ملجأ للفقراء الذين يتخرجون منها برصيد لغوي ضئيل قلما يسمن او يغني من جوع، ويقتصر دورها على تخريج اشباه الاميين باللغات الاجنبية الذين سرعان ما ينضمون الى قوافل العاطلين عن العمل الامر الذي يهدد السلم والأمن الاجتماعيين. ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق: العربية الى أين؟ ثمة مؤشرات تدل على ان العربية في واقعها الراهن هي اضعف الحلقات في الثلاثية اللغوية القائمة في لبنان، وهي الى ذلك في تدن مستمر ولا يتناسب حضورها مع ما تؤدي من عطاء وتأثير وفعالية، وظلها الى انحسار في التعليم الخاص والرسمي كما في التعليم الجامعي، وتعامل كالقاصرات من بني جلدها والخصوم. فهل تدفع هذه الصورة القاتمة باتجاه تهميش العربية وتضاؤل الحاجة اليها واستحالة الاستفادة من توظيفها في اسواق العمل؟ باختصار ليست العربية بخير وهي في خطر كذلك. ومهما يكن من امر، فالتعددية اللغوية ما تزال مسألة شائكة، شديدة التعقيد ولا تحكمها مقاييس معينة، يتداخل فيها الذاتي والموضوعي وهي مثار خلاف واشكالات بين الباحثين والمتخصصين بالشأن اللغوي، ولكنها ليست بأي حال كماً لغوياً يكدس ولا ارثاً ماضوياً يقدس. * كاتب لبناني