يعود مصطلح الفرنكوفونية الى أواسط القرن التاسع عشر وقد ابتدعه الجغرافي الفرنسي أونزيم روكلو، الا انه لم يكتمل في فحواه حتى الستينات من القرن الحالي، حين أراده القيّمون عليه تميزاً حضارياً وثقافياً في تفاعل بنَّاء يهدف الى تواصل عبر اللغة الفرنسية بين الشعوب الناطقة بها كليّاً أو جزئياً. وتأسست في هذا الإطار عام 1961 في مونتريال - كندا، حيث يوجد مقرها، "رابطة الجامعات الناطقة جزئياً أو كلياً باللغة الفرنسية" وهي إحدى أقدم المؤسسات الفرنكوفونية، وتبعتها جامعة شبكات التواصل الفرنكوفونية"، بالإضافة الى مؤسسات ومنظمات أخرى. وتتبدى الفرنكوفونية على مشارف الألف الثالث للميلاد ضرورة للعولمة وهي تفرض التجمع والتحالف للحفاظ على التنوع والديموقراطية واحترام التباينات في زمن تحوّل العالم الى نمطٍ ثقافي واستهلاكي واحد. من هذا المنظار تصبح الفرنكوفونية أرض التلاقي. انها من هذا القبيل لقاحٌ ونافذة مفتوحة على مدى التواصل العالمي. من هنا الاهتمام الكبير بالتظاهرة الثقافية الدولية التي شهدها لبنان أخيراً، 1998، في إطار انعقاد الجمعية العامة الثانية عشرة لرابطة الجامعات الناطقة كلياً أو جزئياً باللغة الفرنسية أوبلف وجامعة شبكات التواصل الفرنسية أوريف التي تجتمع مرة كل أربع سنوات وذلك في قصر اليونيسكو في بيروت. هذه الأحداث الثلاثة هي: انتخاب مجلس إدارة جديد، ومؤتمر دولي حول "العولمة والفرنكوفونية" و"المعرض الأول للإبداع العلمي". واستضاف لبنان حوالي ستمائة مشارك أتوا من أنحاء العالم هم رؤساء وعمداء جامعات ومدراء مؤسسات بحثية يمثلون أكثر من أربعمائة مؤسسة تعليمية وبحثية عليا في العالم. ورعى رئيس الجمهورية اللبنانية، الياس الهراوي، الجلسة الافتتاحية بحضور رئيس مجلس ادارة الأوبلف - اوريف ميشال جرثي ورئيس الأوريف ميشال غيلو والأمين العام للفرنكوفونية بطرس بطرس غالي ونائبة - رئيس الفيتنام، التي تتولى رئاسة الفرنكوفونية تي بنه نغوين ورؤساء الجامعات اللبنانية الأعضاء في الأوبلف - أوريف الذين تكلم باسمهم رئيس الجامعة اللبنانية الدكتور أسعد دياب مشدداً على أن لبنان هو أرض اللقاء المميزة ذات موقع على خريطة الفرنكوفونية... بالإضافة الى حشدٍ من الرسميين العالميين واللبنانيين. وألقى الفيلسوف الفرنسي ميشال سير Michel Serres المحاضرة الافتتاحية في الجمعية العامة مستشرفاً الآفاق الجديدة التي تطرح بنفسها على الإنسان الجديد في الأزمنة الحديثة، فتقنيات الاتصال التي تهيمن على عالمنا الحاضر تجعلنا نسبح في بحر معرفي واسع، بينما كانت المعرفة في السابق مركزة في أماكن محدّدة ومكتبات. لذا أصبح انسان نهاية القرن الحالي متحرراً من عبودية الذاكرة. فبفعل الحاسوب فقدنا شيئاً من ذاكرتنا، وكذلك قُدرتنا في الحساب بفعل الحاسبات الآلية. لكن هذا التحول الجذري في نمط وأسلوب حياتنا وطريقة وجودنا يستلزم اجراء جردة بالخسارة والمنافع. فحين وقف الإنسان على رجليه فقد بلا شك بعض المميزات في فمه ويديه لكنه اكتسب قدراتٍ ومهاراتٍ أخرى، أبرزها في التعبير والابتسام والنظرة "الى البعيد". بذلك تتحول الخسارات الى منافع... واليوم أصبحت المعرفة شيئية وذات موضعة وهي في كل مكان. وهذا يقتضي اعادة النظر بتجديد ماهية الإنسان الذي أصبح على حدّ تعبير ميشال سير Michel Serres على غرار ديونيسيوس ممسكاً رأسه بين يديه!... وفي مناسبة الجمعية العامة عقد أكثر من اثنتي عشرة شبكة بحثية صحة، زراعة، علوم، آداب، أعمال... جمعيات عمومية أو اجتماعات موسعة لمكاتبها وذلك في مقر الجامعات، اللبنانية والقديس يوسف والروح القدس والبلمند. وتسعى هذه الشبكات جميعها الى تنفيذ توجهات القمم الفرنكوفونية بهدف التحديث والتنمية والامتياز. وهي تؤدي بفضل توازن تكوينها الجغرافي بين الشمال والجنوب وتنوع اختصاصاتها، مهام تبادل الخبرات ونقل المعلومات وتنظيم مؤتمرات وتنمية البحوث المقارنة على المستوى الدولي. وتمّ أيضاً افتتاح المعرض الأول للإبداع العلمي الذي يهدف الى تقويم الإبداع في المجال العلمي الفرنكوفوني وإطلاق دينامية جديدة للتعارف بين المؤسسات الأعضاء وخلق تواصل للمعرفة وللمهارات ولبناء شبكات تعاون. ثم افتتح رئيس النواب اللبناني نبيه بري أعمال المؤتمر العالمي "الفرنكوفونية والعولمة" الذي اشتمل على ثلاثة محاور: "رهانات وتحديات العولمة"، "تنمية القيم وعقد تحالفات"، "اعادة تشكيل الجامعة". وتمحورت اشكالية المؤتمر حول فرض العولمة على مجتمعاتنا تحولات بالعمق من اعادة تحديد للقيم وللعلاقات ولوظيفة التعليم العالي والبحث في مطلع الألف الثالث للميلاد. فبعد محاضرتين تمهيديتين الأولى لجورج روس من جامعة هارفرد بعنوان "الأمم والأممية والعالمية في نهاية القرن العشرين" تساءل فيها عن تطور دور الأمم كمحرك فاعل للعالمية، من خلال الإشكالية التالية: كيف يستطيع المواطنون ممارسة دور ديموقراطي في إطار عالمي وتحالفات دولية وشركات متعددة الجنسيات وأسواق رأسمالية؟، والثانية للأب سليم عبّو رئيس الجامعة اليسوعية في بيروت التي تناولت موضوع "اعادة النظر في اشكالية الخصوصيات" حيث ركز المحاضر على استحالة الرجوع عن العولمة التي هي سيرة تاريخية مستقبلية. إلا انه أكد ان ايديولوجية العولمة وما تحمله من رموز تتمايز عن الواقع الراهن ما يقتضي اعتماد قراءة نقدية للعولمة في ما تحمله من مكونات متعلقة بالثقافة والهوية الوطنية. وشدّد عبو على تمايز الإستراتيجية الكلية في انتشار الإنكليزية عن استراتيجية الفرنكوفونية القائمة على الإثراء الثقافي المتبادل. ثم انعقدت الجلسة الأولى التي رأسها كوملافي فوفولي سده Komlavi Fofoli Sedoh، رئيس قسم العلوم التربوية في منظمة اليونيسكو واشتملت على خمس مداخلات تمحورت حول الوسائل الجديدة التي يجب اعتمادها في قضايا اقتصادية وسياسية وبيئية وقضايا التنوع والهوية. وترأست الطاولة المستديرة الثانية رينه سيمار Renژ Simard رئيسة جامعة مونتريال التي اهتمت بموضوع احياء القيم وبناء التحالفات. فانطلاقاً من مقولة ان تحالف البلدان والتجمعات توفر بناء على قواعد سياسية ولغوية وثقافية، تفسيراً لكثير من مسارات اليوم، شدّد هذا المحور على أن هذه التحالفات توفر كذلك خيارات متعددة تجاه هيمنة تختزل المجتمع. والفرنكوفونية مثال على ذلك. فهي تسعى الى مجالات تعاون مبنية على قيم مشتركة وتنمية التعددية اللغوية والحوار الذي يحترم مختلف الحضارات. أما المحور الثالث والأخير للمؤتمر الذي اهتم باعادة تأهيل الجامعة، وايجاد الجامعة المعلوماتية، فتطرق الى موضوعات مواكبة الجامعة للعولمة والاندماج فيها أو ابداع انماط جديدة في العمل. فبعض الأشكال التنظيمية الجامعية بحاجة الى اعادة نظر وتكيّف مع الأبعاد الجديدة بغية التأثير عليها. ما يحتم مضاعفة صيغ التعاون بين الجامعات وتحديث اشكال نقل المعارف وترشيد وسائل الاعلام وتدويل مجالات عدة في التأهيل والشهادات. واختتم المؤتمر وزير الخارجية اللبناني فارس بويز ورئيس بعثة الاحتفاء بالعام 2000 - فرنسا جان - جاك ايلاغون الذي شدّد على ان الفرنكوفونية لا تنظر الى العولمة وكأنها المظهر الأخير للشر. بل انها تنظر الى هذه الظاهرة التي تميّز الألف الثالث بثقة كاملة مع يقينها بقدرتها على ممارسة دور ضروري وجوهري من خلال سعيها الى أن تكون بين الفاعلين السياسيين لانفتاح العولمة على التعاون والتضامن، عارضاً للوصايا الجديدة للاجتماع المعولم. وفي الختام منحت جائزة محمد الفاسي للعام 1997 في مجال الطب المداري مناصفة للبروفسور دومينيك بودون من معهد الطب المداري، قسم صحة الجيوش - فرنسا، وللشبكة الفرنكوفونية للدراسات والأبحاث العصبية المدارية. وتمّ انتخاب مجلس ادارة جديد برئاسة ارثور بودسون Arthur Bodson، الرئيس الفخري لجامعة لياج - بلجيكا وعضوية كل من اللبنانيين اسعد دياب رئيس الجامعة اللبنانية والأب انطوان خليفة رئيس جامعة الروح القدس الكسليك بالإضافة الى اسماء عالمية أخرى. مرمى الحدث إذن هو الدفاع عن الثقافة الحرّة وانفتاح العقل والتعاون من التأصّل بالثقافة الوطنية حتى يتم الحوار والتفاعل بين الشعوب المختلفة. فالفرنكوفونية خيار عيش يكتشف من خلالها الإنسان عبر ثقافة الآخر إمكانات للوجود، فيتحول بها الى الرقي الحق، خالقاً بذلك مجارٍ فاعلة في سيرورة التاريخ ينقل بواسطتها غناه التراثي عبر لغة إنسانية ساهمت في صوغ القيم والتصورات الفكرية مضيفةً الى الإنسانية مفاهيم جديدة، هذه التظاهرة الفكرية التي شهدها لبنان جاءت لتؤكد ان اللغة الفرنسية لم تعد حكراً على فرنسا وحدها، بل على كل من ينطق بها كلياً أو جزئياً.