منذ بدأت السلطنة العثمانية تتهاوى وهي آخر جامع مرجعي للجماعات في العالم العربي الاسلامي، انطرحت مسألتا الهوية والتعددية في لبنان ومناطق من المشرق العربي، وإن بمسميات مختلفة وفي مراحل متتابعة وتحت مظلة شعارات مختلفة كاللامركزية والاستقلال السوري ثم اللبناني جرى تطبيق نظام خاص لحكم محلي في مساحة موسعة من جبل لبنان تحت مسمى المتصرفية، برضى العثمانيين وتدخلات مجموعة دول اوروبية. ولم يطرح شعار التعددية بشقيه السياسي والثقافي بشكل واضح ومحدد في سوى مقررات مؤتمر سيدة البير الذي عقدته "الجبهة اللبنانية" عام 1977، وهي التحالف المناهض للتحالف الفلسطيني - اللبناني في بدايات الحرب الاهلية. ويعاد طرح شعار التعددية في ايام السلم اللبناني الراهن مقتصرا على الجانب الثقافي مع تسليم بالوحدة السياسية للبلد الصغير. والمسألة الثقافية في لبنان الحديث لعبت دوراً في وعي خصوصيات معينة وفي إرساء طموحات الى تكريس تمايز يسمح بتعددية ذات طموح سياسي. فبسبب موقع لبنان على الشاطئ الشرقي للمتوسط وطبيعته الجبلية الغالبة جرى النظر اليه كملجأ لجماعات راحلة او هاربة، وقد تزايد عدد المسيحيين في جبل لبنان في نهايات عصر المماليك حتى صاروا اكثرية وطبعوا الجبل بطابعهم، وتحقق اتصال نخبهم بأوروبا الناهضة والافادة من التعليم الاكليروسي في اجادة اللاتينية واليونانية ولغات عملية كالفرنسية ولاحقا الانكليزية. اهتمت المدارس الاكليروسية ايضاً بحركة الإحياء العربي جنباً الى جنب حركة الإحياء في مصر، وبدأ في الظهور ما يسمى بالعروبة اللغوية، لتعقبها العروبة الحضارية في مواجهة السلطنة العثمانية، وتطور الامر الى عروبة ذات ملمح سياسي في مواجهة نزعة التتريك في السلطنة حين كانت آخذة في الضعف والتهاوي. واستطاعت النخب اللبنانية ان ترافق التوسع الاوروبي في المشرق العربي وفي مصر والسودان في دور مترجمين، ثم مساهمين في نشر الفكر الحداثي المعبر عنه آنذاك بالعروبة. وكان نشاط هذه النخب في بلاد الشام ومصر يبدو متناقضاً، فمناهضة السلطنة العثمانية في المشرق هدفت الى الهوية العربية العامة واللامركزية أو الاستقلال. لكنها في مصر بدت متعارضة الى حدّ ما مع المشاعر الثقافية الوطنية للمصريين التي تعاطفت مع السلطنة كمرتكز فعلي أو وجداني لمجابهة الاحتلال الانكليزي، وهو احتلال كانت النخب اللبنانية المسماة ب"الشامية" ترى في قيمه قيم حداثة فتصمت عن كونه احتلالاً وقليلا ما تعارضه. كانت النخب اللبنانية آنذاك تلعب دورا ثقافيا لتحديث الشرق يضمر تقليد التقدم الاوروبي وتوسيع مجال حريات الجماعات والأفراد، لكن العروبة اللغوية فالحضارية فالسياسية لم تستطع الارتكاز الى مركز او هيئة عربية جامعة، وإن لعبت مصر هذا الدور في فترات قليلة من القرن العشرين وكان لدورها معوقات عدة ذاتية واقليمية ودولية. وأدى فقدان المركز الى تضييق رقعة اهتمامات النخب اللبنانية الحداثية فتعززت هجرتها الى خارج العالم العربي بدلا من استمرار التوجه الى مصر وتوجهت الى فرنسا والى الولاياتالمتحدة والارجنتين والبرازيل لتدخل دورة نشاط ذات تأثير في الوطن الأم عبر تعضيد الهيئات العروبية السياسية، أو عبر الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي حصل مؤسسه انطون سعادة معظم ثقافته في البرازيل، أو عبر تعضيد الهيئات الداعية الى استقلال ناجز للبنان، وقد عاد البعض الى لبنان ليتولى احياناً مناصب قيادية في الدولة. وهذه الاشارة التاريخية العابرة ضرورية لفهم الحركة الخاصة للنخب الثقافية اللبنانية. ولابد من الملاحظة ان هذه النخب في معظمها كانت ريفية غير مدينية، فالاتصال بأوروبا، اي بالحداثة، تم مباشرة من جبل لبنان ومدارسه الاكليروسية التي قلدها ايضا المسلمون الجبليون بمدارس منفتحة على الثقافة العربية الاسلامية ثم انفتحوا في مرحلة المدارس الارسالية على الثقافة الانكلوسكسونية والاميركية للتوازن مع الارساليات الكاثوليكية. الاتصال بالحداثة الاوروبية بدأ في الريف اللبناني الجبلي قبل المدينة التي كانت لا تزال تلبس اللبوس العثماني. ولم تدخل مدينة كصيدا ثم بيروت عصر المدارس الاوروبية والاميركية في سوى مرحلة لاحقة عقب الحروب الاهلية الريفية في جبل لبنان بين الدروز والموارنة، وعقب الاختلال الأمني في المناطق المسيحية من الجبل بسبب الانتفاضات الفلاحية التي كسرت تحكمّ الاقطاعيين مستفيدة من رياح الثقافة الحديثة الأوروبية ومقلدة غالباً قيم الثورة البورجوازية الفرنسية. مثقفون حداثيون ريفيون، بقيت جذورهم في العائلة والطائفة والمنطقة في وقت تبنيهم الأفكار الحداثية. الازدواج لم يكن ملفتاً ومؤثراً حين كانت دورةُ اهتمامهم واسعة تطاول مجال العروبة الواسع، فلما انحصرت دورتهم في إطار المشرق العربي ثم في إطار لبنان الجبلي ولبنان الدولة بحدودها الحالية بعد اتفاقية سايكس بيكو أصبح الازدواج واضحاً بيّناً، وتفرع التعبير الثقافي في مستويات عدة، متناقضة حيناً ومتضايفة في أغلب الأحيان. هذه المستويات هي الدين معبراً عنه غالباً بالمذهب المتفرع، ومستوى المنطقة أو الجهة بحسب التعبير المغاربي، ومستوى العشيرة، ومستوى اللغة معبراً عنها بالمبالغة في النحت الجمالي للنثر العربي وبوضع مسافة بين اللغة والموضوع يمكن تسميتها مسافة الجمال، فاتجهت الكتابة االى الاختصار الشعري وابتعدت عن السرد الذي يمكنه وحده التعبير المباشر والواقعي والدرامي أيضاً، هذا الاستخدام الجمالي المتثاقف للغة أفقد الكتابة اللبنانية طابع الشهادة الحية عن المجتمع وتطوراته. المستويات هذه كما قلنا تظهر في شكل زمر ولا تظهر فرادى، يؤثر بعضها في البعض الآخر ويهيمن عليه في كثير من الأحيان، وقد هيمن تعبير العشيرة، مثلاً، قبل سنوات قليلة لدى مبادرة الكنيسة لحل صراعات دموية بين عائلتين - عشيرتين في بلدة بشرّي المارونية، مسقط رأس جبران خليل جبران، فلم يستطع البطريرك الماروني ان ينجح في التوسط والمصالحة، في حين تمت المصالحة بنجاح بعناية أحد شيوخ العشائر المسلمة في منطقة البقاع الشمالي. هكذا، في حالة محددة، تغلب المستوى العشائري على المستوى الديني- المذهبي في الثقافة الشعبية، معتمداً تقليد المصالحة في البيئات القبلية والعشائرية والذي يستطيع ايقاف مسلسل الثأر الدموي و إشعار العشيرتين المتقاتلتين عبر طقوس معينة بجوهر التصالح القائم على حفظ الكرامة الجماعية وتجاوز عواطف الضحية والمعتدي. موقع لبنان المنفتح والتفاعل بين النخب الثقافية المقيمة والمهاجرة وتأثيرها الواضح في المؤسسات غير الحكومية كالمدارس والجامعات والصحافة والجمعيات الأهلية، هذه العناصر جعلت المتغيرات الثقافية تتسارع وتتناقض وتتصارع أحياناً. ولم تجد هذه المتغيرات مرجعية في المحيط العربي القريب بل كان هذا المحيط نفسه يزيد من قلقها، خصوصاً بعد نكبة فلسطين والانقلابات العسكرية ثم الوحدة المصرية السورية والانفصال والصراعات الاقليمية العربية - العربية وفورة النفط التي أحدثت تغييرات في قيم كثيرة في مقدمها قيمتا العلم والعمل. وكان للكيان اللبناني، الذي قام على مبدأ الاعتراف بالجماعات الدينية والمذهبية، أن يتضمن بالضرورة هامش حريات يوفرها هذا الاعتراف، هكذا دخلت الجماعات التقليدية - الطوائف، والجماعات الجديدة - الأحزاب في الصراع العربي - العربي، فضلاً عن دخولها الطبيعي في الصراع العربي - الإسرائيلي الذي يعتبر لبنان طرفاً أساسياً فيه، لم يواجه بالحرب في 1967 وفي 1973 لكنه أصبح قلب هذا الصراع منذ 1978 احتلال إسرائيل الأول لأجزاء من جنوبلبنان ولا يزال. في القلق الذي يرجّ مجتمعاً صغيراً منفتحاً وقائماً على الاعتراف بين جماعاته، بدا صعباً التفريق بين الوهم والحقيقة بالنسبة الى مسائل كالتعددية السياسية والتعددية الثقافية. فلا أعراق مختلفة في لبنان بوجه عام وواضح، ولا لغات وطنية مختلفة إذ الجميع يعتمد العربية فصحى وعامية بشكل طبيعي لا بشكل مفروض، ولا بيئات متباعدة تسمح بنشوء مناخات ثقافية شعبية متمايزة عن بعضها البعض. هذه العوامل تجعل من التعددية السياسية أمراً في غير مكانه. والواقع أن هذا المطلب لم يطرح في سوى حمّى الحرب الأهلية ووجود شعور بالخلل والخوف على كيان قام أساساً على التوافق والاعتراف، وتولى هذا الطرح مثقفون مقاتلون على رأس طرف يناهض الوجود العسكري والسياسي الكثيف لتحالف الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية. والواقع أن شعار التعددية السياسية كان يتراجع مع تراجع العمليات الحربية، لكن شعار التعددية الثقافية بقي قائماً. ومن المفترقات المهمة لهذا الشعار أن مقررات مؤتمر الطائف التي أرست أسس السلام الحالي في لبنان اعترفت بحرية التعليم، وقد نوقشت هذه الحرية واعترض عليها بعنف بعض المشاركين في الطائف باعتبارها أساس التعددية الثقافية في لبنان، لكن النقاش انتهى الى الإبقاء عليها، وساهمت القيادة السورية ذات التأثير الأساسي في لبنان قبل الطائف وبعده في الإبقاء على حرية التعليم هذه. لكن حرية التعليم ليست تماماً سبيل التعددية الثقافية، بل هي تكريس لانفتاح لبنان على لغات وثقافات عالمية، يعطيه غنى وثقة في حال حفظ شخصيته الثقافية كجزء من الشخصية الثقافية العربية المتنوعة البيئات، ويمكن حفظ هذه الشخصية باستمرار النتاج الأدبي والفني وتشجيع الثقافة الشعبية في مظاهرها جميعاً. وتدمير الثقافة الشعبية في لبنان لم يكن دائماً بأيدي دعاة التعددية الثقافية والتفريق بين الجماعات، وإنما ويا للأسف بأيدي دعاة الوحدة، سواء الوحدة العربية أم الوحدة الإسلامية، فدعاة الأولى كانوا غالباً تجريديين شعاراتيين وفي ما يشبه العسكرة الفكرية للمجتمع كانوا يخنقون مظاهر الثقافة المحلية اليومية، أما دعاة الوحدة الاسلامية فكثيراً ما يتميزون بالتشدد الايديولوجي وينهجون نهج البلاشفة الأولين في روسيا، وقد عمد فريق منهم هو حزب الله اللبناني بقوة السيطرة وأحياناً بالزجر المسلح الى منع المظاهر الفولكلورية المحلية في الأعياد والأعراس والمآتم والمناسبات الشعبية. ولعل الأغنية اللبنانية التي انتجها أعلام كالأخوين رحباني سابقاً وزياد الرحباني حالياً هي التي لعبت الدور الأساسي في تكريس الجامع المشترك للوجدان الشعبي في لبنان، وما هو مشترك مع الوجدان الشعبي في العالم العربي القريب والبعيد. إن الدعوات الى الوحدة كما قدمها العروبيون وكما يقدمها الاسلاميون اليوم أدت وتؤدي الى تدمير الروابط الموحدة بين الجماعات في لبنان والمشرق العربي، ولحسن الحظ فقد فشل الوحدويون في تدمير تلك الروابط الموحدة، وصار لزاماً بعد التجارب المريرة إبدال شعار الوحدة بشعار التعارف والاعتراف، خصوصاً أن التاريخ العربي الإسلامي يتطلب قراءة في ضوء هذا الشعار، كي يصبح تاريخنا المتنوع منبعاً لسلامة حاضرنا وتقدمه بدل أن يُستخدم كما هو اليوم منبعاً لاستيراد شعارات جزئية من الماضي وإضفاء القداسة عليها واستخدامها في تدمير الثقافة الشعبية أو خنقها، ما يعني محو شخصية المجتمع وبالتالي إضعافه وجعله مؤهلاً فقط للاستهلاك: أتكون الايديولوجيات الوحدوية التجريدية سبيلاً الى محو شخصية المجتمع حتى إذا أتت العولمة وجدت مستهلكين لا يجمعهم جامع ملموس؟ في هذا الإطار لا بد من إعادة قراءة لأدبيات الحرب اللبنانية المديدة، باعتبارها نموذجاً للأدبيات غير المعلنة في المشرق العربي، بهدف التفريق بين الوهم والحقيقة في هذه الأدبيات، وحفظ السلام الاجتماعي والوطني لبلدان المشرق العربي التي تعاني مباشرة من وطأة الوجود العدواني الإسرائيلي وافتقاد المرجعية وسيادة افكار وحدوية تخنق بتبسيطها الثقافة الشعبية في مختلف تنوعاتها. كان لبنان ولا يزال مختبراً للمشرق العربي، وما هو معلن فيه مضمر عند غيره في المشرق. لكن قراءة المختبر اللبناني لم تحصل بعد، فيما هي واجبة أمام اجتياح العولمة والخطر الإسرائيلي، كي لا تصبح العولمة سبيلاً الى مزيد من التسلط والتجاهل والتبسيط باسم مقاومتها، وكي لا يصبح الخطر الإسرائيلي سبيلاً الى إسكات حياة البشر وفنونهم وشخصيتهم الثقافية باسم أنه لا صوت يعلو فوق صوت المعركة. إن حفظ الثقافة العربية في بيئاتها المتنوعة وعدم الحجر عليها وإعاقة نموها، هو واحد من السبل ليكون للعرب موقع في عصر العولمة الذي يشكل تحدياً ثقافياً الى جانب التحديات الاقتصادية والسياسية. وسوف تكون الثقافة العربية قادرة على الحضور والإشعاع في العالم إذا لم يخنقها الايديولوجيون المتعسكرون في المهد، وهذا ما حاولوه في لبنان ويحاولونه في المشرق العربي وغيره باسم شعارات وطنية أو مقدسة. رئيس القسم الثقافي في "الحياة". النص أعلاه ورقة مقدمة الى مؤتمر "العولمة وقضايا الهوية الثقافية" - المجلس الأعلى للثقافة ، القاهرة 12 - 16 نيسان ابريل 1998.