ما من مشاهد للفيلم الاميركي "الإلياذة" إلا استبشع واستنكر أن يسمع "أغا ممنون" يعبّر عن الموافقة بقوله. OK أوكي، أي "وهو كذلك"، واتخذ ذلك دليلاً على العجز الملحوظ في الأفلام الاميركية عن التزام روح العصر الذي تُصوره. غير أن الأمر قد لا يكون بهذه السهولة بصدد أفلام كفيلم يوسف شاهين الأخير "المصير" الذي يتناول عصر الفيلسوف الأندلسي ابن رشد، والذي كانت اللغة المستخدمة فيه هي العامية المصرية. اعتبر بعض النقاد ذلك من الجوانب السلبية للفيلم، وقالوا: "إن استخدام العامية المصرية فيه حرم المتفرج من فرصة الاستماع الى كلام جميل فصيح بلغة عربية راقية كما كان يتكلم مثقفو الأندلس في عصر حقق كل هذا الازدهار في اللغة والأدب والشعر. ومن المؤكد أن تصوير شخصية ابن رشد كان لا بد أن يكون أقرب كثيراً من الحقيقة لو أنه تكلم بعربية فصحى كما كان يتكلم فعلاً، وأن روح العصر كله كان يمكن أن تصل الى المتفرج بشكل أقرب الى الدقة لو استخدمت لغة العصر نفسه". ومن حقنا، وواجبنا، إزاء هذا الانتقاد للفيلم وصاحبه أن نتساءل عن حال اللغة في الاندلس في زمن ابن رشد. المعروف أن العرب الذين اشتركوا مع البربر في فتح الاندلس كانوا ينتمون الى اقطار مختلفة، والى قبائل عدة لم تكن كلها تتكلم لهجة واحدة. وانعكس ذلك بالضرورة على لغة الكلام في الاندلس التي أضحت على زمن ابن رشد غابة متشابكة من اللهجات، بينها اختلافات عدة ضخمة، فكانت لهجة أهل غرناطة مثلا تختلف في ملامحها الصوتية والدلالية عن لهجة أهل قرطبة، ولهجة أهل قرطبة عن لهجة أهل بالنسية. كان أهل المدينة أو الاقليم - من مثقفين وعامة - يستخدمون اللهجة المحلية في التخاطب في ما بينهم، حتى إذا ما انبرى الفلاسفة والأدباء والشعراء للكتابة لجأوا الى الفصحى، تماماً كما نفعل اليوم. وبذلك اندثرت معرفة تلك اللهجات العامية لدى أهل العصور التالية، وظن بعضهم أن الفصحى المستخدمة في كتب التراث التي وصلتنا من ذلك العهد كانت لغة التخاطب العادي بين الناس. وظل هذا هو الحال حتى اكتشف المستشرقون في نهاية القرن التاسع عشر ديوان زجّال الاندلس الأعظم ابن قُزمان القرطبي، فأماطوا اللثام عن لغة الكلام في قرطبة على الأقل. وابن قزمان هذا معاصر لإبن رشد توفي العام 1160 ميلادية حين كان ابن رشد في الرابعة والثلاثين، ومن بلدته نفسها قرطبة. فإن أحببنا أن نطّلع على نموذج من كلامه كي نتعرف على لهجة مثقفي عصره وبلدته، ومنهم ابن رشد، ولغة التخاطب عندهم، سُقنا المثال التالي من ديوانه الذي نشره المجلس الأعلى للثقافة في مصر العام 1995: "يا مُجيً سَعْدِي يضحك ويولولْ ومُضي قَرْدي قدّامي يَغزّلْ كنْ أخد عاده بلبسه محوّل كِفْ رأى بالله إعادُه يُبَرّع؟" فهل كان يمكن ليوسف شاهين أن يستخدم مثل هذه اللهجة في حوار الفيلم؟ وأية لهجة عامية كان بوسعه أن يلجأ إليها غير العامية المصرية أكثر اللهجات شيوعاً في العالم العربي؟ وأضيف في الختام أن ظاهرة اختلاف لغة التخاطب عن الفصحى لم تكن مقصورة على الاندلس، ولا على العالم العربي في العصر الحديث. فهي معروفة حتى في العصر الجاهلي عصر المعلّقات في شبه الجزيرة العربية، حين كان الناس يسمون الأغنية "لحناً" أي خروجاً وانحرافا عن مقتضيات العربية الفصحى التي اعتبروها نموذجاً مفروضاً، ومثلاً أعلى على كل شاعر أو كاتب أن يقتفيه. وهو ما يدفعنا الى الاعتقاد أن الفصحى لم تكن في أي وقت من الأوقات لغة التخاطب بين الناس، حتى في زمن الرسول والخلفاء الراشدين، بَلُه في الأزمنة التالية. * كاتب مصري