في أواخر شهر أيار (مايو) 1997، خرجت الصحف المصرية وبعض الصحف العربية الأخرى، بعناوين عريضة مفادها ان دورة ذلك العام لمهرجان «كان» السينمائي منح سعفته الذهبية لفيلم «المصير»... وعلى الفور فيما بدأت أفلام تمتدح الفيلم وصاحبه على اعتبار أنه أدخل السينما العربية، من جديد، في «العالمية»، راحت أفلام أخرى، في مصر وخارجها، تشن الهجوم المعتاد: «فيلم «المصير» يساير الغرب وهو يمالئ الصهيونية ولولا هذا لما كان حقق أي فوز!». كانت الأسطوانة المعهودة في كل مرة يحقق فيها مبدع عربي، سينمائي أو غير سينمائي، فوزاً في الخارج. غير أن هذا كله لم يكن مفيداً يومها، لا للذين امتدحوا الفيلم و «فوزه الكبير»، ولا للذين أغاظهم ذلك «الفوز» واعتبروه إطلالة على زمن العالم لا يريدونها على الإطلاق... وذلك لأن فيلم «المصير» لم يفز في «كان» يومها بأية جائزة خاصة به. صحيح أنه كان مشاركاً في المسابقة الرسمية، وأن معظم الذين شاهدوه رأوا انه، حقاً يجدد، شكلاً ومضموناً وأجواء ولغةً سينمائية ليس فقط في السينما المصرية والعربية ككل وينهل من قلب التاريخ شخصية فكرية عربية فذة (الفيلسوف الأندلسي ابن رشد)، غير أن الفيلم لم يفز لا بالسعفة الذهبية ولا بغيرها. كان يوسف شاهين هو الذي فاز وعن مجمل إنتاجه السينمائي. أما الجائزة فكانت واحدة من أرفع الجوائز التي منحها مهرجان «كان» لفنان مشارك فيه، طوال تاريخه. والحكاية هي أن المهرجان اعتاد أن يمنح في عام تحمل دورته رقماً مدوراً، جائزة كبرى لمبدع من كبار مبدعي السينما في العالم. وكان قد فعل ذلك في الدورة العشرين للمهرجان حين أعطى «سعفة العشرينية» للمخرج السويدي الكبير انغمار برغمان. ولما كان عام مشاركة يوسف شاهين بفيلم «المصير»، العام الخمسين لانطلاقة المهرجان، أي لوبيله الذهبي، قرر أهل المهرجان عامذاك أن تمنح «سعفة الخمسينية» ليوسف شاهين، مكافأة وتتويجاً لعمله السينمائي ككل. وعلى هذا يمكن القول ان شاهين بعد برغمان حصل في ذلك العام على واحدة من أكبر الجوائز التي منحها لمبدع في تاريخه. وهي جائزة لن تمنح ثانية إلا في الدورة الخامسة والسبعين، أي بعد 12 سنة من الآن. غير أن توضيح سوء الفهم الذي أحاط العام 1997 بمسألة حصول شاهين، أو حصول فيلمه، على السعفة الذهبية، يجب ألا ينسينا أبداً أن فيلم «المصير» كان فيلماً كبيراً، وان جمهور «كان» من أهل السينما في شكل عام، أو من النقاد، استقبله استقبالاً طيباً، معتبراً أن صاحب «الأرض» و «العصفور» عرف هنا مرة أخرى كيف يمزج اللغة الفنية باللغة الفكرية، والسيرة الغاربة بالسيرة الذاتية، وكيف يطل على الماضي العربي المجيد من خلال زمننا الراهن، كما أطل على هذا الزمن الراهن من خلال الماضي ودروسه. ولعل علينا هنا، قبل أي شيء آخر ان نقول ان فيلم «المصير» يمكن اعتباره واحداً من أهم الأفلام التاريخية في السينمات العربية، كما انه واحد من أهم الأفلام السياسية المعاصرة. للوهلة الأولى، إذاً، يحاول «المصير» ان يقدم سيرة ما، لأبي الوليد ابن رشد، المعتبر واحداً من أكبر الفلاسفة في الفكر العربي والإسلامي، كما انه من كبار المفكرين الذين ربطوا بين الفكر اليوناني القديم (من خلال شروحاته المنطقية على أرسطو، والسياسية على أفلاطون)، والفكر المعاصر في زمنه... غير أن الجمهور، «النخبوي» أول الأمر، الذي اندفع لمشاهدة «المصير» وهو يتطلع للتعرف الى تفاصيل حياة ابن رشد وفكره وكيف يمكن الفنّ السابع ان يقدمهما، أدركوا بسرعة، كما أشرنا يومها، الى ان «المصير» ليس تماماً الفيلم الذي كانوا يعتقدون وينتظرون. وبسرعة أيضاً فهموا ان البيئة الحقيقية التي يتحدث عنها الفيلم ليست بالتمام اندلس القرن الثاني عشر، بل هي مصر وربما العالم العربي كله، في القرن العشرين أو في شكل أكثر تحديداً، اللحظة الانعطافية بين القرن العشرين وما يليه. والحقيقة أنه نادراً ما كان تمكن فيلم عربي قبل «المصير» من أن يتأرجح بين الماضي والحاضر كما فعل «المصير»، ونادراً ما كان تمكن فنان قبل شاهين من أن يقيم ربطاً بين العام والخاص كما فعل صاحب «المصير». ومع هذا فإن ما نراه على الشاشة هو «ابن رشد» ومدينة قرطبة و «الخليفة المنصور» وبضع شخصيات، عربية واسبانية وغير ذلك، تضعنا منذ لحظات الفيلم الأولى في قلب القرن الثاني عشر بزهوه وقسوته، بآلامه وتناقضاته، القرن الذي يعبّر شاهين عن نظرته اليه والى ازدهار التاريخ العلمي العربي فيه بكل بساطة ومباشرة. فمن ناحية لدينا هنا عند بداية الفيلم، مفكر فرنسي يدعى جيرار بروي، يحرق بأمر من السلطات المدنية والكنسية في اقليم اللانغدوك الفرنسي، تحديداً لأنه متأثر بمؤلفات «الكافر» ابن رشد ويؤلف على منوالها. وبروي يحرق مع كتبه ومع مؤلفات ابن رشد في الوقت الذي يقرر فيه ابنه جوزيف ان يتوجه الى مدينة قرطبة الأندلسية ليتابع رسالة والده الفكرية وتتلمذ هو الآخر على صاحب «فصل المقال». وهكذا يتيح لنا انتقال يوسف من اللانغدوك الى قرطبة، مكانة يقيمها شاهين بين «عصر الظلمات» الأوروبي، وعصر التنوير العلمي العربي في الأندلس، حيث إن مرور يوسف في سوق قرطبة، سيضعه أو يضعنا، (نحن المتفرجين طبعاً) على تماس مباشر مع حضارة تُشترى فيها كتب الفكر في الساحات العامة، ويتنافس فيها طلاب العلم الفقراء على شراء الكتب والمخطوطات مع الخليفة وكبار أعيان المدينة. وبعد ذلك عندما ينضم يوسف (جوزف) الى حلقة الأهل والأصدقاء المحبطة بابن رشد، تكون النقلة قد تمت وترسم أمامنا على الفور صورة العلاقة بين المثقف والمدينة، ومن ثم بينه وبين سلطة المدينة في أندلس الموحدين، وهذه العلاقة سرعان ما تقودنا بالطبع الى علاقة ابن رشد بالخليفة المنصور لنكتشف مدى التداخل بين الفيلسوف والحاكم ونمط العلاقات (حتى العائلية) التي تربط بينهما. انطلاقاً من تلك اللحظة، يدخل الفيلم في تشابكات العلاقات السياسية والفكرية، ويروي لنا حظوة ابن رشد لدى الخليفة، ثم محنته ومحنة الكتب والفكر معه، حين تتحول الأمور السياسية من وضع يحتم على الحاكم سؤال المثقف والتحالف معه، الى وضع تنتفي فيه الحاجة الى ذلك. وفي هذا السياق، من الواضح ان فيلم «المصير» اعتباراً من تلك اللحظة لا يعود فيلماً تاريخياً، يتصرف في العلاقات والشخصيات بعض الشيء، بل يبدأ المزج والخلاف وذا الدلالة بين التاريخ وزمننا الراهن، لينقل الينا رسالته الرئيسة. إذ هنا مرة أخرى، من الواضح ان درس التاريخ ليس هو ما يهم يوسف شاهين مرة أخرى ليس التاريخ بالنسبة الى شاهين أكثر من ذريعة لرحلة مكوكية بين الماضي والحاضر، رحلة ستشتغل في شكل أساسي من طريق اللغة، إذ هنا لن يبدو من البراءة بمكان ان يكون يوسف شاهين قد اختار العامية المصرية اداة التعبير في الفيلم. إذ كان في وسعه أن يختار عربية فصحى بعض الشيء، للوهلة الأولى للوصول الى حل تقني بحت. بيد أن نظرة معمقة الى «الخطاب» الخفي للفيلم، سيكشف لنا الدور الرئيس الذي أُريد للغة النطق في الفيلم أن تلعبه. إذ اننا ان أغمضنا أعيننا واستمعنا الى الحوار سنفاجئ أنفسنا وقد دخلنا زمن الراهن مباشرة. وأكثر من هذا ها هو شاهين، في الفيلم، ومباشرة بعد محاولة قتل الشاعر مروان، يجعل محاول قتله، الشاب المتطرف، يتلفظ أمام ابن رشد، القاضي الذي يحاكمه، بالعبارات نفسها التي تلفظ بها في تسعينات القرن العشرين في مصر ذلك الشاب المتطرف الذي طعن نجيب محفوظ في عنقه محاولاً قتله. لقد كان واضحاً انطلاقاً من هذا المثل ان يوسف شاهين انما وقف، في هذا الفيلم، في قلب الراهن المصري والعربي. ومن هنا عبثاً نحاول أن نعثر في كتب التاريخ المعتمدة على سيرة لابن رشد تشبه ما شاهدناه في الفيلم. والحقيقة ان هذا البعد لم يسهُ عن بال وإدراك كبار النقاد العالميين الذين حيّوا الفيلم في «كان» 1997 وصفقوا له... لكنهم فهموا ان السعفة يجب أن تذهب، هذه المرة، لا الى الفيلم نفسه بل الى مبدعه. [email protected]