لعل اللحظة الأكثر زهواً في تاريخ «عالمية السينما العربية»، كانت تلك التي شهدت في دورة العام 1997 لمهرجان «كان» السينمائي، منح السينمائي المصري الراحل يوسف شاهين ما سمّي يومها ب «جائزة خمسينية المهرجان». ولقد تزامن هذا مع عرض فيلم شاهين «المصير» يومها ضمن إطار المسابقة الرسمية. ولكن، على عكس ما تحاول أن تقول حكاية «أسطورية»، لم تكن السعفة يومها ل «المصير» بل لصاحبه، تقديراً لعمله السينمائي كله. أما «المصير» فخرج من «المولد بلا حمّص» كما يقول المثل الشعبي. وطبعاً يمكننا اليوم ان نقول ان هذا الفيلم إذا كان يستحق تقديراً، فليس بفضل سينمائيته، بل بفضل موضوعه وجرأة طرحه لهذا الموضوع. ولا سيما ان الموضوع يدور حول إرهاب الفكر... وكان الإرهاب، في مصر كما في غيرها في ذروته في ذلك الحين... وكان طاول في مصر يوسف شاهين نفسه (محاكمات وهجومات على فيلمه السابق «المهاجر») وكذلك، بخاصة، نجيب محفوظ، الذي طعنه ارهابي متشدد. والحال انه إذا كان شاهين قد حقق «المصير» - عن «حياة فيلسوف قرطبة ابن رشد» - فإنه انما حققه انطلاقاً من الواقع الراهن كما سنرى، وللتصدي لكل أنواع الإرهاب. وسيكون من العبث ان نبحث في كتب التاريخ عن سيرة لابن رشد وتفاصيل عن حياته العائلية، تشبه ما شاهدناه في الفيلم. فالفيلم جعل لابن رشد ابنة يريد ابن الخليفة الاقتران بها، وجعل للخليفة المنصور ابنين هما عبدالله والناصر وأقام صراعاً بين الابنين (والصراع بين الشقيقين يكاد يمثل موضوعة دائمة الحضور لدى يوسف شاهين في الكثير من أفلامه. راجع «عودة الابن الضال» و «الاختيار» بين أعمال أخرى)، ثم صوّر شخصية الغجرية مانويلا، زوجة الشاعر المغني مروان (وقامت بالدور ليلى علوي التي تصل هنا الى ذروة تألقها على رغم قصر دورها في الفيلم) وخترع شخصية العالم الفرنسي جيرار بروي وأتى بابنه يوسف من فرنسا ليضمه الى أسرة ابن رشد. وكل هذا جعلنا، في الواقع، نشعر أننا لا نعيش في قرطبة الأندلس في القرن الثاني عشر بل في «اسكندرية يوسف شاهين»، في مصر أربعينات القرن العشرين، حين كان التعايش ممكناً بين الطوائف والأفكار. وفي هذا السياق لكم تبدو العلاقات بين أفراد أسرة ابن رشد وبينهم وبين أصدقائهم شبيهة بالعلاقات بين أفراد أسرة يحيى - يوسف شاهين - في «الاسكندرية ليه» حيث يلعب محمود المليجي (الذي يكاد يكون والد شاهين) دوراً يشبه دور ابن رشد ولكم يبدو الصراع بين عبدالله والناصر ابني الخليفة شبيهاً بالصراع بين الأخوين في «عودة الابن الضال»، والحال أننا لو شئنا البحث هنا عن تشبيهات في هذا النوع، لن نتوقف أبداً. فالفيلم كما أشرنا - وكما هو الأمر بالنسبة الى معظم أفلام شاهين - هو أشبه بخلاصة لعمل شاهين ككل، وبعد هذا لن يعود مهماً أن نعثر على وجوه تشابه بين المنطق العام ل «المصير» وبين منطق فيلم «أسم الوردة» (الذي اقتبسه جان جاك أنو قبل «المصير» بسنوات من رواية امبرتو ايكو المعروفة بالاسم نفسه) علماً بأن «اسم الوردة» هو أول مرجع سينمائي قد يخطر على البال لدى مشاهدة «المصير» حيث ان «التيمات» المشتركة بين الفيلمين عدة أبرزها حضور أرسطو الطاغي وصراع رجل الدين ضد رجل العلم ومجابهة الدين كفعل ثوري عقلاني متنور بصورة للدين يمثلها رجال دين يهمهم أول ما يهمهم الوصول الى سلطة ما. ومن ناحية ثانية لن يعود مهماً أن يذكرنا واحد من أجمل مقاطع «المصير» بواحد من أقوى مقاطع فيلم «فهرنهايت 451» لفرانسوا تروفو (عن رواية بالاسم نفسه للأميركي راي برادبوري) ففي الحالتين لدينا محاولة يقوم بها متنورون لإنقاذ الكتاب من طغيان السلطان ومن عملية إحراق الكتب، انطلاقاً من فكرة تقول ان للكتب والأفكار أجنحة تطير في الهواء لتحط حيثما تشاء (وهذه هي على أية حال العبارة التي يختتم بها شاهين فيلمه). لكن هذا كله يبقى على أية حال، على صعيد الاحتمالات في هذا الفيلم الفذ. في هذا الفيلم الذي يريد فيه يوسف شاهين، على عادته في أفلامه منذ السبعينات، أن يقول أشياء كثيرة ومتشابكة وأحياناً متناقضة في مظهرها وها هو ينجح في هذا، في «المصير» وربما بشكل أفضل مما نجح به في أي فيلم سابق، فمن دور المثقف في المجتمع الى علاقة المثقف بالسلطة، الى الحديث عن منطق الدولة الذي قد يملي على الحاكم مواقف تتناقض مع طبيعته المعلنة، الى عزلة الحاكم في لحظة القرارات الخطيرة، وجنون العظمة لديه، الى عزلة المثقف ولحظات شكه القاتلة، وصولاً الى بعض الفرضيات الممكنة من حول لعبة التطرف التي ترتدي قناع الدين، وهي ليست في حقيقة أمرها سوى جزء من الصراع على السلطة، يتجول شاهين في هذا الفيلم المتميز بين أفلامه. وهو للوصول الى التعبير عن هذا كله، بنى بالتعاون مع خالد يوسف، سيناريو محكماً، قد لا نحبّذ فيه استعراضية عمل جماعات المتطرفين ولا تبسيطية الطريقة التي يتمكن مروان بها من السيطرة على خصومه، ولا حتى النهاية التي يحرق فيها نور الشريف كتابه الأخير، إذ ان هذه النهاية أتت، بشكل خاص، من أضعف ما في الفيلم، وأتى ضعفها مثلاً، متناقضاً مع مشهد البداية الذي ينتمي، لغة ومضموناً وحركة كاميرا الى أرقى ما أمكن شاهين أن يحققه على مدار تاريخه السينمائي. وأكثر من هذا قد لا نحبّذ الحالة العائلية الأليفة التي طبعت شخصية ابن رشد (وهنا يبدو واضحاً مدى الطابع الإنساني الذي شاء شاهين إسباغه على بطله ليقول ان الفيلسوف هو في النهاية إنسان من لحم ودم، قد يختلف مع زوجته وقد يخشى غضب ابنته). لكننا في المقابل نحب تلك المشاهد القوية (التي قد تذكرنا في قوتها بمشاهد حوارات هنري الخامس والسير توماس مور في «رجل لكل العصور» مثلاً) التي يدور فيها الحوار بين الخليفة المنصور وابن رشد مرة من حول طاولة الشطرنج، ومرة حين يبدأ ابن رشد صراعه الخفي مع الخليفة في مشهد وصلت فيه الصورة (كضوء وظل) وحركة الممثلين والكاميرا الى مستوى مميز. في «المصير» أمسك شاهين موضوعه بقوة وصفّى من خلاله حسابه - على طريقته - مع تلك القوى التي كان حاكمت «المهاجر» محاولة أن تسيء اليه من خلاله، قوى يبدو شاهين واثقاً من أن غايتها الكبرى تتمثل في القضاء على الفن والفكر وحريتهما، وبالتالي القضاء على مصر وما تمثل (المتآمرون في «المصير» يصلون الى حد التواطؤ مع الإسبان ضد عروبة الأندلس، وهذه «الإشارة» المعاصرة جداً لا يمكن أن تغيب عن بال متفرجي «المصير» لأنها تتسم بالراهنية الحارقة) غير ان المهم في هذا، هنا، هو تلك المصالحة «التاريخية» التي يوصلها شاهين الى ذروتها بعدما كان بدأها منذ «بونابرت»، مع المثقف ودوره في المجمع. فإذا كنا رأينا في مقاطع سابقة كيف أن شاهين وخلال مرحلة طويلة من مساره المهني، لم يتوقف عن توجيه أصبع الإدانة الى المثقفين (من بائع الجرائد في «باب الحديد» الى الأخ المثقف في «عودة الابن الضال» والكاتب الانتهازي في «الاختيار» الى الشيخ حسونة في «الأرض» وغيره، حيث كان المثقف، على الدوام مداناً لديه بتهمة التخلي عن رسالته وعن الفكر المتقدم الذي كان يحمله وأقنع الآخرين به)، ها هو هذه المرة يقف في صف المثقف بكل قوة ومن دون أي التباس، موصلاً هذا الموقف الى ذروته بعدما مهد له في الفيلمين السابقين. بل ان الوقوف في صف المثقف والتنوير هو الفعل الأساس في هذا الفيلم، المثقف تحت سمات جيرار بروي في فرنسا العصور الوسطى وفي صورة ابن رشد وشاعره مروان الأندلسي. فهل هذا لأن علاقة المثقف بزمنه ومجتمعه كانت قد تغيرت خلال تلك السنوات أم لأن يوسف شاهين أدرك بشكل مباغت انه ظلم المثقف طويلاً؟ لا هذا ولا ذاك، بل لأن شاهين، العقلاني جداً والمتحرك بشكل واعٍ مع زمنه، أدرك ان معركة التنوير التي كانت تخاض في الماضي بين السلطة والمثقف (فيستنكف هذا الأخير أو يسعى هو بدوره كي يكون سلطة أو سلطة مضادة في أسوأ الحالات) انتهت وتحولت الآن الى معركة بين الفكر والظلام، يتأرجح خلالها الحاكم تبعاً لمصالحه ولمنطق الدولة، فتدمر الحضارة تحت سنابك العسكر إذ يتحالف مع التعصب والجهل، تحت سلطة الحاكم. وفي مثل هذه المعركة لا يعود في إمكان شاهين أن يحاسب المثقف مهما كان من شأن هذا الأخير وتردده ومهادناته لأنه يعرف أنه لو فعل لصب موقفه في إحدى قناتين: إما قناة السلطة المترددة الخاضعة، ماكيافيلياً، لمنطقها الخاص، وإما قناة قوى الظلام التي تستغل بؤس الأجيال الجديدة وبحث هذه الأجيال عن مثل عليا، لتعبئتها ضد الفكر والمجتمع مجتمعين. في مثل هذه المعركة يصبح الخيار أمام مبدع مثل يوسف شاهين واضحاً. ولأن الخيار واضح كان لا بد من ابن رشد، بعد رام، وبعد بونابرت. وفي كل بساطة لأن ابن رشد مثّل لحظة قاطعة انعطافية في تاريخ العقلانية العربية، لحظة تشبه اللحظة التي يعيشها المثقف العربي اليوم، التي كان يعيشها يوسف شاهين نفسه يوم تحقيق «المصير». وعلى مثل هذا الوضوح العقلاني ختم شاهين هذه المرحلة من سينماه التاريخية. وما لا شك فيه أن جزءاً من هذا كان يدور في فكره حين وقف، عام عرض «المصير» في مهرجان «كان» في الجنوب الفرنسي (1997) ليتلقى تصفيق العالم حيث منحه المهرجان لمناسبة عرض الفيلم، واحدة من أرفع الجوائز التي أعطاها لفنان في تاريخه: جائزة الخمسينية. صحيح ان الجائزة لم تعط ل «المصير» يومها، لكنها أعطيت لشاهين، في أعظم تكريم ناله فنان عربي على الصعيد العالمي، منذ جائزة نوبل للآداب التي كانت منحت لنجيب محفوظ قبل ذلك بنحو عقد من السنين. [email protected]