تشهد الساحة العربية جدلا حول تأثير اللهجات العامية على اللغة العربية الفصحى، لا سيما أن العامية تختلف من بلد إلى آخر، وأحيانا من مدينة إلى مدينة في البلد الواحد، فمثلا لهجة أهل الصعيد تختلف عن لهجة شمال مصر، ولهجة الغرب الجزائري تختلف عن لهجة الجنوب ولهجة الشرق الجزائري، وهنا تطرح إشكالية محلية الأدب الشعبي الذي يكتب بالعامية لكل بلد أنه غير قابل للانتشار إلى باقي الأقطار العربية. وتختلف تسمية الأدب الشعبي من بلد عربي إلى آخر، وله تسميات مختلفة منها، الشعبي، المحكي في ليبيا، العامي في مصر، الملحون في الجزائر، النبطي في الخليج العربي، الزجل في لبنان وسورية.س ويرى الدكتور جورج زكي الحاج أستاذ الأدب العربي الحديث في الجامعة اللبنانية، وهو شاعر ورسام وأديب، أنها أسماء لمسمى واحد هو الشعر الشعبي أو الأدب الشعبي عموما فيقول لشبكة إسلام أون لاين: "بداية هي تسميات لمسمى واحد، لكن في لبنان لا نقول الشعر الشعبي ولا نقول الملحون، أنا أعتقد عندما تصل الجزائر وغيرها من البلدان العربية إلى المرحلة التي وصل إليها لبنان من تقدم في قضية الشعر، ومن اعتبار الشعر العامي بموازاة الشعر الفصيح له كتّابه وشعراؤه حتى من الأكاديميين والسياسيين والجامعيين وغيرهم كتبوا بهذا الشعر، فإذا وصلوا لهذا المستوى أكيد ستكون هناك تفرقة بين التسميات، يعني يصبح الشعر الشعبي في الجزائر يحمل عدة تسميات ويكون هناك عدة أنواع، فيصنف ويقال هذا زجل وهذا شعر عامي.. كما نقول في لبنان، والزجل هو أبو الشعر الشعبي في لبنان". ويضيف الدكتور جورج "في دول المغرب العربي يحكى عن الشعر الملحون وهم مختلفون حول تسمية ملحون هل هو اللحن من خطأ أو لحن من نغم؟ هناك من يقول عربي ملحون أي دون ضوابط، أنا ضد التسمية بهذا المعنى؛ إذ يجب الاتفاق على أن هذا الشعر يكتب باللغة التي يتكلم بها الناس يوميا لهذا فهو شعر شعبي". ويعترض سمير عبد الباقي شاعر العامية المصري على تسمية الشعر الشعبي في حديثه لشبكة إسلام أون لاين بهذا الاسم قائلا: "ماذا تعني شعبي هل يعني الشعب من كتبه؟، أنا أكتب شعرا عاميا، ولا أسميه شعرا شعبيا، أحمد شوقي شاعر شعبي بانتشار قصائده بين الشعب أي لها شعبية، أم كلثوم شاعرة شعبية بأغانيها، فالمصطلحات في العالم العربي مختلفة بين بلد وآخر". وعن إثارة العداء بين الفصحى والعامية في الساحة الثقافية العربية قال الشاعر المصري عبد الباقي: "العامية هي أقدم من الفصحى، والعامية هي التي حمت الفصحى، فالعامية لغة حياة الناس، أعطت للفصحى وأخذت منها فجعلت الفصحى لا تموت، ولو لم توجد عامية لماتت الفصحى كما حدث للغة اللاتينية، والعامية لغة نتكلم فيها مثلما نفكر، كما أن للشعر العامي مصطلحات وصورًا، كما أنه ليس ملحونًا (أي بدون ضوابط)، بل له أصول وقواعد مثل الشعر الفصيح". ويوضح رئيس اتحاد الكتاب الجزائريين يوسف شقرة دلالة الشعر الشعبي بقوله: "عندما نقول الشعر الشعبي لا نعني به الشعر الدارج أو المحلي، الشعر الشعبي هو شعر ينحو إلى اللغة المبسطة في تراثنا العربي، والشعر الجاهلي هو شعر شعبي انطلق بلغة متداولة في تلك الفترة وهي الفصحى المبسطة، أما ما يسمى باللهجات المحلية فذاك شيء آخر هو "شعر دارجة" أي شعر محصور في منطقة معينة في لهجة تلك المنطقة، وهذا يثري المشهد ويغذيه ولا ينقص منه؛ وبالتالي ليس هناك خوف على الوحدة الثقافية العربية، على العكس هي تغذية للأمة العربية، ولكن الخوف عندما نصبح ننادي بهذه اللهجات وهذه المحليات لتصبح هي الأهم واللغة المشتركة هنا يصبح الخطر، أما ما دامت اللغة المشتركة موجودة بيننا ونثريها بإبداعاتنا، فلا خوف على العربية الفصحى". يعتقد الشاعر المصري سمير عبد الباقي أن اختلاف العاميات لا ينقص من قدر الشعر العامي ولا يقلل من انتشاره خارج بلده، وأن هناك كتّابا عالميين كتبوا بالعامية واشتهروا بلغتهم العامية، مثل أندري فيتش كتب روايته بعامية البوسنية عن بلده البوسنة، ومع ذلك أصبح كاتبا عالميا، ويعتبر الكتابة العامية تنوعًا طبيعيًّا موضحًا ذلك: "لا نستطيع إجبار الناس أن تتكلم بنفس الطريقة، ولا أن تعبر بنفس الطريقة، التنوع سمة من سمات الحياة". ويضرب الشاعر المصري على وتر التناقضات العربية التي تحول دون الوحدة بقوله: "الهند فيها 500 لغة وخمسة آلاف جماعة متعايشة، وفي أوروبا أكثر من أمة وأكثر من لغة وتوحدت، نحن نتكلم غلطًا ولهذا لا نعمل شيئا، كيف تعمل وحدة في ظل تضارب المصالح، والكتب لا تعبر من بلد إلى بلد كيف نعمل وحدة، التأشيرات ألغيت بين الدول الغربية، ونحن لسنا قادرين على إلغاء التأشيرة بين بلد وبلد عربي، الناس تخاف على مناصبها ومصالحها". وهو ما ذهب إليه الدكتور محمد لعريبي أستاذ فلسفة في كلية الآداب في الجامعة اللبنانية مؤكدا: "لا نخشى من محلية الشعر الشعبي؛ لأن العالمية هي في المحلية، بقدر ما يكون الشعر معبر عن محلية معينة فهو عالمي؛ لأنه لو بحثنا في الشعر الشعبي اللبناني ولو بحثنا في الشعر الشعبي الصيني لوجدنا أن القيم الأخلاقية التي في هذا الشعر، كما هي في الشعر الشعبي الآخر، فليس هناك مخاوف من محلية الشعر الشعبي، فليعبر الإنسان عما في ذاته وفي تعبيره عن ذاته يجد نفسه في الآخر أيضا". ويحذر فرحان صالح رئيس تحرير مجلة الحداثة، المهتمة بقضايا التراث الشعبي والحداثة، من اندثار اللغة العربية ما لم يعمل المثقفون على تحميل اللغة وظيفة مجتمعية "الفصحى الآن هي لغة السلطة، وهي لغة ليست لها وظيفة مجتمعية سوى الدفاع عن السلطان، أي هناك انفصال كامل عن وظيفة الفصحى بمعنى المنتج المعرفي الذي تؤكد فيه سلطة مجتمعية وليست سلطة السلطة على الشعب، والفصحى الآن إذا لم تستطع مجتمعاتنا العربية أن توجد وظيفة مجتمعية لها ستندثر"، ويضيف في حديثه لشبكة إسلام أون لاين: "هناك محاولة لافتعال مشكلة بين العامية والفصحى، العامية هي حركة فكرية وثقافية واقتصادية واجتماعية في لحظة ما، انفصلنا عنها فأصبح هناك حالة غربة معها؛ وبالتالي نرى ابن الريف ينزح للمدينة، حيث أصبح الريف جسما هزيلا جدا يسكنه كبار السن، وهم خميرة بتجاربهم، إلا أنه لم يعد هناك تواصل بين الأجيال من خلال الأماكن، فلم تستطع أنظمتنا خلال المائة سنة الماضية أن تؤكد علاقة ومشروعا تنمويا تربويا ثقافيا سياسيا في الريف، بحيث نستطيع أن نصوب العلاقة باستمرار ودوما ما بين المدينة والريف؛ لذلك إذا نظرنا للشعر الشعبي بالعامية فهو أسوأ بكثير من الفصيح". يعتقد محمد لعريبي أستاذ فلسفة في كلية الآداب في الجامعة اللبنانية أن الأدب الشعبي يحمل قيما أخلاقية وفضائل وفق معايير قيمية لكل شعب، وقال في حديث خاص لشبكة إسلام أون لاين: "عموما الشعر الشعبي يحمل الفضائل المعروفة المشتركة بين الشعوب، الحمية بالإضافة إلى قيم سياسية العدالة والمساواة والديمقراطية وقبول الآخر، ومن طبيعة الشعر الشعبي يحمل هذه القيم؛ لأنه يتناول حياة الناس؛ لذا من الطبيعي أن يكون حاملا لمضامين أخلاقية وسياسية، وفي الشعر الشعبي موجود هذا الجانب بشقيه الوظيفة النقدية للواقع الحالي لتصويبه، والجانب التحريضي إذا كانت هناك مساوئ لرفعها والتركيز على قيم أخلاقية سياسية أو في التعاملات بين الناس، يعبر عنها بأبيات بسيطة بومضات بسيطة، ولكن تكون مفهومة وقريبة من أذهان الناس وهي أقرب من نفوس الناس من الخطاب الفلسفي أو السياسي؛ لأن دفء كلمة الشعر الشعبي تعبر عن داخل كل واحد ببساطة". وتحدث لعريبي عن دور الشعر الشعبي في لبنان بأنه "مكون ثقافي وأحد وجوه الثقافة، وأن ما حصل في لبنان أسقط الكثير من الأوهام، مثل أن المال قادر أن يفعل كل شيء، القوة العسكرية تفعل كل شيء، أن تغير من طبائع الناس من توق الناس إلى الحرية، إلى أن تكون سيدة على أرضها، فالشعر الشعبي كان من مكونات ثقافة المقاومة، وهيأ لهذه المقاومة المساحة الواسعة من الاحتضان العام في لبنان لقتال الإسرائيليين في صموده في وجههم في تغيير المعادلة، وثقافة المقاومة من مكوناتها الشعر الشعبي كما القصة كما الرواية، أسقط إسرائيل من السماء إلى الأرض لتواجهها المقاومة مواجهة مباشرة".