جامع مشترك بين مهرجاني فانيسيا وتورنتو هو أن عدداً كبيراً من الأفلام المشتركة في المهرجان الأول تجدها معروضة في المهرجان الثاني. هذا لا يصيب المهرجان الإيطالي بنقص ولا يُعرّض المهرجان الكندي الى التخمة. أما في الجوانب الأخرى جميعها فهما مختلفان تماماً. مهرجان فانيسيا العريق أقدم مهرجان قائم بعدد دوراته الخمس والخمسين مهرجان بجوائز وحفلات رسمية يقام على جزيرة الليدو حيث كل الأسعار سياحية مرتفعة. مهرجان تورنتو الذي يقام هذا العام للمرة الثانية والعشرين مهرجان بلا مسابقة، وبالتالي بلا جوائز وبأقل ما يمكن من رسميات في بعض حفلاته الليلية، تستطيع - إذا ما تسلحت بالبطاقة المناسبة - أن تدخل الحفلة بالجينز والسترة الخفيفة. لن تجد أنك الوحيد، وإذا ما سألك أحد عن السبب تستطيع أن تقول له أنه لم يكن لديك وقت للعودة الى الفندق وتغيير الملابس تكلم بثقة، سيصدقك السائل، ومن يدري قد يشعر هو بأنه في المكان الخطأ! تورنتو مدينة كاملة ورخيصة، نسبياً، وفيها مستويات، حالما تصل الى جزيرة الليدو تدخل بقدمين فخاً منصوباً، تورنتو تبقى مدينة، مثل روما، مفتوحة. ومع أن المهرجان الكندي لا يعبأ بالمسابقة إلا أن فيه وجوهاً من حيث تكاثر الضيوف من ممثلين ومخرجين وسينمائيين ومن حيث العدد الكبير من الأفلام المتميزة. انه ليس مجرد جمع كبير لها يصل هذا العام الى 300 فيلم من 58 دولة بل انتقاء يحاول التوازن بين الهيمنة الهوليوودية القريبة، وحاجة المهرجان لنجومها من أجل "البزنس"، وبين السينمات الأوروبية والشرق آسيوية وغيرها. وكان الى سنوات قريبة يعتمد بنسبة 80 في المئة على برمجة مصدرها الأفلام التي سبق وأن عرضت في المهرجانات الأخرى. كان اسمه حتى مطلع هذا العقد "مهرجان المهرجانات". لكن الحال تبدل منذ ذلك الحين وصارت برمجة تورنتو تقوم على نسبة كبيرة من الأفلام المنتقاة خصيصاً للمهرجان. هذا العام مثلاً هناك 144 فيلماً لم تعرض عالمياً بعد. هذا رقم كبير جداً لأي مهرجان. في تورنتو، أنت في عيد وليس في مهرجان. احضر معك بهجتك القديمة عندما كنت تشاهد الأفلام بغاية الاكتشاف وحباً بالسينما من دون التفكير بتفاصيل الحياة المرهقة. بالعودة الى فانيسيا الذي بدأ في الثالث من هذا الشهر وينتهي في الثالث عشر، أي بعد ثلاثة أيام من بدء تورنتو الذي يستمر حتى 19/9/1989، نجد أنه يتميز هذا العام بعدد من التحولات والإضافات المثيرة للاهتمام. ففانيسيا هذا العام يبحر صوب إقامة سوق سينمائي خاص به. خلال كل سنواته حافظ المهرجان على ناصيته الفنية المحضة. على هوية غير تجارية. هذه المرة، الثانية بالنسبة لرئيسه الجديد فيليس لوداديو، هناك سوق لكنه ليس مثل سوق كان مثلاً حيث تزدحم الأفلام مثل سردين المعلبات، بل يقوم على الحضور بالدعوة فقط لمن يتم اختيارهم من المنتجين وشركات الأفلام. وهو ليس سوقاً للتجارة فقط، بل يقام تحت عنوان "سوق السيناريو والفيلم"، ما معناه جدية محاولة دفع الكتاب للتفاعل مع المناسبة وإيجاد صوت ما لأعمالهم. ورغم أن العديد من الكتّاب، ذكوراً وإناثاً، المشتركين في هذا السوق، دون الخامسة والثلاثين، فإن هناك عدد منهم تجاوز هذه السنوات المقبلة. أودعها وراء ظهره وازداد خبرة ومعرفة. لكن الجامع بين كل هؤلاء، القدامى والجدد، هو أنهم جميعاً هادفون الى تقديم أعمال جادة تنفصل بهم عن التيار السائد سواء داخل أم خارج هوليوود. داخل أم خارج إطار السينما المستقلة. هذا واضح حتى بالنسبة لأكبرهم سناً مايكل لوفلين التي كتب وأنتج منذ الستينات وحالياً لديه فيلم من كتابته من بطولة وورن بايتي ودايان كانون وأندي ماكدوويل وغولدي هون وعنوانه "مدينة وريف" بميزانية 40 مليون دولار. لوفلين من الخبرة بحيث صاحب هيتشكوك ورنوار وتروفو ويؤكد أنه، مثل الأخير، يعلم شكل الفيلم وكل تقطيعه من قبل أن يكتب كلمة واحدة فيه. فايدا: قاد سينما بلاده من المميزات الأخرى لمهرجان فانيسيا هذا العام كثرة الأسماء المعروفة فيه. وهذه ليست موجودة فقط في المسابقة، بل في الأقسام الخارجة عنها أيضاً. أساساً، يكفي تكريم أندريه فاردا ليشعر المرء بمدى انتماء الجسد الحالي للسينما الى مزايا وسمات الجسد السابق. في "فانيسيا" سيتم تكريم المخرج البولندي فاردا بمنحه أسداً ذهبياً خاصاً لمجمل أعماله، وما نتحدث عنه هنا، وما يتولى المهرجان القيام به هناك، هو الاحتفاء بمخرج وضع معالم السينما الحديثة في بلاده وشارك فناني العالم في إرساء قواعد الفترة الذهبية للفن السينمائي. انه مثل كيروساوا، صلاح أبو سيف، كوبريك، أنطونيوني، روزي، ميزوغوشي، شابرول، رينيه، شاهين، توفيق صالح، تاركوفسكي، كوزنتسيف، بونويل، ايمامورا والآخرون. ذات المرتبة، اختلاف مشروع في الأسلوب والمعالجة والاهتمامات. ولد في 6/3/1926 وحقق فيلمه الأول قصير في العام 1950 وفيلمه الروائي الطويل الأول "جيل" في العام 1954 وكان تمهيداً لثلاثية تدور حول مآزق شخصيات من جيله آنذاك، تجد نفسها في المتغيرات التي تفرضها ظروف الحرب باحثة في معاني المجد والبطولة ضمن مواصفات جريئة لم تكن معهودة في السينما البولندية آنذاك. وضمت الثلاثية "قناة" 1957 و"ماس ورماد" 1958. من بعد "رجل الرخام" 1977 و"رجل الحديد" 1981 الذي بث فيهما مراجعاته بالنسبة لما أخذ يتبلور كتحولات اجتماعية/سياسية مهمة في بلاده، أخرج "دانتون" في فرنسا 1982 ثم قرر أحد أن يطفأ نور الغرفة عليه ويمضي. أعمال فايدا لم تشهد، منذ ذلك الحين، ذات الصخب والاهتمام العالمي إلا في مرات متباعدة وقليلة جداً. الاحتفاء به هنا يتوجه بتقدير يستحقه بلا ريب. فضيحة سياسية الأفلام المشتركة بين فانيسيا وتورنتو تحتوي على عدد مما يدخل في نطاق المسابقة لدى المهرجان الإيطالي، كذلك فإن عدداً آخر عرض في صالات بلاده بحيث تم التقاطها محلياً ومن قبل توجهها الى الليدو. "بولوورث" ***** من خمسة على سبيل المثال، ليس بالفيلم الهيّن استقباله ولا أعلم كيف سيستقبله النقاد الأوروبيون بغير الترحاب. انه كوميديا ساخرة عن الرئاسة الأميركية، تتجاوز كل الأفلام التي قدمت لنا رئيس البيت الأبيض حتى من زاوية ناقدة. وورن بايتي يجول ويصول في رحى السياسة الأميركية متعرضاً بالنقد اللاذع والشديد لكل ما وجد له مساحة في التعبير حتى في إطار كلمة، يهاجم العنصرية المتفشية تحت قماش خادع، يهاجم اللامبالاة تجاه مسببات الفقر والعنف، ثم يميل الى المؤسسات الكبرى ويقتحم ما تمثله من هيمنة سياسية على الانتخابات الرئاسية والبيت الأبيض. ويتطرق الى العربي الذي يبقى صديقاً لأميركا طالما أنه سعر النفط باق على مستواه المناسب وينتقد سياسة أميركا للعراق ويتغزل بكلمة الاشتراكية ويوعز منتقداً النفوذ اليهودي في كل من هوليوود والسياسة. بايتي كان دوماً عصفوراً منفرداً بين الممثلين والمخرجين لدرجة أنه لم يؤم مهرجانات بصفة رسمية من قبل. وجوده وفيلمه في فانيسيا هي المرة الأولى له. المخرج ستيفن سودربيرغ يعرض فيلمه الجديد "بعيداً عن الأعين" في خارج المسابقة في فانيسيا أي مثل حال "إنقاذ العريف رايان" لستيفن سبيلبرغ. وسودر بيرغذاق طعم الشهرة فجأة عبر فيلم "جنس، أكاذيب وأشرطة فيديو" الذي كان جولة في السرد غير التقليدي ضمن انتاج أميركي مستقل فاز بسعفة كان الذهبية العام 1989. فيلمه التالي "كافكا"، كان أفضل لكنه لم يفز بشيء. "ملك الهضبة" و"ملائكة واقعة" و"التحتي" تبعت وكانت موحية وجيدة لكن أياً منها لم يستطع ترك تأثير بيّن. اقتبس سودربيرغ "بعيداً عن الأعين" Out of Sight ** من خمسة عن رواية أخرى من أعمال المؤلف البوليسي إلمور ليونارد. هذا يعني وجود فيلمان هذه السنة من كتابات هذا المؤلف إذ سبق وشاهدنا "جاكي براون" المأخوذ عن رواية ليونارد "روم بنش". ومن يرى الفيلمان شارك الأول في مسابقة مهرجان برلين هذا العام يجد أن المزايا التي في كتابات ليونارد مترجمة بصورة متحدة. قصص ليونارد صعبة التحول الى أفلام لأنها مكتوبة بلغة من يهمه بحث الشخصيات أكثر من سرد القصة. كما أن أبطاله هم دوماً في الخطأ. مجرمون على نحو أو آخر ولو أنهم أقل إجراماً من الذين يواجهونهم. في "بعيداً عن الأعين" نجد جورج كلوني سارق يدخل السجن ثم يهرب منه ويختطف تحرية جنيفر لوبيز ثم يطلقها. عصابة مناوئة تسعى لسرقة منزل كبير هو هدفه أيضاً ورفيقه لكن قصة حب طفيفة تنشأ بينه وبين التحرية تتدخل في مسار كل ذلك. المفتاح لتقديم قصة ناجحة من أعمال ليونارد هو حسن بلورة شخصيات مثيرة للاهتمام. وهذا ناجح عند كوينتين تارانتينو في "جاكي براون" أكثر مما هو ناجح عند سوندربيرغ. كذلك ناجح عند الأول الأستعانة بمجموعة ممثلين ذوي حضور رائع مثل سامويل ل.جاكسون، روبرت دي نيرو وبام غرير، في دور جاكي براون التي كانت بيضاء في الرواية وقلبها تارانتينو الى سوداء. في المقابل ممثلي "بعيداً عن الأعين" لا يخلقون ذات التأثير. ونجد سودربيرغ موزعاً ناصية عمله على شخصيات ليس من بينها ما يبرز حاملاً مصدره النفسي أو بعده الذهني. الأزمة الدرامية موجودة لأنها جزء من القصة، لكن ليس منها ما يعبر عن صفاتها وتفاصيلها الى حد مميز ومشبع. أسماء كبيرة ومن تلك الأفلام التي يعرضها تورنتو وفانيسيا معاً الفيلم الجديد للفرنسي أريك رومير. عنوانه "حكاية الخريف" وهو الجزء الرابع من سلسلة قسّمها حسب المواسم بدأت ب"حكاية الربيع" في العام 1989 ومثل معظم أعماله منذ أن قدم "حب بعد الظهر" 1973 فإن رومير يستعيض عن القصة بكاملها بمواقف معينة يزيد فيها الحوار عن استعدادنا للإكتراث بما يدور. المشاهدون الأوروبيون ينقسمون دوماً حيال هذه الأفلام، البعض يعتبر حكاياته الأربعة هذه مجالات تعبير عن مواقف شخصياته الشابة من الحب وهي مميزة بسبب التقليل من الدراما وحجم التمثيل وبل بسبب الحوار المستفيض أيضاً. لكن هناك من يشارك المشاهد ذو الثقافة غير الفرنسية الرأي منتقداً غياب الفعل الدرامي في الحكاية ولو أن المشكو منه هو غياب الحكاية أساساً. وفي حين يستقبل مهرجان تورنتو 83 فيلماً ل83 مخرجاً يقف وراء الكاميرا لأول مرة، ينجح فانيسيا في جمع لمام عدد ملحوظ من الأسماء المعروفة: الإيطالي جياني أميليو يقدم فيلمه "كيف ضحكنا" يعرض أيضاً في تورنتو والمخرج الأميركي الذي يعيش ويعمل بين لندن وباريس جيمس ايغوري لديه فيلم جديد يعرضه خارج المسابقة بعنوان "ابنة الجندي لا تبكي أبداً" من أعمال تورنتو كذلك ولدي الأخوان باولو وفيتوريو تافياني فيلماً جديداً هو "أنت تضحك" والمخرج الأميركي المنطفأ جون فرانكنهايمر ربما تذكره من أيام "يوم الأحد الدامي" لديه فيلم جديد بنصف دزينة من النجوم بينهم روبرت دي نيرو والفرنسي جان رينو عنوانه "رونين". وودي الن يتقدم، خارج المسابقة، بفيلم "احتفال" وأبيل فيريرا بفيلم "فندق نيو روز" مع كريستوفر وولكن. واليوغوسلافي أمير كوستاريتزا يمنح فانيسيا عمله الأخير وعنوانه "قط أبيض، قط أسود" وهو الأول له منذ أن عاد عن اعتزاله بعد فيلمه السابق والرائع "تحت الأرض". كل ذلك يجعل من فانيسيا هذا العام مهرجاناً أفضل مما كان عليه في الأعوام القليلة الماضية. لكن إذا ما توجهت الى تورنتو هذا العام فإن ذلك راجع الى تلك الأعوام السابقة التي بدا فيها المهرجان هزيلاً بالمقارنة. وبما أن المهرجانان يُقامان في آن واحد تقريباً، فإن هناك إغباطاً كيفما توجهت.