ثلاثة مخرجين من الذين اعتادوا في السنوات الاخيرة التوجه بأفلامهم الى مهرجان "كان" اشتركوا هذا العام في مسابقة الدورة ال 48 لمهرجان برلين السينمائي الدولي. وهذا من الظواهر الأكيدة على الجهود التي يبذلها المهرجان الالماني لا للحفاظ على موقعه كأحد أهم ثلاثة مهرجانات في العالم، بل للمنافسة التي ينشدها من اجل ان يتحول الى المناسبة الاكثر جذباً للافلام الجيدة والاسماء الكبيرة. من بين الظواهر البسيطة وذات الدلالات معاً ان حضور حفلتي الافتتاح والاختتام اصبح يتطلب ثياب السهرة الرسمية بربطة العنق السوداء الانيقة، مثله في ذلك مثل حضور حفلة توزيع جوائز "فيلكس" الموازية للأوسكار أوروبياً أو حفلة الأوسكار ذاتها، أو حفلات مهرجان "كان" الليلية. لكن من بين كل المتغيرات والاجراءات، فان شيئاً لا يوازي أهمية البرنامج الرسمي الذي تنجلي عنه الدورة. هذا وحده هو الفيصل الذي يعلن في نهاية المطاف أين يقف المهرجان بين اترابه اليوم. وفي وقت صار غياب من لا يزال حياً من عمالقة السينما هو الأمر الاكثر تأكيداً، فان ما يحصده المرء من هذه المهرجانات الكبيرة المتنافسة اشبه بما يستخرجه الصياد من البحر بشبكته. وحتى مناسبة مهرجان "كان" العام الماضي بدت أضعف من اخرى سابقة لها بسبب قلة الافلام ذات المعايير الفنية الكفيلة بالظهور في محفل دولي بهذا الحجم. في برلين هذا العام دلالة اخرى على ان الافلام التي من ذلك المستوى باتت جواهر نادرة من الصعب تأمينها. اكثر من فيلم عرض هنا لم يكن ليجد مكاناً في المسابقة لو ان شروطاً فنية قاسية اتبعت كما كان الوضع في النصف الأول من الثمانينات وما قبل. لكن مرة اخرى، فان الشروط اللازمة للابداع هي التي تجد نفسها محاصرة وبالتالي فان العدد المنتج من الافلام التي تتمتع بما يتطلبه الفيلم من شروط العمل الناجح أقل مما كان عليه سابقاً. أفضل ألتمان من سنوات المخرجون الثلاثة الذين توجهوا الى برلين في دورته التي انتهت في الثاني والعشرين من هذا الشهر هم روبرت ألتمان وجويل كووين وكوينتين تارانتينو. وفي العروض التي خصصت لكل منهم كان الازدحام على أشده. ومن الممتع ان يجذب اسم مخرج ما كل ذلك الاقبال، ومن الممتع اكثر لو كان الفيلم يستحقه. وتبعاً لما رأيناه هنا فالأمر يتفاوت حتى ضمن معايير الفيلم الواحد. ليس فقط ان نتيجة كل عرض كانت انقساماً حاداً بين الذين اعجبهم الفيلم واولئك الذين لم يعجبهم، بل في وجود فئة ثالثة ليست متأكدة ما اذا كان ما شاهدته يستحق الاعجاب أم لا. هذا جلي اكثر في فيلم روبرت ألتمان "رجل الكعك" The Gingerbread Man فمعه يتجلى خوف العديد من النقاد والمثقفين تبني عمل يختلف عن معظم ما حققه ألتمان سابقاً. وستجد ان القلة فقط هي التي تؤمن بأن فيلماً ذا نكهة بوليسية بأسلوب تشويقي تقليدي يمكن له ان يكون أفضل من فيلم ذي صياغة اسلوبية ومنهج فني اذا ما تعثر هذا في تحقيق الغاية الفنية المنشودة له. الآن ينجلي "رجل الكعك" * * * * من خمسة عن تحقيق ما يمكن اعتباره أحد أفضل الافلام القائمة على التحقيقات البوليسية الاخيرة. قصة جون غريشام المكتوبة، كعادة اعماله، بلغة أقل من مشبعة لهواة الأدب، لكنها مثيرة في مدى المامها بتفاصيل الموضوع المطروح القانونية والقضائية والتي تنجح في وضع الفكرة ومقوماتها ثم سبر غور مفارقاتها التشويقية، تتمتع بالهاجس الذي تحمله رؤية المخرج الى العالم حيث تندمج المصائر الفردية بالاجواء الداكنة التي توفرها الطبيعة. القصة لجون غريشام كما كان الحال مع "زمن للقتل" و"الموكل" و"المؤسسة" وباقي الاعمال التي اقتبست للسينما من روايات ذلك المؤلف الذي تحول الى الكتابة من سلك المحاماة. القيمة الاولى التي تنالها من اعماله معرفته بما يتحدث عنه وقدرته على التوغل في التفاصيل المطلوبة. لكن "رجل الكعك"، الذي يدور حول محام كينيث براناه في خروج آخر عن الاسلوب يصبح عرضة لقضية عاطفية تطيح باستقراره الداخلي والعام معاً، أفضل منها مجتمعة. فقط فيلم "صانع المطر" لفرنسيس فورد كوبولا الذي عرض في ختام المهرجان والذي اقتبس عن رواية اخرى للمؤلف ذاته، يصل الى الحد الذي يكتشف المرء معه مناسبات ثمينة وثرية للمقارنة والاختيار الافضل بين الاقتباسين سنتعرض لمعظم هذه الافلام بتوسع في الاسابيع المقبلة. نوستالجيا "ليبوسكي الكبير" لجويل كووين هو الفيلم الثاني في هذه الثلاثية. ايضاً سبق للمخرج وشقيقه المنتج/ الكاتب ايثان، ان بعثا بأفلامهما السابقة كلها الى "كان" وهي "نشأة اريزونا" و"تجاوز ميلر" و"بارتون فينك" و"رئيس هدسكر" و"فارغو". هذه المرة يتوجهان الى برلين للمرة الأولى، لكن الفيلم اذ ينجلي عن اللمسات الهزلية الغريبة والمعهودة عندهما، لا يرتفع الى مصاف كان يتوقعه منه معظم المشاركين. "ليبوسكي الكبير" * * فيلم ذو خيط بوليسي مركزي تعبر عنه حكاية معقدة، ضعفها يكمن أساساً في ان تعقيداتها مفتعلة تغطي ما هو في الغالب قصة عادية جداً. جف ليبوفسكي جف بردجز رجل توقف الزمان لديه عند الحقبة التي يعشق: السبعينات. عاطل عن العمل ولا يكترث للعثور على عمل. لكن في أحد الايام يداهم بيته رجلان على اعتقاد بانه المليونير ليبوسكي ديفيد هدلستون ما يحفزه لمقابلة هذا وتحذيره مما يحاك ضده. لكن ليبوسكي الصغير لا يدري ان المليونير الذي لا يمت له بالقرابة أو المعرفة، هو جزء من خديعة كبيرة يتعرض لها وتتركه وصاحبيه جون غودمان وستيف بوشيمي حيارى في التصرف معظم الوقت. ستجد في هذا الفيلم حسنات متفرقة لكن النظر الى الفيلم ككل يكشف عن ثغرات من بينها ان ملكة السرد متعرضة منذ البداية لعملية تورية خادعة لا مكان فيها للتقدير لانها ليست جزءاً من القصة على غرار أفلام هيتشكوك مثلاً بل هي جزء من الاسلوب وطريقة رصف الاجواء... وهذا اضعف ما يمكن ان يتعرض له الفيلم البوليسي من معالجة. الفيلم الثالث هنا هو "جاكي براون" لكوينتين تارانتينو * * * وهذا المخرج ايضاً من رواد "كان" اذ عرض فيه فيلميه السابقين "كلاب محفوظة" و"بالب فيكشن". في فيلمه الجديد يقرر العودة الى سينما السبعينات البوليسية السوداء، اي تلك التجارية التي انتجت انذاك بأبطال سود وتصوير في الاحياء السوداء وكل ما هو لزوم عدة منح الجمهور الاسود ما ينسجم معه. هذا قبل ان تختفي الافلام الصغيرة ويصبح البطل الأسود موازياً للبطل الأبيض في الامكانيات الانتاجية. من السبعينات يستقدم تارانتينو الممثلة بام غرير. كانت نجمة اغراء مثيرة في تلك الفترة لعبت في بضعة أفلام من ذلك النوع أهمها "كوفي" ثم انقطعت لحين وعادت في افلام متفرقة في السنوات العشر الماضية أو نحوها من بينها فيلم "فوق القانون" أمام ستيفن سيغال واخراج أندرو دايفيز. اليوم لا تزال جميلة وان أكبر وهي تلعب هنا دور مضيفة طيران يستخدمها تاجر الاسلحة سامويل ل. جاكسون في تهريب المال خلال رحلاتها. يلقي البوليس هنا دور محدود لمايكل كيتون القبض عليها وترضى ان تتعامل معه. لكنها تتصل بمحام متخصص في دفع كفالات المتهمين ليتعاون معها في مكيدة للايقاع بالتاجر والاحتفاظ بنصف مليون دولار ستنقلها بعيداً عن ايدي البوليس. لكن باستثناء هذه العناصر، فان فيلم تارانتينو فاتر حتى في المناسبات التي كان من المفترض فيها ان تكون مثيرة هناك مشكلة في بناء الحبكة الأهم في الفيلم يحاول تارانتينو التغلب عليها بسرد الفصل المعين ثلاث مرات من ثلاث وجهات نظر. مع ان هذا الاسلوب يعود الى ستانلي كوبريك في فيلمه الرائع "القتل" ابيض وأسود حكايته مسرودة بلا ملل من خمس وجهات نظر الا ان الذين يبقون الى آخر العناوين النهائية يلحظون ان تارانتينو فضل اهداء فيلمه الى صامويل فولر مخرج آخر للافلام البوليسية قدم اعمالاً مميزة بسرعة حبكتها ورخص تكاليفها وشخصياتها المثيرة. ضد حرب الخليج الى جانب هذه الافلام الثلاثة، وبالاضافة الى الفيلم الكوميدي السياسي "الكلب الماجن" أو "واغ الكلب" الذي عرضناه هنا الاسبوع الماضي كانت هناك افلام اميركية اخرى تستحق الاشارة. في "ويل هانتينغ الطيب" * * * فصل من دقيقة ونصف الدقيقة يتعامل مع موضوع السياسة الاميركية الخارجية ازاء العراق والخليج عموماً. في ذلك المشهد يقصد بطل الفيلم، واسمه ويل هانتينغ، لمقابلة مع موظفين من المخابرات المركزية الاميركية التي تريد توظيفه لموهبته الذهنية الخارقة، لكنه يلقي خطاباً في تلك السياسة منتقداً توجهاتها التي يقصد بها المصلحة الاميركية على حساب مصلحة البلاد الاخرى. انه فيلم من اخراج غس فان سانت الذي قدم سلسلة من الافلام غير المتوازنة سابقاً معظمها اعتبر فنياً على أي حال، وبالتأكيد كلها كانت محاولات في حفر طريق في ذلك الاتجاه. فيلمه الجديد اكثر تقرباً من خط الوسط بالنسبة الى الجمهور واستقبال الفيلم تجارياً أفضل من استقبال "جاكي براون". "أفضل ما يمكن" * * لجيمس بروكس كوميديا مكتوبة كأنما هي جزء من حلقات تلفزيونية ومنفذة على هذا الاساس وذلك راجع لأن بروكس مخرج ومنتج تلفزيوني لا يزال يعيش في اطار الشاشة الصغيرة ومتطلباتها وطروحاتها. قصة كاتب جاك نيكولسون موسوساً يكره الآخرين ولا يثق بهم باستثناء نادلة المطعم الذي اعتاد ان يأكل فيه. وكلب صغير لجاره الشاذ، يتسببان في تغيير نظرته الى العالم في اخراج معدوم الكفاءات. دراما واقعية تذكر بما مضى أحد أفضل ما شاهدناه هنا جاء من البرازيل: "المحطة المركزية" * * * * قصة امرأة فاتها الشباب بلا زواج أو حبيب تنقذ صبياً من مصير أسود بعد ان ماتت أمه في حادثة سيارة قريباً من محطة سكة الحديد حيث تعمل بطلة الفيلم. الآن عليها ان تقطع مسافات طويلة الى مناطق نائية بحثاً عن أبيه. الرحلة تولد علاقة جميلة بين المرأة والصبي وتوحد بين مصيرين غامضي النتائج. انه فيلم من المخرج وولتر سايلز الذي يقدم هنا أول افلامه الروائية الطويلة شارك في اخراج فيلم طويل واخرج فيلمين قصيرين قبل هذا العمل. وكان الفيلم عرض في مهرجان سندانس الخاص بالسينما المستقلة في الشهر الماضي ونال احدى جوائزه. واقعي الوصف فيه لمسات انسانية كثيرة. ومع انه يتعثر في نصف الساعة الاخيرة بحثاً عن نهاية مناسبة، الا انها اذ تأتي تمحو الدقائق التي سبقتها من ضعف. الدراما الاجتماعية كما كانت سينمات مصر وايطاليا واميركا اللاتينية تقدمها ثم توقفت. من ايرلندا "صبي الجزار" * * فيلم بالغ الادعاء من مخرج بالغ التكلف. احداث حقيقية يصيغها المخرج في فيلم لا مشاعر فيه. بطله صبي صغير وشرير لا يتورع عن السرقة والكذب ولاحقا القتل تبعاً لعقد داخلية منابعها غير محددة تماماً أو معروفة بسبب من مضي المخرج عنها واكتفائه، احياناً، ببعض اللحظات التي تتحدث عن فقدان الصبي لحنان الأب وللصداقة. مثل هذا الفيلم يجعل أي عمل يحمل نسمات ايجابية معبرة عن حب للحياة درة قيّمة. من بين هذه الافلام مثلاً "الاغنية القديمة ذاتها" * * * للمخرج الفرنسي الكبير ألان رينيه. الفيلم، الى جانب الفيلم الفرنسي الآخر المشارك والأقل جودة "جين والصبي الرائع" لأوليفييه دوكاستل وجاك مارتينو، يعمد الى الاغنية خلال سرد قصص حب متشابكة. أسلوب رينيه الذي يتطلب صبراً جميلاً للوقوع في اسره، لا يزال واحداً من تلك الاسباب القليلة التي يلجأ فيها الناقد أو المشاهد للسينما الفرنسية طلباً للمختلف. الشارات: * ضعيف جداً، * * وسط، * * * جيد، * * * * ممتاز، * * * * * تحفة.