ارتباك السياسة الخارجية الاميركية مرشح للتضاعف هذين الاسبوعين بسبب تقرير منتظر للمحقق المستقل كينيث ستار الى الكونغرس يورط الرئيس بيل كلينتون في مسائل كالحزب بعد قسم اليمين ومحاولات تعطيل العدالة والحض على التلاعب على القوانين. هذا الارتباك قد يؤدي الى مزيد من العشوائية والاعتباطية في تناول ملفات دولية، او الى انحسار في الاهتمام بها، او الى مغامرات ضرورية لانقاذ سمعة اميركا فيما سمعة رئيسها تندثر. وهذه الفترة من الدراما الاميركية التي لا تفهمها الاكثرية الساحقة خارج اميركا قد توحي للبعض بأن الوقت مؤات لتسويق اهدافه خلسة لأن الولاياتالمتحدة منشغلة بمصير رئيسها، او لتصعيد ما بافتراضه ان الانشغال المحلي يقضي على المغامرة عسكرياً خارج الحدود. سوء التقدير وخطأ الحسابات واردان في اكثر من منطقة وملف. واذا كان لاجتماع وزراء الخارجية العرب الاسبوع المقبل ان يتسم بالوعي والعقلانية، عليه التعاطي مع مختلف الملفات المطروحة بغاية الاتزان والواقعية والحكمة والتعقل والجدية. فاميركا تمر في مراحل تقلّص وارتباك لكنها مؤسساتياً دولة عظمى لها سياسات استراتيجية دائمة تتعدى الازمات. وزير الخارجية السوري السيد فاروق الشرع سيترأس الاجتماع الوزاري التشاوري في 16 الشهر الجاري قبيل توافد الوزراء الى نيويورك للمشاركة في اعمال الجمعية العامة للامم المتحدة. داخل المنظمة الدولية توجد ملفات ساخنة مثل ملف العراق، وملف ازمة لوكربي بين ليبيا من جهة والولاياتالمتحدة وبريطانيا من جهة، وملف السودان بعد العملية العسكرية الاميركية الاخيرة، وملف مؤتمر مناهضة الارهاب. خارج المنظمة الدولية توجد ملفات اساسية مثل عملية السلام للشرق الاوسط، والعلاقة التركية - السورية المتوترة، بين جملة مواضيع اخرى تهم المنطقة. سورية معنية بأكثر من ملف ولها دور رئيسي يمتد من عملية السلام للشرق الاوسط الى ملف العراق. التحدي الاهم امامها هو ان تحسن القراءة السياسية للاوضاع السياسية القائمة على الصعيد الدولي كما على الصعيد المحلي الداخلي للقوى الرئيسية عالمياً مثل الولاياتالمتحدة وروسيا والصين، وللقوى الفاعلة اقليمياً مثل ايران واسرائيل وتركيا. وكمثال فإن كلام رئيس الوزراء التركي، مسعود يلماز، عن سورية في ختام لقاء له مع الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في رام الله يرمي الى الفتنة بين الفلسطينيين والسوريين كما بين الاردن وسورية. واول ما على الاطراف العربية الثلاثة القيام به هو ايضاح عزمها على احباط اهداف الفتنة التي يتبناها الفتى التركي الذي يسعى الى ان يثبت انه رجل تركيا وهو الهارب منها وبها على صعيد الهوية كما المصير. فمكان كلام مسعود يلماز وزمانه وفحواه لم تكن في محلها اذ انه في مؤتمر صحافي مشترك بينه وبين الرئيس الفلسطيني وجه انتقادات الى سورية متهماً اياها بمساعدة "العناصر الارهابية ومواصلة المواقف العدائية". وقال في ذلك السياق "لقد وصفت سورية زيارتي هذه الى الاردن واسرائيل وفلسطين وصفاً لا يفيد تحقيق السلم في المنطقة إذ قالت انها سبب لزيادة العداوة والبغضاء في المنطقة". واضاف "اذا كنا نتحدث عن العداوة، فعلينا القول ان هذا البلد سورية بموقفه المساند للعناصر الارهابية هو الذي يواصل المواقف العدائية في المنطقة". السيد يلماز دعا اسرائيل الى "قبول المبادرة الاميركية" من اجل دفع عملية السلام، وهو مشكور على ذلك. كما ان السيد يلماز تحدث مع الرئيس عرفات عن تعزيز التعاون "بين البلدين"، فلسطينوتركيا، مؤكداً على "دعم تركيا ومساندتها للقضية الفلسطينية". وهو مشكور مكرراً على هذه المواقف كما على توقيع ثلاثة اتفاقات اقتصادية قيل انها شملت مجالات التعليم والثقافة والشباب والصحة والبيئة الى جانب البحث اللاحق في وضع الصيغ النهائية لقرض بقيمة 50 مليون دولار كانت تركيا وعدت بتقديمه للسلطة الفلسطينية بشروط ميسرة وفوائد بسيطة. ما لا يليق برئيس الوزراء التركي هو ان يوجه انتقاداته واتهاماته لسورية من المنبر الفلسطيني. فالعلاقة السورية - الفلسطينية ليست في حاجة الى تحريض، وكعادة الطرفين في العداوة كافية. كان عليه ان يكتفي باستخدام المنبر التركي او المنبر الاسرائيلي متجنباً توريط الفلسطينيين في حملته على سورية، خصوصاً بعدما سرب مصدر تركي اثناء زيارة يلماز الى عمان ان الاردنوتركيا سيجريان مناورات عسكرية على الارض الاردنية الربيع المقبل، وبعدما قال رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتانياهو انه يأمل بانضمام الاردن الى "نظام أمني" اسرائيلي - تركي. لكن تحاور وتفاهم الاطراف السورية والاردنيةوالفلسطينية ليس مسؤولية رئيس الوزراء التركي كما ان العداء بينها ليس من صنعه. واذا كانت هذه الاطراف غير قادرة على صياغة مواقف مقبولة لها تجاه العلاقة التركية - الاسرائيلية فإن هذه شهادة واضحة على اوهام المصير المشترك "للاخوة" العرب. فكما الاردن يبالغ في اعتباره العلاقات التركية - الاسرائيلية مسألة "ثنائية" بين البلدين وفي غموضه في اطار دوره في العلاقة "الامنية" الثلاثية، ان سورية تبالغ في محاولاتها للتلاعب السياسي في اطار العلاقة التركية - السورية. فالمسؤولون السوريون يؤكدون تكراراً على التمسك بپ"الحوار" مع "الجارة تركيا" وينفون باستمرار ان تكون دمشق تؤوي او تدعم "حزب العمال الكردستاني" بزعامة عبدالله اوجلان. لكن الحقيقة التي تعرفها تركيا، والتي تعمدت دمشق ان تكون انقرة على علم بها، هي ان اوجلان موجود، او على الأقل كان بالتأكيد موجوداً في دمشق اوائل هذه السنة، وان السلطات السورية سمحت لمراسلين لصحف تركية وعربية اجراء احاديث معه في دمشق شرط التظاهر بأن الاحاديث تُجرى خارج سورية او في البقاع في لبنان. هذه حقيقة لا غبار عليها على رغم استمرار النفي السوري بأن يكون اوجلان يعمل من دمشق او تكرار قول مسؤولين سوريين ان اوجلان "لا يقيم في وسرية". فهو قد لا "يقيم" هناك بصورة مستمرة او بصورة رسمية، لكنه "يقيم" هناك كلما ارتأت سورية ان في مصلحتها ابلاغ انقرة ان لديها "ورقة". مثل هذه "الورقة" يقيّد الايدي ويقوّض الاهداف والقضايا الكبرى مثل تأثير العلاقة التركية - الاسرائيلية العسكرية على المستقبل العربي في موازين القوى. ربما سورية تعتقد عكس ذلك، لكن غيرها من العرب يعتبر التكتيك السوري بالغ الاساءة لموازين القوى ومحاولات احتواء مخاطر العلاقة التركية - الاسرائيلية وتحوله الى محور تطوير مثل هذه العلاقة ليس مسألة عابرة في السياسة الايمركية نحو المنطقة وانما هو استراتيجية ثابتة لا تهتز حتى باهتزاز الرئاسة الاميركية. لذلك، يجدر بسورية قراءة خياراتها في هذا المجال على اساس ثبات السياسة الايمركية الدائمة غير المتأثرة بصورة مباشرة بالادارة الحاكمة. فأي ادارة، في الاعتبارات الاميركية، عابرة، لكن اطر السياسات الاستراتيجية دائمة. والقراءة الدقيقة الواعية لمثل العلاقة التركية - الاسرائيلية ليست مطلوبة من دمشق فحسب، وانما من جميع الاطراف العربية، سيما الاردنيينوالفلسطينيين، ذلك ان تطويق سورية ليس ابداً في المصلحة الاردنية او الفلسطينية. فإذا اشتد الخناق قد يخسر الاردن، بصورة جدية، تلك "الورقة" السرية التي جعلته فائق الاهمية وهي ورقة العراق. صحيح ان العداء السوري - العراقي قديم العهد متعدد المواهب من القبلية الى الايديولوجية، لكن الحاجة قد تؤدي الى زواج اضطراري يخدم دمشقوبغداد له ابعاد على الاردن ومكانه في المثلث العربي وفي الموازين الاقليمية. فالاردن ليس واحة استقرار ولن تكون واحة استقراره في علاقة "امنية" مع اسرائيل وتركيا. وبما ان العراق يبدو متجهاً نحو التصعيد في علاقته مع مجلس الامن والولاياتالمتحدة بالذات، لا شك ان دمشق وعمّان تدرسان الانعكاسات من الزاوية الاقليمية كما من زاوية الاوضاع الراهنة على الساحة الاميركية. بغداد قد تفترض ان فضائح الرئيس الاميركي واحتمالات محاكمته او اقالته او استقالته نتيجة تحقيق كينيث ستار في تطورات علاقته الجنسية مع مونيكا لوينسكي ستؤدي الى احراج بيل كلينتون الى درجة تقاعسه وتردده وتجنبه اللجوء الى الخيار العسكري ضد العراق لاجباره على التعاون مع فرق التفتيش التابعة للجنة الخاصة المكلفة بازالة الاسلحة العراقية المحظورة. هذا الرهان ليس مضموناً. ودمشقوعمان تدركان ذلك. لكن العاصمتين تدركان ايضاً ان الاجواء العربية والاسلامية ليست في مزاج التعاطف مع ضربة عسكرية اميركية للعراق تأتي في اعقاب الضربة العسكرية ضد السودان بذريعة تورط مصنع الادوية "الشفاء" بعلاقات مشبوهة مع اسامة بن لادن المتهم بأنه وراء تفجير السفارتين الاميركيتين في تنزانيا وكينيا. فاسرائيل ورطت اميركا في عديد من المجالات، بينها انهيار عملية السلام على نمط اعفاء واشنطن لاسرائيل دوماً ومعاقبتها العرب بشغف واعتباط. وبالتالي ان مشاعر العداء لاميركا واهدافها تزايدت على الصعيد الشعبي ولم يعد سهلاً على الولاياتالمتحدة تسويق ضربة عسكرية ضد العراق او عقاب جدي لمن يخرق الحصار ضده، سورية كان او الاردن او اصحاب السوق السوداء. فأميركا اعلنت حرباً لا تعرف افقها ولا اهدافها في الوقت الذي تقلصت فيه قاعدتها الشعبية في اماكن الحرب المزعومة ضد الارهاب "الاسلامي" اينما كان. لكن اميركا، في الوقت ذاته، سعت وراء تصحيح مواقف تبنتها، وعياً منها او اضطراراً، في ملفات مثل ليبيا والعراق. فهي توافق اليوم على محاكموة المواطنين الليبيين المتهمين بتفجير طائرة بان اميركان فوق لوكربي في هولندا بموجب القضاء الاسكتلندي، فيما كانت رفضت الفكرة لسنوات. وهي تعطي الديبلوماسية مع العراق مداها قبل التلميح بالخيار العسكري بعكس ما كانت تفعله سابقاً. هذا التغيير في المواقف الاميركية، بغض النظر عن الاسباب وراءه، يجب عدم غض النظر عنه باعتباره مجرد افراز للمشاكل الداخلية الناتجة عن ازمة وضعف كلينتون. إذ يكون افرازاً في الاساس لكنه بات واقعاً يجب البناء عليه. فاميركا ليست عبارة عن حكم فرد وانما هي عبارة عن سلطتين تشريعية الكونغرس وتنفيذية الادارة الى جانب السلطة العليا اي السلطة القضائية. لذلك، عند قيام العرب تقويم ملفاتهم ازاء الازمة الكلينتونية، عليهم ألا ينساقوا وراء الظواهر والقشور وانما ان يستفيدوا من اي فرصة مؤاتية. صحيح ان لكل ادارة اثرها في تطور وتطوير اية سياسة خارجية او داخلية، لكن كل ادارة عابرة واميركا لا تقاس بأربع سنوات ولا بثمانية. اخطاء ادارة بيل كلينتون كثيرة سيما نحو الشرق الاوسط والعرب عامة والمسلمين. لكن ربما ضارة نافعة. هذا اذا احسن العرب والمسلمون صياغة استراتيجيات واعية ورزينة ومتماسكة. اما اذا بقيت السياسات العربية بالذات على عهدها فان الاستراتيجي الفاعل سيكون اما في تل ابيب في شخص بنيامين نتانياهو، او في مكان مجهول في افغانستان في شخص رجل غاضب ناقم على السياسة الاميركية ومن يدعمها واسمه اسامة بن لادن. فالحكمة والتعقل والابتعاد عن الاثارة العشوائية وتجنب الوقوع في فخ الفتنة كلها ضرورية في مرحلة الارتباك الاميركي وعهد ما بعد الحرب الباردة الذي لا يزال يصنع نفسه.