بعد مرور أقل من سنتين على الاستنفار العسكري الاسرائيلي على الحدود الجنوبية لسورية… قامت تركيا مؤخراً باعلان حال استنفار مماثلة على طول حدودها المتاخمة لشمال سورية. ونشرت انقرة كدفعة اولى، عشرة آلاف جندي كان تظللهم أسراب من طائرات "أف-16" بينما تولى قمر التجسس الاسرائيلي تزويد القيادة التركية بآخر الصور لتحركات القوات السورية. وفوجئت دمشق بالتصعيد العسكري التركي، كما فوجئت القاهرة التي هرع رئيسها الى انقرة بهدف استكشاف مصدر القلق، والوقوف على دوافع الازمة ومسبباتها، خصوصاً وان الرئيس سليمان ديميريل كان قد طمأن حسني مبارك الى ان علاقات بلاده مع اسرائيل ليست موجهة ضد اي بلد عربي او ضد سورية بالذات. وأكد اثناء زيارته القصيرة للاسكندرية 17 ايلول/ سبتمبر 1997 ان المناورات المشتركة مع اسرائيل ليست اكثر من اتفاق تعاون سبق لبلاده ان أبرمت مثله مع 28 دولة. الرئيس مبارك نقل في حديثه مع ديميريل مشاعرالقلق التي أثارها التحالف المُريب لدى العالم العربي وسواه من الدول المعنية. وقال له ان طهران وأثينا ونيقوسيا أظهرت استياءها ايضاً على اعتبار ان المناورات تمثّل رسالة سلبية الى المنطقة. وأبلغه ان اعتراض طهران جاء نتيجة الاتفاق القاضي باستقبال طائرات حربية اسرائيلية في قواعد جوية تركية، يسهل استخدامها لضرب المنشآت الصناعية والمطارات العسكرية في ايران. لهذا السبب تعتبر حكومة طهران ان التحالف التركي - الاسرائيلي يمثّل تهديداً مباشراً لأمنها الداخلي، ولمصالحها في دول الخليج، ولحليفتها المستهدفة سورية. وصف ديميريل في جوابه احتمال حدوث عمليات عسكرية تركية - اسرائيلية بأنه "أمر غير معقول". كما استبعد فكرة اللجوء الى استخدام القوة، معتبراً ان بلاده دولة مسالمة تنظر الى الدول العربية المسلمة كشقيقات لتركيا. في اطار هذا الانطباع الايجابي الذي تركته زيارة ديميريل للاسكندرية، توجه الرئيس المصري بعد يومين الى دمشق لينقل الى الرئيس السوري رغبة ديميريل في التفاوض بشأن المشاكل المعلّقة بين البلدين. وأبدى الاسد امتعاضة واستغرابه لتزامن المناورات مع اول زيارة تقوم بها الوزيرة اولبرايت للمنطقة كأن اسرائيل وتركيا تتعمدان نسف عملية السلام… او كأن واشنطن تقوم بمحاولة يائسة للضغط على سورية بهدف حملها على تغيير مواقفها المبدئية. وعلى الرغم من هذه التحفظات انتدب وكيل وزير الخارجية السوري السفير عدنان عمران لمهمة تتعلق بإزالة اسباب القلق على نحو يبدد التوتر ويلغي الخلاف. واقترحت دمشق رفع منسوب مياه نهر الفرات الى 750 متراً مكعباً في الثانية يستفيد منها العراق وسورية، مطالبة ايضاً بضرورة وقف انشاء السدود على نهري دجلة والفرات. وشدد المفاوض السوري على الأذى الاقتصادي الذي يمكن ان يصيب "سدّ تشرين" بسبب المشكلة المائية. وهو واحد من السدود الاربعة التي تقيمها سورية على نهر الفرات، متوخية من وراء ذلك بناء محطة كهربائية لتوليد 630 ميغاواط وتخزين بليوني متر مكعب من المياه. وتوقعت دمشق الاستجابة لمطالبها، خصوصاً وان التبادل التجاري بين البلدين تجاوز البليون ومئة مليون دولار منها اكثر من مئة مليون قيمة التجارة الحدودية. الملاحظ ان التطمينات التي قدمها ديميريل لمصر لم تكن اكثر من محاولة تهدئة بهدف تحييد العالم العربي، واقناع دوله بأن التحالف مع اسرائيل يجب الا يؤثر على العلاقات الاقتصادية. علماً بأن تركيا كانت تتراجع بحذر عن التزاماتها نحو الاجتماعات الوزارية الدورية الثلاثية مع ايران وسورية، اي تلك الخاصة بشمال العراق. واستمر هذا الوضع طوال سنتين تقريباً قاطعت انقرة خلالهما اجتماعات اللجان الامنية والمائية والحدودية. وفجأة، اعلنت تركيا اتفاقها العسكري مع اسرائيل في شباط فبراير 1996. وكان من البديهي ان يؤثر هذا التحالف على الاتفاقية الامنية الموقعة بين انقرةودمشق عام 1987. وفي اتفاقية واسعة طالبت تركيا بتطبيقها مقابل رفع منسوب تدفق المياه عبر نهر الفرات الى سورية والعراق. بينما طالبت انقرة بثمن سياسي يمكن تلخيصه بنقطتين مهمتين: الاولى - الغاء لواء الاسكندرون السليب من الخرائط الجغرافية السورية، والتوقف عن المطالبة باسترداده. الثانية - الامتناع عن دعم حزب العمال الكردستاني والجيش الارمني السري وعدم السماح لهما بالقيام بأعمال "ارهابية" انطلاقاً من الاراضي السورية. في حديثه ل "الحياة" 25 ايلول/ سبتمبر قال وزير خارجية تركيا اسماعيل جيم رداً على سؤال حول مخاطر تطويق عسكري لسورية: "اقترحنا على سورية خطة عمل هدفها تعزيز العلاقات، والتغلب على خلافاتنا، والنظر بجدية في مصادر قلقنا المشتركة، وفي كيفية اقامة التعاون الاقتصادي بيننا. كذلك اقترحنا اعلان مبادئ تتحكم بعلاقاتنا عند زيارة السيد عدنان عمران لتركيا قبل شهرين تقريباً. وحتى الآن لم نتسلم جواباً". يقول المتتبعون لمراحل الازمة الاخيرة ان سورية لاحظت مدى الانعطاف الذي طرأ على سياسة تركيا الخارجية، وكيف ان التدخل العسكري بدأ يتحول شيئاً فشيئاً الى علاقات اقتصادية مرتبطة بالمصالح الحيوية الاسرائيلية. وكان الشاهد على ذلك انضمام تركيا الى برنامج الصاروخ "أرو" السهم الذي يتم العمل على تطويره بين اسرائيل والولايات المتحدة. اضافة الى تحديث الف دبابة عاملة لدى الجيش التركي وتحويلها الى طرازات مُحسّنة. ويتضمن التعاون ايضاً برنامج تحديث الطائرات التركية في "مؤسسة الصناعات الجوية الاسرائيلية"، وذلك بموجب عقد بلغت قيمته 650 مليون دولار. وعلى الرغم من نمو التعاون بصورة سريعة، حاولت انقرة التخفيف من وقع تحالفها المريب، مؤكدة لكل من سورية وايران، ان العلاقات مع اسرائيل لا تشكل تهديداً مباشراً لمصالحهما الامنية. وبدلاً من ان تخفي هذا التطبيع الاستفزازي لجأت الى الاسلوب الهجومي متهمة سورية بأنها نقضت الاتفاق الامني الموقّع بينهما عام 1992، والذي أسفر آنذاك عن اغلاق معسكر لحزب العمال الكردستاني في سهل البقاع اللبناني. وادعى الرئيس التركي ديميريل امام الوسيط الايراني الوزير كمال خرازي ان صحيفة يونانية نشرت حديثاً لعبدالله اوجلان، وذكرت ان مراسلها التقاه في منزله الدمشقي. ثم بثّت محطة تلفزيون "ميد" التركية صوراً لأوجلان يتحدث من المنزل اياه. لهذه الاسباب تحركت الحشود العسكرية التركية، وراحت الصحف في انقرة تنشر صوراً مدّعية انها لقواعد حزب العمال الكردستاني على الاراضي السورية واللبنانية. وقالت صحيفة "ملييت" ان هذه الصور وُضعت في ملف تسلّمه الرئيس المصري حسني مبارك، ويتضمن عنوان ورقم هاتف أوجلان في سورية. الاسئلة التي حملها مبارك وخرازي الى انقرة تتناول اسباب تضخيم دور أوجلان في هذا الوقت بالذات، واظهاره بمظهر المهدد الاول للامن التركي، مثله مثل ابن لادن بالنسبة للاميركيين… او مثل حسن نصرالله و"حزب الله" بالنسبة للاسرائيليين. علماً بأن احاديث اوجلان في الصحف العربية تنشر كل اسبوع، دون ان يثير ذلك قلق الحكومة التركية ويدفعها الى استنفار قواتها. صحف دمشقوالقاهرة تحدثت عن أدلة تثبت تورط إسرائيل في النزاع التركي - السوري، خصوصاً وأن خبراء "الموساد" بدأوا اشرافهم على عمليات "الملاحقة الساخنة" منتصف عام 1997، ودربوا الأتراك على استخدام أساليبهم المتبعة في جنوبلبنان، والتي أججت مشاعر العداء، ودفعت السكان في مناطق الاشتباكات إلى حماية أفراد "حزب العمل الكردستاني". ولقد ذكرت مرة إحدى الصحف التركية ان عمليات: الليطاني، والعقاب، وعناقيد الغضب، تدّرس كمادة إضافية في ثكنات قوات الحدود. وفي هذا السياق يرى المحللون ان أوجلان كان الذريعة التي استخدمتها الحكومة التركية بهدف استكشاف النيات الأميركية المبيتة، وما إذا كانت أولبرايت تسعى إلى خلق واقع جديد في شمالي العراق حيث توجد عملياً سلطة حكم ذاتي كردي تحظى بتأييد الأسرة الدولية، ذلك ان المصالحة التي تمت في واشنطن بين مسعود بارزاني وجلال طالباني عززت مخاوف الأتراك، ودفعتهم للاعتقاد بأن قيام سلطة حكم ذاتي على غرار سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني، قد تكون هي الحل الأميركي للأكراد. ولقد شجعت واشنطن على اتخاذ مثل هذه الخطوة حرب الخليج وما أفرزته من تداعيات، الأمر الذي بعث الفكرة المؤيدة من مختلف الأحزاب الكردية بضرورة تطبيق حكم ذاتي كامل وصولاً إلى الاستقلال داخل المناطق ذات الأغلبية الكردية. وهذا ما رفضته جميع الحكومات التركية واعتبرته منذ 75 سنة خياراً خطراً على وحدة البلاد. وكذلك أيدتها في هذا الخيار إيرانوالعراق اللتان تعتبران مطالب الأكراد مسألة داخلية لا يجوز تدويلها. وبما ان الأقلية الكردية في تركيا تشكل ما نسبته سُدس عدد السكان، أي 10 ملايين، فإن نصف الجيش التركي موجود في منطقة شرقي الاناضول بهدف محاصرتهم. ولقد حاولت أنقرة دمجهم في المجتمع عن طريق الاعتراف بلغتهم وثقافتهم، فلم تنجح. كما لم تنجح المحاولات الدولية السابقة في حل قضيتهم القومية لأنهم موزعون بين تركياوإيرانوالعراق وسورية. والطريف أن الأكراد يشكلون أقلية عرقية داخل كل واحدة من هذه الدول. وكل محاولة لتسوية المشكلة كانت تصطدم بمعارضة الدول الأربع التي ترتبط بحدود مشتركة. يوم الخميس الماضي ردت واشنطن على سؤال دمشق حول موقفها من الحشود التركية، بلسان نائب وزير الخارجية ديفيد ويلش الذي دعم الشكوى التركية ونفى وجود أي صلة لإسرائيل بالأزمة مع سورية. ولقد علقت الصحف السورية واللبنانية على الموقف الأميركي المنحاز بالتذكر ان واشنطن هي التي شجعت وباركت التعاون العسكري بين تركيا وإسرائيل عام 1996 بهدف تطويق المنطقة العربية، وإحكام الضغط على أي نظام عربي يحاول التصدي للمشروع الصهيوني. ومع ان التحالف المشبوه لم يعلن إلا منذ ثلاث سنوات تقريباً، إلا أن جذوره تعود إلى بداية التسعينات، أي إلى فترة انهيار الاتحاد السوفياتي الذي أزال عن تركيا التهديد المباشر من الشمال، وفتح أمامها آفاقاً جديدة في القوقاز وآسيا الوسطى وحوض البحر الأسود والبلقان. ومع هذا التحول الجديد أصبحت سورية والعراقوإيران وكردستان العراق هي التي تمثل الخطر الرئيسي على الأمن الداخلي التركي. ومع أن اتفاقات السلام الموقعة مع إسرائيل ومصر والأردن والسلطة الفلسطينية لقيت الترحاب في أنقرة، لأنها أضفت الشرعية على تقاربها مع "تل أبيب"... إلا أن المسار السوري بقي يمثل مصدر ازعاج بالنسبة لها لأنه يؤدي إلى إضعاف نفوذها ودورها في المنطقة. لهذا السبب يرجع بعض المعلقين توقيت الأزمة الأخيرة المفتعلة إلى تحرك المسار الفلسطيني، واحتمال تفعيل المسار السوري على نحو يعزز فرص التسوية. والكل يذكر أنه عندما زار الرئيس الإسرائيلي عيزر وايزمان تركيا للاحتفال بانشاء التحالف، تحدث عن "حركة الكماشة" ضد سورية التي يمثلها الحلف الجديد كوسيلة لدفعها إلى التسوية مع إسرائيل وتركيا. كتب مرة عفرا بنجو مركز موشي دايان يصف التحالف الجديد بأنه تواطؤ بين المُضطهِد القديم للعرب أي تركيا والمغتصِب الجديد أي إسرائيل. ومن المؤكد ان هذا الحلف أحدث تغييراً في مشاعر الشعوب العربية التي لمست مخاطر التهديد الجديد، إضافة إلى تهديد إسرائيل. ومن المؤكد ان هذا التحالف الذي يضم أقوى قوتين عسكريتين في المنطقة، لا يمكن إلا ان يخلق تحالفات مضادة بين القوى التي تستشعر بخطر الدولتين. وهذا ما يفسر التقارب بين سورية والعراق وبين إيران ومصر، الأمر الذي يشير إلى احتمال ظهور سياسة أميركية جديدة تشجع عملية السلام... أو تشجع نقيضها. وبما أن الحلف الإسرائيلي - التركي بدّل في ميزان القوى بشكل مؤثر، فإن نشوء التحالفات المضادة سيصبح أمراً حتمياً لا مفر منه! * كاتب وصحافي لبناني.