هل انتقل العرب اخيراً الى التصدي؟ تدفعني الى توجيه هذا السؤال مؤشرات الى موجة ذعر متزايد في عدد من عواصم الشرق الاوسط في شأن مسار الاحداث في المنطقة. ويبدو ان بعض الزعماء السياسيين والمعلقين في وسائل الاعلام يتنبهون الى حقيقة ان الولاياتالمتحدة واسرائيل منهمكتان في إعادة رسم الخريطة الجيوسياسية للشرق الاوسط. لقد بدأوا يدركون ان واشنطن والقدس انتهزتا الفرصة التي اوجدها عجز العرب وانقسامات العرب والضعف الاضافي الناجم عن تدني اسعار النفط، لتغيير ميزان القوى في المنطقة بشكل دائم لمصلحة اسرائيل. لم يفعل العرب شيئاً يُذكر او لا شيء اطلاقاً حتى الآن لوقف هذا الاتجاه الخطير. ويبدو كما لو انهم لم يكونوا مدركين له او شعروا بأنهم عاجزون عن القيام بشيء لوقفه. لكن هناك الآن بعض المؤشرات الصغيرة الى ان الامور تتغير. رداً على الخطر الواضح بدأت القاهرةودمشق والرياض - وكذلك طهران -، بوسائلها المختلفة، تتخذ خطوات لحماية مصالحها الحيوية اذ اصبحت تدرك الآن انها مهددة بشكل مباشر. تمثل ثلاثة احداث في الفترة الاخيرة مؤشرات الى هذا المزاج الجديد الذي يتسم بتصميم أكبر: الحدث الاول كان اجتماع القمة التي عقدت بشكل عاجل بين الرئيسين المصري حسني مبارك والسوري حافظ الاسد في شرم الشيخ في 1 تشرين الثاني نوفمبر الجاري لتقويم نتائج "مذكرة واي ريفر" التي تُعتبر بشكل عام كارثية بالنسبة الى القضية الفلسطينية. الحدث الثاني هو قرار مصر الاخير برفع علاقاتها الديبلوماسية مع ايران الى مستوى سفراء والسعي الى تحسين العلاقات. الحدث الثالث كان ما ذكرته تقارير في الصحافة المصرية بأن مصر اقترحت على المملكة العربية السعودية عقد اجتماع على مستوى وزراء الخارجية لمصر وسورية والسعودية وايران، كتمهيد لاجتماع قمة لهذه القوى الاربع بهدف التصدي للوض الخطير الذي يجابهها جميعاً. ويُعتقد ان فكرة القمة الرباعية - وهي اكثر فاعلية من قمة عربية غير مؤثرة لا يمكن بأي حال ان تُعقد بسهولة بسبب الخلافات بين العرب - بُحثت في اجتماع مبارك - الاسد، ويُحتمل انها اُثيرت في الاجتماع الاخير الذي عقد في الدوحة للدول الثماني الموقعة على "اعلان دمشق"، اي مصر وسورية والاعضاء الستة لمجلس التعاون الخليجي. تلمح هذه الخطوات مجتمعة الى ان دولاً عربية اساسية بدأت تدرك انه يمكن للجمهورية الاسلامية في ايران ان تلعب دوراً ايجابياً ليس على صعيد امن الخليج فحسب بل ايضاً في عملية السلام العربية الاسرائيلية حيث يجد العرب انفسهم حالياً في وضع غير مؤاتٍ تماماً في مواجهة اسرائيل والولاياتالمتحدة اللتين ترتبطان بعلاقة اقوى من أي وقت مضى. اذا جرى إشراك ايران فعلاً في مداولات العرب، واذا قدمت الدعم لمواقف العرب، فإن ذلك سيدشن عملية اصطفاف جديدة رئيسية في المنطقة مهّد لها التحسن اللافت في العلاقات الايرانية - السعودية وبين ايران والدول الخليجية خلال السنة الماضية. كما أشرتُ، أثارت انزعاج القوى الاربع المذكورة اعلاه - مصر وسورية والسعودية وايران - الاتجاهات الاخيرة في السياسة الاميركية التي يبدو انها مصممة لضمان الهيمنة العسكرية والسياسية لاسرائيل على المنطقة. وتعكس هذه الاتجاهات بالتأكيد النفوذ الاستثنائي الذي اصبحت تمارسه اسرائىل، واصدقاؤها في واشنطن، على محتوى وتوجهات السياسة الاميركية في الشرق الاوسط. في ما يأتي بعض الامثلة الاكثر وضوحاً على انحياز واشنطن السافر الى جانب اسرائيل: التشجيع الاميركي النشيط للعلاقة الاستراتيجية بين اسرائيل وتركيا التي اكتسبت، منذ اعلانها رسمياً في شباط فبراير 1996، زخمها الخاص. ويمثل هذا التحالف بين الدولتين الاقوى عسكرياً في المنطقة - الذي يجري تشجيع الاردن على الانضمام اليه كشريك ثانوي - تهديداً لكل اللاعبين الرئيسيين الاخرين في الشرق الاوسط، وبشكل اساسي لايران وسورية اللتين ستكونان اول من يستهدف. وتنفذ الطائرات الاسرائيلية حالياً مهمات تجسسية ضد ايرانوالعراق وسورية انطلاقاً من قواعد في شرق تركيا. وتقوم اسرائيل، في اطار صفقات تبلغ قيمتها حوالي بليون دولار، بتحديث طائرات "إف-4" و "إف-5" التركية، وتتعاون مع تركيا في مجال تكنولوجيا الصواريخ، وتتقاسم المعلومات الاستخبارية مع تركيا حول العالم العربي. وفي واشنطن، لا يساعد اللوبي اليهودي الاميركي تركيا على التصدي لنفوذ اللوبي الكردي فحسب النزعة الانفصالية للاكراد هي الكابوس المستديم الذي يؤرق تركيا، بل مواجهة جماعات الضغط اليونانية والارمنية ايضاً. وشجّع الدعم الاسرائيلي وضوء اخضر اميركي تركيا على تهديد سورية بتحرك عسكري الشهر الماضي لاجبارها على طرد عبدالله اوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني من دمشق وانهاء دعمها المزعوم لهذه الحركة الكردية الانفصالية التي تشن حرب عصابات ضد تركيا في شرق الاناضول منذ 1984. ينتاب القلق، بالطبع، ايران وسورية اللتين تقفان في الخط الامامي في مواجهة التحالف الاسرائيلي التركي، لكن مصر والسعودية منزعجتان ايضاً. فالصلات العسكرية السافرة بين اسرائيل وتركيا تدق اجراس الخطر في القاهرة حيث يُنظر الى تزايد قوة اسرائىل باعتباره تحدياً لدور مصر الاقليمي. وكان ملفتاً في ذروة الازمة السورية - التركية ان تهرع مصر وايران والسعودية الى دعم سورية، اذ ساهمت الاولى والثانية في نزع فتيل الازمة عبر جهود الوساطة. يقدم الاتفاق الذي رعته اميركا في واي بلانتيشن الشهر الماضي بين الرئىس الفلسطيني ياسر عرفات ورئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتانياهو - الذي يُعرف ب "مذكرة واي ريفر" - مثالاً آخر على الانحياز الاميركي السافر لمصلحة اسرائيل. تمكن نتانياهو، بفضل الدعم الاميركي، من استبدال مبدأ الارض مقابل السلام - الذي يمثل الاساس الجوهري لعملية مدريد وللشرعية الدولية - بصيغة الارض مقابل الامن. وتنازل عرفات عن الكثير ولم يحصل الاّ على القليل جداً في المقابل. ولإرضاء نتانياهو، وتحت ضغوط اميركية كبيرة، التزم حظر حركة "حماس" وتحطيم بنيتها التحتية العسكرية والمدنية وتقديم حماية كاملة لاسرائيل - وهي مهمة تتجاوز بالتأكيد امكانات السلطة الفلسطينية. فحتى اذا جرى تحطيم او احتواء جزء كبير من "حماس"، ستنتقل نواة صلبة منها حتماً الى العمل السري لتواصل معارضتها العنفية للاحتلال الاسرائيلي. لكن نتانياهو سيستغل اي عمل من اعمال العنف لتعليق اي عمليات انسحاب اخرى من الاراضي الفلسطينية. هكذا، كما يصبح واضحاً بالفعل، قد لا تُنفّذ "مذكرة واي" اطلاقاً. وقد يتبيّن فعلاً انها آخر اتفاق يوقع بين عرفات واسرائيل. وسارع المرشد الروحي لايران اية الله خامنئي الى ادانة ياسر عرفات للتنازلات الهائلة التي قدمها لاسرائيل. اما الرئىس حافظ الاسد فانه يأس منذ امد بعيد من استراتيجية عرفات التفاوضية المشينة، ونأى بنفسه عن القضية الفلسطينية التي يعتقد ان عرفات خانها. وكان الرئيس مبارك، في المقابل، مستاءً بوضوح من الطريقة التي تعامل بها عرفات مع مفاوضات "واي". فقد اخفق في إحاطة مصر علماً بشكل كامل في شأن التنازلات التي كان مستعداً لتقديمها واختار، حسب ما يبدو، الاّ يسعى الى استشارة مصر في مفاوضات الوضع النهائى الحاسمة التي يُتوقع ان تبدأ قريباً - رغم ان من المستبعد ان تُنهى هذه المفاوضات اطلاقاً. تستهجن البلدان الثلاثة كلها - ايران ومصر وسورية - الطريقة التي تسعى بها الولاياتالمتحدة لتعزيز وتوطيد التكتل الاسرائيلي - الفلسطيني - الاردني، ما يجعل الفلسطينيين والاردنيين معتمدين كلياً وخاضعين لاسرائيل، وذلك في تحدٍ مباشر لمصالح مصر وسورية الاستراتيجية في المنطقة. وبالاضافة الى "مذكرة واي ريفر" ذاتها، اعطى كلينتون نتانياهو سلسلة ضمانات لم يسبق لها مثيل تضمنتها خمس رسائل: واحدة من وزيرة الخارجية مادلين اولبرايت الى نتانياهو، واربع من السفير الاميركي في اسرائيل ادوارد ووكر الى سكرتير الحكومة الاسرائيلية داني نافيه. تكرر الولاياتالمتحدة في هذه الرسائل "التزامها الصارم امن اسرائيل"، وتتعهد "الاّ تتبنى الولاياتالمتحدة اي موقف او تعبّر عن اي وجهة نظر" في شأن حجم الانسحاب الاسرائيل المقبل من الضفة الغربية، وتوافق على انه "لا يمكن الاّ لاسرائيل وحدها ان تقرر احتياجاتها الامنية"، و"تعارض وستعارض" اعلاناً احادي الجانب باقامة دولة فلسطينية، وتتعهد بعدم عقد اجتماع قمة جديد على غرار اجتماع "واي" من دون "اتفاق كلا الطرفين"، وتقدم تطمينات لاسرائيل بان يقدم الفلسطينيون اسماء كل رجال شرطتهم "وكل المعلومات المناسبة" عنهم، والاّ يزيد حجم جهاز الامن الفلسطيني على 30 الف رجل. مرة اخرى، يعكس حجم هذه الالتزامات الاميركية في حد ذاته مدى التأثير الهائل الذي تمكنت اسرائىل من ممارسته على ديبلوماسية اميركا وصنع القرار فيها. ضمن المؤشرات الواضحة الاخرى على الانحياز الاميركي هو آخر اتفاق دفاع اميركي - اسرائيلي، جرى التفاوض عليه سراً في اروقة محادثات "واي"، ويهدف الى حماية اسرائيل من هجوم صاروخي محتمل من قبل العراق او ايران او سورية. وتلتزم الولاياتالمتحدة بموجب "مذكرة الاتفاق" الجديدة، التي اُبرمت في 31 تشرين الاول اكتوبر الماضي، ان تعزز "قدرات الدفاع والردع" التي تملكها اسرائيل وتطوير التعاون الاستراتيجي والعسكري والتقني الواسع القائم بالفعل بين الطرفين. وتُلزم واشنطن ان تحض على اجراء مشاورات في شأن نوع الدعم او المساعدة، "الديبلوماسية او سواها"، التي يمكن ان تقدمها لاسرائيل في مواجهة "التهديدات المباشرة لأمن اسرائيل الناجمة عن نشر صواريخ باليستية ذات مدى متوسط او ابعد في المنطقة". كما اُفيد ان الولاياتالمتحدة وعدت اسرائيل بمنحها رزمة مساعدات اضافية قيمتها 500 مليون دولار لتعويضها عن اكلاف الانسحابات الضئيلة التي تنوي تنفيذها من الاراضي الفلسطينية المحتلة. وكانت اسرائىل طلبت منحها مساعدة قيمتها 2،1 بليون دولار. احسب ان اخطر تطور اطلاقاً هو تصميم واشنطن، حسب ما يبدو، على اسقاط نظام صدام حسين في العراق، بأمل استبداله بالطبع بنظام مستعد للانضمام الى محور الولاياتالمتحدة - اسرائيل - تركيا - الاردن. وتهدد هذه السياسة، التي تحظى بتشجيع نشيط من قبل اسرائيل واصدقائها في الولاياتالمتحدة، بتمزيق العراق وقد تفتح الباب على مشاكل جمّة يصعب التكهن بها بالنسبة الى المنطقة كلها. وكانت احدى الخطوات الاولى في استراتيجية اميركا المناهضة لبغداد اتفاق المصالحة، الذي رعته في واشنطن مادلين اولبرايت في ايلول سبتمبر الماضي، بين الحزب الديموقراطي الكردستاني بزعامة بارزاني والاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة طالباني، بهدف انشاء نقطة انطلاق في شمال العراق لهجوم على صدام. واقر الكونغرس موازنة تبلغ 97 مليون دولار، صادق عليها الرئىس كلينتون، لدعم ما يسمى ب "قانون تحرير العراق"، فيما بدأت "اذاعة العراق الحر" المدعومة من وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية "سي آي إي" البث من براغ. وقام وزير الدفاع الاميركي وليام كوهين اخيراً بجولة شملت المملكة العربية السعودية ودول الخليج ومصر في محاولة لكسب تأييد العرب لتحرك عسكري اميركي ضد العراق الذي يخوض نزاعاً مكشوفاً مع اللجنة الدولية المكلفة نزع اسلحة الدمار الشامل "اونسكوم". كما سعى كوهين الى اقناع دول الخليج بتقديم الاموال اللازمة لتنفيذ "قانون تحرير العراق"، بالاضافة الى تمويل الابحاث لتطوير نظام دفاع مضاد للصواريخ اميركي جديد لحماية الخليج من أي تهديد في المستقبل من ايران او العراق. وتؤكد كل المؤشرات ان كوهين لم يحصل على رد ايجابي قوي. فمعظم الدول الخليجية تفضل، حسب ما يبدو، سياسة مصالحة مع ايران وإعادة تأهيل تدريجية للعراق بدلاً من تبني موقف معادٍ تجاه هاتين القوتين الاقليميتين المهمتين كما تحض الولاياتالمتحدة. واضح ان هناك قلق متزايد في عواصم رئيسية عدة في الشرق الاوسط ازاء مسار الاحداث. لكن يبقى ان نرى اذا كانت مصر سورية والسعودية ودول الخليج وايران تملك الارادة والشجاعة لتطوير استراتيجية مشتركة متماسكة لمواجهة التحدي الجيو سياسي الخطير الذي تواجهه كل هذه البلدان. * كاتب بريطاني خبير في الشؤون العربية.