تزامنت صورة نشرتها "الحياة" يوم الخميس الماضي لوزير الخارجية الروسي يفغني بريماكوف مع وزيرة الخارجية الأميركي مادلين اولبرايت خلال حفلة في مانيلا على هامش مؤتمر آسيوي، مع مقال لكاتب صهيوني أميركي في "نيويورك تايمز" في الوقت نفسه، تحدث فيه عن اليهود الروس الذين يديرون البلاد اليوم من السياسة الى الاقتصاد الى الاعلام. الكاتب لم يجد لاسامية ضد اليهود الروس، غير أنه انتقد بريماكوف فهو من أصل يهودي غيّر اسمه من فنكلستين الى بريماكوف، التي تعني باللغة الاوكرانية "ابن زوج أو زوجة"، لأن اسمه الأصلي كان سيفضحه كجاسوس لل "كي. جي. بي" في العالم العربي تحت غطاء مراسل لجريدة "برافدا". ولا يمكن ان تجهل الاستخبارات السوفياتية أصل بريماكوف الذي وصل الى أعلى منصب فيها، ثم أصبح وزيراً للخارجية. وكما لم يؤذ الأصل اليهودي تقدم بريماكوف أو اولبرايت، فهو لم يمنع سيرجي كيريينكو من أن يصبح رئيس وزراء روسيا. ومع ان اللاسامية اختفت من كل مكان إلا عندما يريد بنيامين نتانياهو التهويل بها، فهناك عنصرية في عقل كل انسان، ورئيس وزراء اسرائيل مثل واضح عليها ومفضوح. كان ما سبق مجرد مقدمة، فقد كنت اعتقد نفسي مجرداً من أي عنصرية ضد اليهود أو غيرهم، ثم اكتشفت بالتجربة ان الانسان يحتاج ان يعلّم نفسه كل يوم ألا يكون عنصرياً، وان يمارس ما يبشر به الآخرين، ويمتنع عن اصلاح الناس وهو فاسد. وتعود تجربتي الى زيارة الرئيس ياسر عرفات في أيار مايو الماضي للندن، فقد خرجت من فندق كلاريدج حيث قابلته في حوالى التاسعة والنصف وانطلقت بسيارتي نحو بارك لين، لأعود الى تشيلسي حيث كنت على موعد مع بعض الأصدقاء للعب الورق الشدّة. كنت نازلاً بسيارتي في شارع بارك لين الذي يعرفه كل العرب، وقد وصلت الى قرب نهايته، بمحاذاة فندق معروف، عندما رأيت شابة سوداء تركض عبر السيارات من الاتجاه الآخر بمحاذاة هايد بارك. وتوقعت ان تتوقف الشابة عندما تصل الى الحاجز الفاصل بين جزءي الطريق. إلا أنها أكملت الركض وصدمت سيارتي عند الاطار الأمامي الايمن، وقفزت فوق غطاء المحرك، ثم سقطت أمام السيارة. توقفت بسرعة، وخرجت لأجد الشابة تقف، وهي تعرج، وتقول انها كسرت قدمها. وطمأنتها الى أنها لا يمكن أن تكسر قدمها ثم تستطيع الوقوف عليها، ومع ذلك فالصدمة كانت قوية الى درجة ان حذاءها طار من رجليها، فجمعت الفردتين من بين السيارات، وعدت اليها. اقترحت ان نستدعي البوليس أو الاسعاف، فرفضت الشابة بشدة. وعدت أرجوها، وعادت ترفض. وكنت أساعدها في ارتداء حذائها على جنب الطريق عندما رن الهاتف النقال الذي أحمله، فقد استبطأ الأصدقاء وصولي للعب الورق. واعتقدت الفتاة انني أهاتف البوليس أو الاسعاف فعادت ترجوني ألا أفعل. وقلت للأصدقاء انهم لن يصدقوا ماذا أفعل ومع من. ونظرت أمامي الى شابة في نحو الثلاثين من العمر، حسناء سوداء، وقررت انها هاربة من رجل ما، أو انها مهربة خطيرة، أو ان اقامتها غير شرعية. وفي النهاية اعطيت الفتاة رقم هاتفي لتتصل بي اذا تبين ان اصابتها خطرة. وقرر الاصدقاء بعد سماع قصتي انها ستحاول ابتزازي. وهي اتصلت في اليوم التالي، ما جعلني أصدق انني سأتعرض لمحاولة ابتزاز. وعندما زارتني في مكتبي تركت الباب مفتوحاً لتسمع حديثنا زميلتان في الغرفة المجاورة خشية ان يكون هناك ابتزاز. إلا أن الشابة لم تفعل سوى ان تعتذر مني لأنها مسؤولة كلياً عن الحادث، ولم تطلب شيئاً. وسألتها لماذا رفضت استدعاء الشرطة أو الاسعاف، فقالت انها تأخرت عن عملها الليلي في السابق، وتلقت انذاراً بالفصل اذا تأخرت من جديد، فقررت ان "تعرج" الى مكان عملها، بدل مواجهة الاجراءات القانونية الطويلة للحادث. كان ذلك في الرابع من أيار الماضي، وتركني الحادث أفكر هل اتهمت وأصدقائي الفتاة لمجرد أنها سوداء؟ وهل أهاجم عنصرية نتانياهو كل يوم وأنا عنصري من دون أن أعرف؟ أقنعت نفسي بأن الأمر صدفة فأنا ليبرالي معتدل حتى أخمص قدمي، ثم جاء حادث آخر خلال أيام ليعيد التساؤلات الى نفسي، فقد كنت خارجاً مع العائلة بعد غداء في مطعم ياباني قرب ريجنت بارك، وسمعنا صراخاً وجدنا ان مصدره شابة بيضاء وشاب أسود في سيارة مغلقة. كان الاثنان يتحدثان بعصبية شديدة، وقلت لأبني الصغير ان علينا ان نتصل بالشرطة فوراً إذا ضرب الشاب الأسود الشابة البيضاء. إلا أنني لم أكد أكمل كلماتي هذه حتى كانت الشابة تكيل للشاب صفعة مدوية. واعتقدت انه سيقتلها انتقاماً، إلا أنه وضع يديه على وجهه وبكى. وهي اشفقت عليه وعانقته، وانتهت الخناقة بالقبل على مشهد من كل المارة. وقررت بعد ذلك المشهد ألا اتهم شابة سوداء أو شاباً اسود بشيء، ولو ضبطت أحدهما أو الآخر بالجرم المشهود، لأنه لا يكفي ان أهاجم العنصرية في نتانياهو وأمثاله، وأنا أطوي النفس عليها، حتى لو كان السبب الجهل بوجودها. هناك عنصرية كامنة، وأخرى منتشرة، عند أكثر الناس، ولكن السبب عند أكثرهم هو الجهل، وهذا يمكن أن يعالج بالتعليم والتثقيف والمثابرة. أما العنصرية عند اقلية من نوع نتانياهو فهي سياسة واعية تمارس قصداً، وتمثل أحط ما في النفس البشرية، حتى تصبح جريمة. ونتانياهو ليس غريباً عن التفكير العنصري الذي أقام دولة اسرائيل، فبين العرب الارهاب فردي وعشوائي، أما في اسرائيل فهو "مؤسساتي" يدخل في صلب بناء الدولة، ولا علاج معروفاً له. وفوجئت قبل يومين فقط بقراءة تقرير للدكتور روبن أوكلي عن تحقيق البوليس الانكليزي في مقتل شاب أسود هو ستيفن لورنس، سنة 1993، فقد قال ان "عنصرية من اسوأ نوع" ربما أثرت في عمل كل شرطي حقق في الجريمة المتهم بارتكابها خمسة شبان بيض. وزاد ان هناك "عنصرية مؤسساتية" داخل سكوتلانديارد. وإذا كان أفضل بوليس في العالم يخطئ، فإن خطيئتي تهون بالمقارنة. ولكن أشكر شاباً أسود وشابة سوداء على تنبيهي لإصلاح أمر نفسي.