يقدم اللبناني جبور الدويهي في روايته الجديدة "ريّا النهر" دار النهار، 1998 مجموعة من حكايات الجبل اللبناني تستعيد في مناخاتها وطموحاتها عوالم كتابي الدويهي السابقين مجموعة قصصية ورواية لكنها تتجاوزهما أيضاً إذ تصر على حبكة شبه بوليسية كما تفتح أمام تجربة الدويهي أفقاً جديداً على الصعيد اللغوي. فالحبكة شبه البوليسية ناتجة عن "قصة موت معلن". استخدامنا للعنوان الماركيزي ليس صدفة: فالدويهي يستفيد من تقنيات روائية حديثة على نحو أصيل. انها قصة موسى، الرسام الذي غاب عن لبنان، وعن مطعم الدوّار، ثلاثين عاماً، ثم عاد أخيراً ليعيش قرب ريّا وابنها رامي في الأشهر الثلاثة الأخيرة من حياته. موسى سيموت غرقاً في النهر الذي أعطى ريّا اسمها وصنع حياتها. "ألا يسمونها ريّا النهر ليميزوها عن ريّا أخرى تحمل اسم ريّا أبو خطار نفسه؟ عندما تتشابه الأسماء يُفَرِقونها بواسطة اسم الأب إلا هي، فالنهر حصتها". ولكن هل كان موت موسى قضاءً وقدراً؟ ان موته يفتتح القص، لكن هذا المفتتح الكلاسيكي، لن يمضي بنا الى خاتمة كلاسيكية. يلف الدويهي اللحظة الأخيرة من حياة موسى بالغموض: هل نزل الى النهر وجلس فيه كما على "الأريكة" وترك المياه تغمره؟ أم أن ريّا القادمة من خلفه ضربته على الرأس ب"تمثال بيتهوفن"؟ ان موظف شركة التأمين، صاحب السامسونايت، يشكك في براءة ريّا. وريّا ذاتها تتراجع عن المطالبة بحقها في بوليصة موسى أمّن حياته بمبلغ مئة ألف دولار وجعل ريّا - ابنه صديقيه القديمين والعزيزين فؤاد وهند - المستفيدة الوحيدة. هذه الإشارات والتلميحات، بالإضافة الى اعترافات ريّا المتضاربة خصوصاً حول نهار السبت الذي سبق ظهور جثة موسى في بركة الست دلال بعد كوع النهر تؤكد حدوث جريمة. جريمة أداتها تمثال بيتهوفن العنيد كما تسميه ريّا. فهذا التمثال حاضر في بيتها، وبيت أهلها من قبل، هذا البيت المكون من غرفتين فوق مطعم الدوّار القائم كالجزيرة وسط نصف دائرة محاصرة بمياه النهر. ما حكية هذا التمثال الذي يظهر ويختفي؟ هل ضربت ريّا موسى على رأسه؟ تقرير الطبيب الشرعي قد يفيد ذلك. وربما لا. ربما ارتطم موسى بصخور النهر. أين هي الحقيقة؟ هل نصل الى الحقيقة عبر رصد التحولات النفسية عند البطلة ريّا؟ قد تكون هذه الوسيلة الأنجع: ذلك أن ظهور التمثال المتكرر بعد كل محاولة من ريّا لإضاعته أو اخفائه يذكرنا بمشهد الخنجر الشهير في مسرحية شكسبير "مكبت". ومن هنا تبدو الجريمة حاصلة. وأصبح الاتهام ثابتاً على ريّا. لكن أين هو الدافع؟ علاقة موسى بأمّها هند أم بها هي؟ وكيف نحدّد هذه العلاقة بالضبط؟ وهل تشكل علاقات كهذه، في مطعم "سيء السمعة" كمطعم الدوّار دافعاً كافياً لقتل الرسام موسى؟ هذه الأسئلة سوف يطرحها القارىء ما أن يضع هذه الرواية من يده. انها رواية شيقة وتتجاوز بمراحل معظم ما كتبه الدويهي سابقاً، ان كان على صعيد الحبكة والقصص الجميلة الكثيرة والموزعة على مدى الصفحات ال194، أو على صعيد اللغة. فهنا لغة طازجة. والتعبير العامي يدخل في العبارة الفصيحة ويعيد اختراعها. هكذا يتحول النَفَس السردي الى تجربة في المتعة. متعة القصّ ومتعة القراءة المقبلة. الحوارات أيضاً تأتي مقتضبة. لكنها تصيب في القلب. لاحظ مثلاً جملة موسى "يا ريّا أنا لم أغادر هذه البلاد يوماً" التي ينهي بها سرداً عن حياته في لبنان ثم نيويورك، نيويورك الشوارع وناطحات السحاب والنساء حيث عاش ثلاثين عاماً. يأتي انجاز الدويهي مزدوجاً إذاً. كأنه يخبرنا أن أي انجاز على الصعيد القصصي لا بد أن يرتبط عضوياً بإنجاز لغوي. فقصص الريف اللبناني التي طالما أولع الدويهي بقصّها تبدو هنا وقد اكتسبت روحاً جديدة، روحاً مختلفة عن تلك السابقة التي امتلكتها في مجموعته "الموت بين الأهل نعاس" أو في روايته الأولى "اعتدال الخريف". هذه القصص تُنسج هنا بسرعة. لكن القطبة محترفة. والخيط يلتف بذكاء حول الأبرة - المحور: ريّا. انظره مثلاً الفصل الخامس من الجزء الرابع. الفصول غير مرقمة بعكس الأجزاء الخمسة. هنا قصة عن رجل قتلوا أخاه، تدخل الى الرواية بحجة واحدة وحسب: كانت ريّا شاهدة على صعود الرجل المذكور الى سطح والقائه خطاباً تراجيدياً. انظر أيضاً الحكايات الكثيرة التي تتخلل الكتاب: الشحاذ الذي يرمي الفرنكات الصفراء في النهر قائلاً "احفظها لي يا نهر". فؤاد الأعور صاحب العود، ألا يذكّر اسمه فكاهياً بعوّاد ومطرب آخر؟ الأرمني المصور الذي ليس أرمنياً. "طوفة" النهر القديمة القادمة من ذكريات سحيقة لا تزول. ولا تزول لأن الماضي ليس سحيقاً جداً كما اكتشفت ريا إذ عاد موسى "من بروكلين بالطيّارة". كل هذه الحكايات والشخصيات تدخل في نسيج الرواية، تشكلها وتلتحم بها. انها تاريخ النص وعمقه. فقصة كل إنسان هي قصص عديدة لأناس عديدين مضافة الى قصته. هكذا تتألف الرواية وتكون حاصل روايات صغيرة كثيرة. ويبقى المحور ثابتاً عليه تدور عجلة الحكايات: ريّا ابنة هند، هند التي تغزل الجنرال ديغول بجمالها عندما زار الدوّار، هند التي لولاها لضاع الدوّار ربما، لأن الدوّار صنعة نساء وعسكر ومن هنا اسمعة السيئة. وموسى، موسى الرسام الذي هرب الى نيويورك حاملاً ريشته بعدما رسم قديساً على صورة فلاح لبناني ليكتشف لاحقاً أن الفلاح اضطهد أمّه العجوز حتى أماتها. ما هذا الفلاح المملوء بالاستقامة الذي يقتل أمّه؟ هذا السؤال المرير جعل موسى يتوقف عن رسم وجوه البشر. لماذا سافر موسى ولماذا عاد؟ أكان يكر قصة جدته "ماريانا النبّارة" بائعة الكشة؟ وعوضاً عن الكشة حمل روحه على كتفه؟ ولماذا عاد؟ كي يجلس تحت غزّال الحور المتساقط من الشجر فعلاً، ويحس الساحة حوله الكاتدرائية؟ أم أنه عاد فقط من أجل ريّا كما تفيد رسالة أخته؟ وما صلته الفعلية بريّا؟ في لحظة ما قد يشك القارىء في كونها ابنته هو لا ابنة صديقه فؤاد. هذا كتاب يبقى في البال. ربّا بطلة لبنانية فريدة. وصف النهر والدوّار والجبال كما تراها عين رسام وآثار "الطوفة" على الجدران ونفناف الحور، كل هذا وصف جميل. اللغة ممتعة. الغموض الذي يحيط بموت موسى لا يأتي مصطنعاً. والخاتمة تجيء هادئة. دانيال لم يعثر بعد على حجر الفلاسفة قرب "جورة اللزاب" انظر هذه الحكاية الرائعة عن زهرة البرعة، لكن ريّا تعثر على حجرها الخاص. حجر ريّا ليس على علو 2800م. حجر ريّا موجود تحت أضلاعها. انه القلب الذي قرّر أخيراً أن يستسلم للنهر. لن تحاول الحصول على المال من بوليصة موسى، ولن تسعى الى بناء بيت أو للهجرة الى أميركا، سوف تبقى هنا، قرب النهر مع رامي، بيتها مشرّع للغرباء ولداء المفاصل، وسوف تعيش، و"لن تهرب فالحياة لن تحدث في غيابها"