«يصل بي الأمر إلى رغبة حيازة بيت أو ثلاثة بيوت أو أربعة في ثلاثة أو أربعة أمكنة، جدّ متباعدة، أحبها على نحو خاص، تكون هي أمكنة إقامتي. بيت على كتف وادي قزحيا وشقة صغيرة مطلة على نهر السين، وبيت في بلدة الميناء القديمة تمكن منه رؤية البحر عند شاطئ النخلتين، وآخر في سان مالو داخل الأسوار قبالة المحيط، وأنا أعرف تماماً مواقع هذه البيوت. يكون تنقّلي بينها بخفة لا توصف، تشبه خفة الأرواح، أو أتواجد فيها في آن معاً، إذ تكون لي نعمة الإقامة في عدة أمكنة في وقت واحد». هكذا يتصور راوي «آخر الأراضي» حياة ما بعد موته، ذاهباً إلى إقامات متعددة ومؤتلفة استجابة لتكوينه الإنساني وتبلور ثقافته واتساعها، وتجاوزاً للحنين إلى المكان الأول الذي نجد تعبيراته في شعر كثير وفي سرد روائي يقوم على حيرة الروح بين الأمكنة. هذا لا يمنع الراوي من سرد قبسات من تراجيديا الهجرة اللبنانية تعبّر عنها حكايات أقارب وأصدقاء. ولا تذهب الرواية إلى التبشير بكوسموليتية ولا إلى التقليل من شأن الانتماء إلى الأرض الأم، ففيها انسيابات شعرية تمجّد هذا الانتماء وتضعه في خلفية وجدان الراوي أينما توجّه، كما أن الرواية لا تنفي عوامل الافتراق بين الشرق والغرب، لكنها في شبكة الحكايات التي تكوّنها تعبّر عن القلق في مرحلة نعيشها ونتجاوز فيها خيمة المكان الواحد التي تحجب سماء البشر وأفق البعيد المؤدي إلى اكتشاف الآخر، ومعه اكتشاف الذات في صيغتها الجديدة والمتجدّدة. بل إن روح الراوي لا تكتفي ببيوت ثلاثة أو أربعة متباعدة، فتلك مطلب الجسد المعجزة بحضوره المتعدّد وهناءته المستجيبة لعشق التنوع، إنها تطلب ملجأ يقيها التجارب المفتوحة على احتمالات الشر والدنس، ويقترح الراوي ملاجئ مختلفة ككاتدرائية قديمة في مدينة صناعية أو صومعة مهجورة أو بيت حجري منسي، أو محترف رسام أو متحف لآثار نادرة. «آخر الأراضي» رواية السفر، جسداً ووجداناً، وهي أيضاً رواية سفر الروح في الهاجس الذي يحكمها، أعني الموت بأشكاله وتحولاته. ويكون السفر طلباً لاكتشاف الذات أو اكتمالها، ما يجعله مقترناً بالحب الدافع إلى رحلة الراوي في القطار وفي غير القطار، بحثاً عن أخت روحه كلارا التي يجدها أخيراً في آخر الأراضي وفي صيغة الموت- الاختفاء. لقد تعبت كلارا ليس من مرضها إنما من جهدها لإخفائه، ويمكن أن نخاطبها بالقول: تبكين في السرّ. بعد منتصف الليل. تمرضين داخل جدران أربعة. وعند الإعلان تعلنين نهضة الجسد. والأجراس تسمعينها أجراس عيد. كلٌّ يبحث عمّن أضاعه ليكتمل. لا يستطيع الإنسان العيش وحيداً. ويعرض علينا الراوي أن الإنسان لن يستطيع العيش في مكان واحد. في خيمة. لذلك يذهب إلى اكتماله في الحب والسفر. «آخر الأراضي» رواية الطريق والمشّاء اللذين يتمظهران في الكتابة. وهي حفر في الإنسان الفرد فلا ملائكة على الأرض، إذ يكتشف أحد العابرين في الرواية أنه ينطوي على شرّ. يخاف من نفسه ويذهب إلى عزلة وإلى ما يشبه انتحاراً. ليس من مطهر أو أن هاجس النقاء أعماه عن رؤية مطهر ما لينقذ نفسه الأصلية. هي رواية السفر في أمكنة الجمال شرقاً وغرباً، الطبيعة والعمارة، وقلما نرى حشوداً في تلك الأمكنة، كأنّ ضوءاً كاشفاً يركز على الراوي وعلى أفراد معدودين يَذْكُرُهم وما سوى ذلك ظلمة حالكة. ولكن، يكفي منظر جميل واحد ليختصر جمال العالم، ويكفي إنسان واحد لنعرف من خلاله أحوال البشر. أين أنت يا أبا العلاء قائلاً: «أتزعم أنك جرم صغير، وفيك انطوى العالمُ الأكبرُ؟». أمكنة وأزمنة تحضر وتغيب على مساحة السّرد. وليس من خطية في السياق. إنها شبكة حكايات تجد خطّها أخيراً في وجدان القارئ. رواية تشبه نفسها، كلاسيكية في مناخاتها لا في بنائها الذي أراده الكاتب مفتوحاً على الذات القلقة ولكن المنطلقة بلا حدود. رواية السفر في الحياة وملامسة الموت في كل حركة، وهي تعرض إنسان عالمنا الجديد الذي يتخوّف من مصيره فيستعين بالحب والذكريات والتركيز على أشياء الجمال. ولأننا هذه الأيام في لبنان لا بد من الاستدراك: نرى يومياً عاديّةَ الموت في المجازر العبثية، غياب الإنسان بما هو إنسان، الموت وهو يتهيأ ثم يتحقق. ونسأل: هل بقيت دول أوروبا، ومعها لبنان الذي يقاربها في التعدُّدية، أمكنة إشعاع وجذب، أم أن الخوف يدعوها إلى الانكفاء ورفض الآخر لأنه آخر؟ هل بقي الشرق طامحاً إلى إشعاع الروح بعيداً من مستنقعات الخرافة، وهل بقي مصرّاً على نهضاته يستعيدها بعد كل فشل وخراب؟ أم أن الشرق سائر إلى عدوانية مطلقة ينقطع عن العالم من حيث يكرهه ويعتبره عدواً؟ أسئلة خشنة نقحمها في مقام الرواية المتعالي. * كلمة في ندوة عن رواية «آخر الأراضي» لأنطوان الدويهي نظمتها كلية اللغات في جامعة القديس يوسف - بيروت. وشارك فيها أيضاً عميدة الكلية جينا أبو فاضل والكاتبان سمير عطالله وشوقي الريس.