في "العبور الى ضفاف زرقاء" نصاحب ذاتاً شعرية مزدحمة بالموت وتفاصيله" كما كان اختبره محمد بنيس في أو من بعض علاقاته الحياتية والانسانية. ليست المرة الاولى التي يعود فيها الشاعر المغربي الى اعتماد الموت لممارسته الكتابية التي قد تكون في اصلها استجابة ذاتية لمشهد غياب "السيدة" - أو فقدان الأم. غير انها المرة الاولى التي يصبح الموت فيها سيد الامكنة والازمنة" الاوطان والشعراء على السواء. ينقله محمد بنيس كتجربة انسانية وثقافية" عبر نصوص شكلتها كتابة معرفية وتخييلية مفتوحة.. بين المعاناة الشخصية و،الاحساس العام بالفقدان. كلمة "نصوص" التي وسمت العنوان قد تشير الى ما عليه الكتابة في "العبور الى ضفاف زرقاء" من محو للحدود فيما بين الانواع الادبية والخطابات المعرفية، بين الذات الكاتبة وموضوع الكتابة. كأنها عبور برؤى متعددة. اشكال شعرية تبدأ القول وتفتح سؤال الهندسي في اللغة. سرد وتفاصيل حكي تبتغي وصف الرحلة الى أمكنة الموت" واقعية كانت أو تخيلية مفترضة. خطابات" نعم" في سؤال الشعر بما هو اختلاق انساني وضرورة حياتية تهدف الى نسيان ما يكتبه "الغبار" أو الى البحث عن طريق الصمت والمستحيل. اختصار موضوع الكتاب تحت عنوان الموت يحرم من رؤية مجاله المعرفي" الوجودي والشعري اساساً. غير ان في تقسيمه الى فصول ما يعكس اهتمامه النوعي بقضية الموت وهو يلحق بالامكنة وبالثقافات وبالشعر" قبل ان يصبح سؤالاً فردياً شخّصته حالات أمكنة معينة تاريخية أو مفترضة: فلسطين، البحر الميت" التشكيل الهندسي... وحالات شعراء لم يترددوا في الرحيل عن هذا العالم أو اعلان الاستعداد لذلك حالة الشاعر - الكاتب نفسه" بحثاً عن اخوة استثنائية يهبها الموت للعابرين نحوه. وأان الكتاب حوار مع الموت من اجل الاساسي الذي يعلمنا" فانه يتخذ الاشكال القمينة بالتعددية التي ميّزت العلاقة مع تجربته: فردياً وجماعياً. شعرياً وثقافياً. ولذلك تمثلت أهمية الكتاب وفق الابعاد التي ابتغتها الكتابة في: 1- بناء النصوص على خلفية الرؤية المأسوية للذات في تشيُّعها بفكرة الموت، فللمكان وللسفر معنى الانتقال الى فضاء الموت ما دام الجسد سيد العلاقة بين الذات وفعل الانتقال. الجسد المهدد بمعاناته وبجحيم اسئلته. نقرأ في "صرخة الضوء" - التي كتبها الشاعر احتفاءً بأرض فلسطين - حالة جسد مغربي يواجه حيرة المكان ومقاومته للموت بين ما هو تاريخي وما هو ثقافي: "أطأ التراب على عادة اجدادي عندما كانوا يشرفون على ارض يجللها تسبيح الاموات وملائكتهم. أتقدم قليلاً من انتعاشات شاحبة لعل الهواء يسبيني. استبسل في معارضة ما فرضوه من جفاف. احتفي بالشهوة المريبة. أخلد في ضنوني.."، كما ننتهي معه الى مجهول التجربة مع المقدس التي بدت "ضوءاً يُغالب وهن المسافات" وحيث تستعاد لغة الجسد والموت" الرغبة والتألق" في ضوء القدس والمحاصرين" الانبياء والشهداء: "أجل لقد أصابني الضوء".. بل تكاد كل الامكنة ان تكون مدعاة كتابة في الموت. والمغربية منها بالخصوص إذ فاجأت الشاعر - وهو يستحضرها في رسالة الى رامبو - بوضعية الخلاء" صنو الموت. فكل الاماكن التي نادى عليها كأكادير" الصويرة" سيدي الرباط.. في حال الخلاء: "خلاء آخر مسكون بما لا تنساه الامكنة. بقايا حصون أو قباب أضرحة. هي التي تعين المسالك للعابرين. والنهاية دم بدم". -2- تحديد علاقات محمد بنيس مع تجارب صاحبها وكانت ذات أثر متفاوت في معنى الكتابة التي يحاولها بمشروعه الشعري الخاص. يتعلق الامر بالفرنسي رامبو" والمغاربة الراحلين: عبدالله راجع" محمد الخمار الكنوني" واحمد المجاطي. في استعادة اخوتهم الشعرية بالكتاب تبيين للمواقع التي اختاروها لممارساتهم" وتجلية لبعض العوائق التي رافقت شعراء المغرب وهم يرحلون نحو "يُتمهم الخاص" بحثاً عن قصيدة موعودة أو متوهمة بمداد العربية. في خطابه الى الكنوني كتب ما يُجمل الصورة ويطلقها للتأمل: "رافقت في سنة واحدة، عزيري عبدالله راجع، وقد قرأنا معاً في موته مآلنا الجماعي، ومآل الشعر في المغرب.. سافرت الى حيث لا أدري، لتُنصت في سهرة الموت الى شعراء مغاربة قديمين وحديثين، كنت تتأمل حياتهم وموتهم باستمرار.. من لي الآن ان أجالسه لأتعرف معه على تجربة حداد الشعر في المغرب.. أستقصي معه احتضار اللغة العربية واستنطق معه نخلتها الغريبة؟". -3- الإنصات الى ذات شعرية مغربية ضمن بنية مضادة للشعر. سياسياً وثقافياً، تاريخياً ومجتمعياً. بنية تعودت تعميم حالات الموت وطرد الشعراء الى المنافي، قديماً وحديثاً. فيما يحتاج الشاعر الى التسلح بالمعرفة لمقاومة اشكال الإلغاء والتخلص من إكراهات ونبذ المؤسسات في المغرب الذي حوله الفقهاء وسادة الوقت الى منفى: "منفى مضاعف هو وطني. منفى الحياة ومنفى الشعر". -4- تعيين المواقع التي مرت منها القصيدة المغربية وهي تبحث عن تحديث بنياتها عند الشعراء المخاطبين في الكتاب" أو عبر ترتيب العلاقة بين الشاعر - الكاتب ورفاقه ممن كانوا محيطه او بذاكرته القريبة. كما بتحديد اشكال التحديث ومساراته: من الزمن والتاريخ" من علاقات أقامها الشعراء مع الشعر الغربي والعربي" وبالاستفادة من التداخلات النصية والشعرية التي يحبل بها الشعر المغربي نموذج الكنوني في علاقته بالسياب... غير انه من الواضح ان الشهادة الشعرية التي يقدمها الشاعر في هذا الكتاب تتجاوز المخاطبين لتتوجه نحو حاضر ومستقبل قصيدة مغربية مطالبة بتملك وديعة السابقين والدفاع عن حقها في الحياة والحرية، في "الحداثة الآهلة بأسئلة البدايات". بالشعري يستنهض محمد بنيس تمثله للموت اذن" وبه يسافر نحو أمكنة الاختلال والعطب. واعتبار الشعر ضرورة فردية وانسانية تقاوم اشكال الموت والقيم التي نشرتها كتب الغبار هو ما يؤكد العلاقة الوثيقة والضرورية بين الموت والشعر. حيث يصبح الشعري شاهداً على لقاء نوعي بينهما. ينكتبّ باللغة وبالمعيش في أمكنة لا يتردد الشاعر - الكاتب في نعتها بتجليات الموت. تلك رؤيته البادئة: "فأنا من أسفل هذا العالم جئت اليك / مكدوداً / تحملني الاشلاء ليلٌ / نجماتُ البحرِ الميّت / صمت أتبعهُ / ورُعاةٌ في أقصى الموتْ". وبها ينتقل من "الصمت" الى أزمنة الكتابة والمعرفة. يكتب مساراً شعرياً يلتقي فيه الشعراء والأمكنة" الذوات واللغات من اجل ارادة القول وبناء التجربة. بما تمثله من احتمالات وإمكانات معرفية وشعرية تعيد بناء العلاقة بالعالم وبالانسان. * العبور الى ضفاف زرقاء نصوص. محمد بنيس. نشر:: تبر الزمان" سلسلة سراب" تونس" 1998