هل هذا التطواف كلُّه، والاغتراب، والقلق، والحيرة، والانشطار، والارتداد، والاحتراب... بحث عن مكان؟ وأين المكان ولا تطواف يوصل إليه؟ الضائع دائماً. وإن، نادراً، وجده أحد، سرعان ما يختفي، ويكون مكانَ الآخر، لا مكاننا. هل المكان موجود حقاً أم مجرَّد حلم؟ مطمحُ اختراع ناقص الآليات كي يتحول واقعاً؟ أم لا جود له، وما نعتقده مكاناً هو وهمُه؟ أَكلُّ هذه الجغرافيا، ولا مكان؟! نمشي، نمشي، نبدّل بلداناً ومطارح ولا نجده. نبدّل بلداناً ومطارح ولا تتبدّل الظلال المحمولة في أرواحنا، نفيء تحتها ونعتقدها مكاناً. نمشي وأينما نذهب نحمل معنا ظلَّ مكاننا. ولا يبدّل الظلَّ تغييرُ بلاد أو اختلاف مطرح. فالمكان ليس في الخارج. إنه في الداخل. في الذات. لذلك تتشابه الأمكنة. تكاد تكون كلُّها واحداً. لا فرق بينها ما دام مكانك في ذاتك. هل المكان إذن حالة، وليس مكاناً؟ تكونان اثنين، أنت وآخر، في مطرحٍ واحد، لكنكما تكونان في مكانين مختلفين. المكان حالة ذهنية، لا مساحة جغرافية. وهي حالة متقلّبة، مهتزة، متخلخلة، لا يمكن بناء بيت عليها، لا يمكن بناء مكان. لنا أمكنة في الذاكرة. نسكنها هي لا المطرح الذين نحن فيه. الذاكرة الماضي، العالم الآفل والحالات المقيمة. الذاكرة الزمن، التكوين، الوجود الخفيّ، المرايا، الصور المدروزةُ بها جدرانُ أرواحنا. ولنا أمكنة في حالاتنا. وأمكنة في مفاهيمنا، وأفكارنا، ورؤانا، وأحلامنا... لكن ليس لنا مكان في المكان. بل لا مكان في الذات أيضاً. الذاتُ حالات مهتزة، لا يمكن بناء شيء ثابت عليها. تقريباً يكونون يبدّدون الوقت، البشر، حين يبحثون عن مكانهم. لديهم لذة الوهم: النعمة الكبرى للاستمرار. رغبة عدم ايجاد الضائع، لتخليد الحياة. هل المكان، بهذا المعنى، هو الموت؟! شيء جميل ألاَّ نصدّق ذلك. الأوهام نعمتنا، بل نحن نتاجها، فهل نبيع الحياةَ بصدقنا؟! ... ظلُّ الزمن الماشون في المتاهة، الجالسون في الانتظار، الحائرون بين مشيٍ وجلوس، يمدّون أيديهم وأعناقهم وأرواحهم نحو فمٍ، يظنُّونه قبلة الزمن. الواثبون عالياً، والمتدلّون، يتقاسمون خيالاً. ولكن ما الزمن؟ خيال؟ وأين هو؟ هل نعيش في زمن يخصُّنا أم في زمن سوانا؟ هل الحاضر حاضرنا أم ماضي الغير؟ في رياح الوقت العاتية الهابَّة من كل مطرح ووقت، لا يمكن فرز النسمات، ولا امتطاء نسمة نسمّيها وقتنا. لا يمكن، في هذه الرياح، السكن في نسمةٍ خاصة. الهبوب يبتلع الخاصَّ والعام، تختلط الأزمنة والأمكنة في عاصفة، ونصير كلنا في الفضاء. الفضاء حيث لا مكان ولا زمان، بل اختلاط هبوب. كيف يكون مكانٌ في عاصفة؟ كيف يكون زمانٌ حيث لا مكان، ومكانٌ حيث لا زمان؟ كيف نكون ولا زمان ولا مكان؟ نحن الهابُّون، الواثبون، المتدلّون، الماشون في المتاهة، ألا زمن لنا؟ أم أن الجالسين في السكون، وحدهم، استغنوا عن الزمن؟ ... وظلُّ أن نكون هي ظلال، هي ظلال. لا تيأسْ. اضربِ الشجرةَ فتسقط الظلال. اقطعِ الأغصانَ فترَ الشمس. لكن، هل يجب قطع الشجرة من جذورها؟ أم الاكتفاء بذكرى ضوء؟ الذكرى، تكاد تكون كلَّ وجودنا. غير أننا نقطع الأغصان ونبقى الظلال. وفي هذا السباق من يصل إلى الغروب أولاً، الشخص أم ظلُّه؟ نتسابق، نحن وذكرانا، ثم نرتطم بعضنا ببعض ونختفي. نصير غباراً ميتاً. ونحلُّ بعد ذلك في وحل الأحياء. وحْلٌ لم نشأ أن نصنعه. ولا أن نكون فيه. ولا أن نتركه لغيرنا. ولا أن نراه. هي ظلال، ظلال. إقطعِ الشجرة