بأمر ملكي كريم، أُقرت قواعد التسويات المالية مع مرتكبي جرائم الفساد، في خطوة نوعية تعكس التزام الدولة الراسخ بتعزيز النزاهة واسترداد المال العام، مع تحقيق التوازن بين العدالة والمصلحة الوطنية. هذا القرار يمثل نقلة نوعية في منظومة مكافحة الفساد، حيث يتيح الفرصة لتصحيح الأوضاع بطريقة نظامية، ويؤكد أن مكافحة الفساد ليست مجرد شعار، بل نهج متكامل يُترجم إلى سياسات عملية تضمن حفظ الحقوق وتحقيق العدالة الناجزة. المملكة، بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وسمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، تبنّت نهجاً واضحاً لا لبس فيه تجاه الفساد، قوامه الشفافية والمحاسبة واسترداد الحقوق. وقد أثبتت التجارب أن التعامل الصارم مع الفساد يعزز ثقة المجتمع في النظام القانوني، ويهيئ بيئة اقتصادية أكثر جذباً للاستثمارات، وهو ما يتماشى مع مستهدفات رؤية 2030 التي جعلت من النزاهة والشفافية دعامة أساسية للتنمية المستدامة. القواعد الجديدة لم تأتِ كإجراء تقليدي، بل كجزء من نهج مؤسسي يهدف إلى إغلاق الثغرات، وضمان عدم إفلات أي متورط من المسؤولية. وهي ليست مجرد تصالح، بل تسوية قانونية مشروطة بالتزامات واضحة، تشمل إعادة المال العام المنهوب، ودفع العوائد المستحقة، مع وضع سقف زمني محدد لتنفيذ الالتزامات. كما أنها تحمل في طياتها ضمانات صارمة، أبرزها أن أي محاولة لإخفاء معلومات ستؤدي إلى تحريك الدعوى الجزائية، ما يرسخ مبدأ عدم الإفلات من المساءلة. من منظور قانوني، يعدّ هذا القرار تأكيداً على أن العدالة لا تعني فقط العقاب، بل تشمل أيضاً إتاحة الفرصة للإصلاح ورد الحقوق. وهو ما يعكس تطور الفكر القانوني في التعامل مع قضايا الفساد، بحيث لا يكون الهدف مجرد العقوبة، بل استرداد الأموال وتحقيق الردع الفعّال. هذه القواعد ستؤدي إلى تسريع استعادة الأموال المنهوبة وضخها في مشاريع تخدم المجتمع، بدلاً من إطالة أمد الإجراءات القانونية دون تحقيق منفعة اقتصادية مباشرة. ما يميز هذه القواعد أيضاً هو شمولها، حيث لم تقتصر على من لم يُكتشف تورطهم بعد، بل تمتد لتشمل حتى من تجري محاكمتهم حالياً أو صدرت بحقهم أحكام قضائية، مع اشتراط الحصول على موافقة ملكية، مما يعكس التوازن الدقيق بين سيادة القانون وإتاحة الفرصة لتصحيح المسار. كما أنها تحمل بعداً تحفيزياً واضحاً، حيث يُعفى من نسبة العوائد السنوية الإضافية كل من يبادر خلال السنة الأولى، مما يشجع على سرعة الامتثال. هذه الخطوة التاريخية ترسل رسالة واضحة بأن المملكة ماضية في مكافحة الفساد دون تهاون، لكنها في الوقت ذاته تمنح الفرصة لمن يرغب في الإصلاح وفق آلية منظمة. وهذا التوجه، الذي يجمع بين الحزم والمرونة القانونية، يؤكد أن الدولة تتعامل مع الفساد كقضية نظامية يجب معالجتها بطرق عملية، وليس كملف وقتي تُفتح صفحاته ثم تُغلق. المرحلة المقبلة ستكون بلا شك مرحلة مراجعة دقيقة للأوضاع المالية، وتعزيز آليات الرقابة، بما يضمن عدم تكرار مثل هذه المخالفات مستقبلاً. كما أن القواعد الجديدة تعزز من قدرة الجهات المعنية على استعادة الحقوق المالية دون أن تكون التسويات مجرد ملاذ آمن للمخالفين، بل آلية قانونية لضمان عودة الأموال إلى مواضعها الصحيحة. بقي أن نقول إن هذا القرار ليس مجرد نصوص قانونية، بل انعكاس حقيقي لرؤية قيادية تدرك أن النزاهة والشفافية هما الأساس المتين لأي تنمية مستدامة، وأن دولة المؤسسات هي التي تضع قوانين لا تحمي المال العام فحسب، بل تضمن استرداده متى اقتضت الضرورة، بكل حزم وعدالة.