أمير حائل يدشن إنتاج أسماك السلمون وسط الرمال    المسند: طيور المينا تسبب خللًا في التوازن البيئي وعلينا اتخاذ الإجراءات المناسبة للحد من تكاثرها    التعامل مع المرحلة الانتقالية في سورية    جازان: القبض على شخص لترويجه 45 كيلوغراما من «القات»    بناء الأسرة ودور مراكز الرعاية الصحية الأولية    معرض الكتاب بجدة كنت هناك    جمعية(عازم) بعسير تحتفل بجائزة التميّز الوطنية بعد غدٍ الإثنين    البديوي: إحراق مستشفى كمال عدوان في غزة جريمة إسرائيلية جديدة في حق الشعب الفلسطيني    مراكز العمليات الأمنية الموحدة (911) نموذج مثالي لتعزيز الأمن والخدمات الإنسانية    الفريق الفتحاوي يواصل تدريباته بمعسكر قطر ويستعد لمواجهة الخليج الودية    الهلال يُعلن مدة غياب ياسر الشهراني    جوائز الجلوب سوكر: رونالدو وجيسوس ونيمار والعين الأفضل    ضبط 23194 مخالفاً لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود.. وترحيل 9904    الأونروا : تضرر 88 % من المباني المدرسية في قطاع غزة    زلزال بقوة 5.6 درجة يضرب الفلبين    حاويات شحن مزودة بنظام GPS    مهرجان الحمضيات التاسع يستقبل زوّاره لتسويق منتجاته في مطلع يناير بمحافظة الحريق    سديم "رأس الحصان" من سماء أبوظبي    أمانة القصيم توقع عقد تشغيل وصيانة شبكات ومباشرة مواقع تجمعات السيول    بلدية محافظة الاسياح تطرح فرصتين استثمارية في مجال الصناعية والتجارية    «سوليوود» يُطلق استفتاءً لاختيار «الأفضل» في السينما محليًا وعربيًا خلال 2024    بعد وصوله لأقرب نقطة للشمس.. ماذا حدث للمسبار «باركر» ؟    انخفاض سعر صرف الروبل أمام الدولار واليورو    الفرصة مهيأة لهطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    الصين تخفض الرسوم الجمركية على الإيثان والمعادن المعاد تدويرها    المكسيك.. 8 قتلى و27 جريحاً إثر تصادم حافلة وشاحنة    أدبي جازان يشارك بمعرض للتصوير والكتب على الشارع الثقافي    دبي.. تفكيك شبكة دولية خططت ل«غسل» 641 مليون درهم !    رينارد وكاساس.. من يسعد كل الناس    «الجوير».. موهبة الأخضر تهدد «جلال»    ابتسامة ووعيد «يطل».. من يفرح الليلة    رئيس الشورى اليمني: نثمن الدعم السعودي المستمر لليمن    مكي آل سالم يشعل ليل مكة بأمسية أدبية استثنائية    جازان تتوج بطلات المملكة في اختراق الضاحية ضمن فعاليات الشتاء    الرويلي يرأس اجتماع اللجنة العسكرية السعودية التركية المشتركة    مدرب ليفربول لا يهتم بالتوقعات العالية لفريقه في الدوري الإنجليزي    رئيس هيئة الأركان العامة يلتقي وزير دفاع تركيا    لخدمة أكثر من (28) مليون هوية رقمية.. منصة «أبشر» حلول رقمية تسابق الزمن    وزير «الشؤون الإسلامية»: المملكة تواصل نشر قيم الإسلام السمحة    خطيب الحرم: التعصب مرض كريه يزدري المخالف    مآل قيمة معارف الإخباريين والقُصّاص    مهرجان الرياض للمسرح يبدع ويختتم دورته الثانية ويعلن أسماء الفائزين    عبقرية النص.. «المولد» أنموذجاً    99.77 % مستوى الثقة في الخدمات الأمنية بوزارة الداخلية    أميّة الذكاء الاصطناعي.. تحدٍّ صامت يهدد مجتمعاتنا    نائب أمير مكة يفتتح ملتقى مآثر الشيخ بن حميد    «كليتك».. كيف تحميها؟    3 أطعمة تسبب التسمم عند حفظها في الثلاجة    فِي مَعْنى السُّؤَالِ    دراسة تتوصل إلى سبب المشي أثناء النوم    ثروة حيوانية    تحذير من أدوية إنقاص الوزن    ضرورة إصدار تصاريح لوسيطات الزواج    رفاهية الاختيار    وزير الدفاع وقائد الجيش اللبناني يستعرضان «الثنائية» في المجال العسكري    حلاوةُ ولاةِ الأمر    منتجع شرعان.. أيقونة سياحية في قلب العلا تحت إشراف ولي العهد    نائب أمير منطقة مكة يطلع على الأعمال والمشاريع التطويرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رقصة الشيتا مشرئبة العنق
نشر في الحياة يوم 15 - 04 - 1998


عندما نزلنا بمطار أكرا كان الليل الأفريقي قد حل.
أم هل كان ذلك في داكار؟
نزل الركاب القلائل على مدرج الطيران العريض المسفلت ثم مشينا على أقدامنا نحو مبنى المطار .. ساحة المطار مفتوحة تحت القمر المدور الواسع، محمر اللون قليلاً، يصعد بسرعة من الأفق. رائحة الأرض المحترقة الكثيفة تملأ السماء. لم يكن ثَمّ أنوار ساطعة ولا واجهات زجاجية ولا جدران صماء شماء، بل براح غامض فسيح يوحي بأنها قريبة: الأحراج الحوشية الملتفة على بعضها بعضاً في تقارب حميم وعدواني من غلية الغابة، فهل كنت أرى في النور الشحيح من مصابيح المطار الواهنة لون الارض الحمراء الداكنة، أم كان ذلك من وهمي، أو لعله من لعب الذاكرة بي.
أقبل الينا وفد "حزب مؤتمر الشعب" في غانا، يحمل الينا ترحيب الحزب وقائده الاوسافيجو المخلص كوامي نكروما.
كنت أنا ومرسى وبهاء فقط، طليعة المؤتمر الرابع لتضامن الشعوب الافريقية الآسيوية الذي عرفناه في ما بعد بمؤتمر وينيبا. كانت الحرارة، في ايار مايو من ذلك العام الغابر 1965، ثقيلة الوطء، وفي دقائق أقلتنا السيارة الانكليزية السوداء الفخمة الى فندق امباسادور في العاصمة. سوف تأتي جوازات السفر والإقرارات الجمركية، مختومة مصدقاً عليها، في ما بعد.
أزيز محرك السيارة الذي لا مفر منه يصحبنا في رحلة الليل القصيرة الغامضة، تصحبنا على جانبي الطريق احراج الغابة كأنها تتربص بنا وتغول، تسقط عليها أنوار كشافات السيارة الامامية، تنتهكها وتختفي. سوف اقطع هذا الطريق بعد ذلك مرات من اكرا الى البلدة الصغيرة وينيبا التي سيعقد المؤتمر في "المدرسة الايديولوجية" للكوادر الحزبية فيها. منح الاساتذة والطلبة اجازة خاصة، وجند معظمهم، صبيانا وبنات لمرافقة وفود المؤتمر وخدمتهم.
صدمتني اضواء الفندق، وفخامته الفلاحي التي عفا عليها الزمن قليلا، ومع تقدم الليل جفاني النوم تماما، ذهني يدور، كمحرك سيارة في عنفوان حركته، حول مشكلات المؤتمر ومهامه الوشيكة.
بعد الدوش الذي نزلت مياهه عليّ ساخنة جاهزة لا تبترد، آويت الى الفراش، ولكن صعدت الى غرفتي، بلا رحمة، من الملهى الليلي في الدور تحت الارض، اصوات موسيقى الجاز صاخبة، متلاحقة الضرب والخبط والقعقعة، نواح النحاس وسرسعة الكمان وغناء نسوي ثاقب مترام.
ضقت ذرعاً بالأرق والضجيج، فقررت أن أنزل، بعد منتصف الليل، آخذ كأساً لعله يعينني على النوم الذي كنت في أمس الحاجة إليه. معذرة عن اكليشيهات الكلام. الراقصات الغانيات في جوبات ضيقة جدا وقصيرة جدا على الاجسام الفتية المتفجرة الداكنة تتلوى بعفوية وانطلاق كأنما هي التي تصدر عنها الموسيقى، هذه الاجسام هي التي تحرك الموسيقى ترتفع بها وتخبو، وليس العكس، الموسيقى تنبعث فعلاً من هذه الأجساد المرنة اللدنة تدور وتندفع وتنكص وتنحني وتثب، وليس من الاوركسترا الصغير في آخر القاعة.
ومهما كانت الوجوه السوداء اللامعة الوسيمة أو جافية العظام، مخضوبة الوجنات وقحة العيون مضرجة الشفاه بالروج الفاقع، وجدائل الشعر الاجعد مخصوفة او منفوشة، مضفورة أو منثورة، فإنها تظل حميمة القربى من الغابة الأصلية، إن كانت ترقص الآن تحت الأنوار الكهربية الملونة المتقلبة فإنها تظل عارية مدهونة فقط بزيت النخيل، تمارس طقوس العبادة الجسدانية تحت القمر البكر العنيف.
أو هكذا تصورت، في سذاجتي التي لا برء منها.
كان مرسي، بجسمه المدكوك القصير ووجهه المربع الباسم المندى بالعرق وشعره الاكرت القصير يرقص مع غانية رشيقة اطول منه، ببدلته الكاملة والكرافتة والقميص ناصع البياض، ومع ان حركته بارعة ومضبوطة كانت زميلته، بليونة جسدها وتلقائية موسيقاه، تجعله يبدو كأنه دمية محكومة بآلية دقيقة الوقفات والسكنات.
فرغت من كأسي ولم أجد في نفسي أدنى رغبة في النوم
وخرجت الى الشارع الصامت الهادئ.
على بعد خطوات انفسح امامي ميدان السوق النائم، تحت انواره الكهربية الخافتة لأنها عالية على عواميد رفيعة متباعدة، نور القمر الذي اكتمل سطوعه الآن ينصب في قلب الليل.
كانت في ساحة السوق نيران صغيرة متناثرة، تنطفئ ببطء في كوانين من الطوب أو الحجر مثل التي كانت عندنا في الفلاحين، وفي مواقد تفحّ بضعف تستمد غازها من اسطوانات صغيرة، مازالت عليها طاسات طهي أكل السوق، لمحت فيها نفايات عظام شواء، وبقايا عجينة الموز المقلي بزيت النخل نفاذ الرائحة، سوف تلاحقنا هذه الرائحة طول المؤتمر، ونتف لزجة من عجائن طعام غامض القوام واللون لاصقة بأطراف الطاسة الرائحة في سكون هواء الليل فيها حرافة حادة رازحة، فيما عبق ياسمين أو مانوليا أفريقية فيما خيل لي، قوى مع زهمة عضوية كأنها من مخلفات حيوانية.
كانت سيدات السوق هن ملكات هذا الليل.
بدينات جداً، جالسات على اردافهن الهائلة، معتمرات بعمامات ضخمة عالية متعددة الطبقات، ملتحقات بأردية سابغة لامعة منقوشة بزخرفات تبدو في الأنوار الخافتة المخايلة كأنها تحمل طلاسم أو شفرات لا تفض. ملتفات بهذه الأوشحة حول البطون المقببة المكينة، والسيقان الربلة المطوية تحت أعجازهن، وأمامهن عشرات من الأطباق الصغيرة، بلاستيك أو فخار أو المونيوم، بها سوائل كثيفة القوام وعجائن تبدو مخضرة أو قاتمة، ومقاطف ومغالق وسلال من الخوص الطري أو الصلب، ملؤها حبوب جافة وبقول وبهارات نفاذة الفوح تعرفت منها حبوب الكولا والحبهان والمستكة والقرنفل ولم اتعرف غيرها كثيراً، وبعضهن قد فرغن من شغل اليوم، مستلقيات محتضنات رضيعا أو صغاراً يأوين الآن الى وثارة طيات حنان أولى، مستغرقين في غيبوبة نوم مستريح، على حصير دقيق الضفائر متلاصق الخيوط، أو على ابسطة ملونة نصلت زهوتها من زمان، ما زالت عيونهن النجلاء مفتوحة بتسليم وصمت، على الليل وعلى ما يخايل فيه بأنه مجهول ومخوف وغير مسمى.
في السوق، بعد نصف الليل، سكون يوحى بانحسار مؤقت لعاصفة البيع والشراء والفصال والخناق والمصالحات والضحكات والمعاكسات والصفقات التي تموجت وتقلبت وتناوب مدها وجزرها طول النهار وردحا من الليل.
كانت سيارات الشرطة الجيب واقفة على اطراف السوق خالية من عساكرها.
عدت الى غرفتي في الامباسادور ثقيل الخطى ولكن خفيف القلب بشكل ما، ومليء الروح، ونمت على الفور.
سافرت الى وينيبا في الصباح الباكر لكي ابدأ الاعداد الفني للمؤتمر، وبقي مرسي وبهاء ليكونا في استقبال الامين العام والسكرتاريين والوفود.
وكان علي أن اعود إلى اكرا مرات لاستكمال الإعداد.
قطعت الطريق بين وينيبا واكرا في ليل الغابات الموحش الغاص بالتهديد والفزع مرات، اربعين ميلا في الذهاب ومثلها طبعا في العودة، كل مرة، وكان سائقو السيارة الافارقة يذرعون هذا الشوط بسرعة خارقة كأنهم يفرون من حضور الغابة الرازح المحتشد بالارواح والقوى غير الارضية، على جانبي الطريق، تفاجئهم احيانا بيوت النمل الافريقي مبنية من الرمل والهشيم على حافة الغابة قريبة جدا من عرض الطريق تقوم كالابراج بين عشية وضحاها.
في أحد هذه الاشواط انقلبت السيارة برئيس الوفد اللبناني شكيب جابر، ومات. كنت قد عرفته في مؤتمر موشى، طويلا دمثا قائم العود ذكي الملامح ملؤه حماسة القلب بقضايا العروبة والاشتراكية. في اليوم التالي مباشرة انقلبت سيارة اخرى برئيس وفد سيراليون. ج. ت. أ. دالاس - جونسون، على الطريق نفسه، ولقي مصرعه، لكني لا اذكر منه الا وجها مدورا مبتسما داكن السواد يتحدث بلكنة بريطانية فصحى، أم هل تلعب بي الذاكرة مرة اخرى؟
آمازلت احيا مع الموتى؟
اطيافهم الآن اقوى حضورا منهم احياءً.
في القاهرة القت المباحث القبض على عصابة مكونة من محمود زكي حسين وجودة محمد عبدالسميع وشقيقه خميس، تخصصت في نبش القبور، في منطقة منشأة ناصر، وسرقة الجثث المدفونة وبيعها للدارسين في كليات الطب، عثر في حوزتهم على كيس ممتلئ بعظام الموتى وكرتونتين بداخلها 9 جماجم آدمية، واعترفوا بأنهم كانوا يبيعون الجمجمة بمبلغ خمسمئة جنيه وكل قطعة اخرى بخمسين جنيها.
ومع امتهان الموتى في هذ الزمن الذي يستمر فيه ويستشري امتهان الاحياء، وتمتهن فيه هوية البلد وتراثها الذي لعله لم يبق لها غيره، يكتب لنا مختار السويفي أن من التخريف البشع كتاب - أي والله كتاب - يدعي فيه مؤلفه المصري - تصور - أن قوم عاد هم الذين بنوا الهرم. استنادا الى أن احجاره الضخمة يصل وزن الحجر الواحد منها الى عدة اطنان ويستعصى حملها أو رفعها على مقدرة البشر العاديين. أما قوم عاد فقد كان طول الواحد منهم يتراوح ما بين 15 و20 مترا وقيل 49 مترا. وكان الرجل منهم يتمتع بقوة ألف رجل. وأن معابد الكرنك والاقصر ودندرة وادفو وكوم امبو وغيرها من المعابد الضخمة هي بيوت كان يسكنها قوم عاد، ثم جاء الفراعنة فنقشوا عليها نقوشهم وكتبوا عليها اسماءهم، فالفراعنة عنده لصوص وهم اكفر وافجر واطغى خلق الله، كررها ثلاثين مرة في كتاب من ثمانين صفحة، وقال ايضا إن التماثيل الضخمة التي يدعيها الفراعنة لانفسهم والتي يصل ارتفاعها الى عشرين مترا أو اكثر هي لأفراد من قوم عاد سخطهم الله وهم جالسون أو واقفون في اماكنهم، وإن العلماء والمؤرخين الاجانب يعلمون أن قوم عاد هم الذين بنوا الهرم وأبا الهول والمعابد والمسلات.
يروي التربي عوض الله، ناشف الوجه، غائر العينين يلف رأسه وعنقه بتلفيحة ضخمة متعددة الطوايا، أن "حوش الشيخ اسماعيل الحامدي أحد علماء الازهر الشريف بني عام 1935. وفيه 6مقابر مكونة من عين للرجال واخرى للسيدات" في صباح 29 كانون الاول ديسمبر 1996، وفي الساعة التاسعة صباحا ارسلت ابنتي لري الزراعات داخل الحوش كالعادة، ففوجئت بأن المقابر مفتوحة. على الفور ابلغت اصحاب المقبرة ونزلت في حضورهم واكتشفت أن اللصوص نهبوا عظام 23 جثة من ثلاث مقابر خاصة بالسيدات فقط ولم يقربوا مقابر الرجال.
أما الدكتور عبدالرحمن الحامدي الاستاذ المساعد بمعهد بحوث الاراضي والمياه، بسمته الرصين، النظارات الطبية، والبدلة الكاملة، وبداية الصلع، وهو من اصحاب الحوش المنهوب فيقول إن جده كان شيخ مشايخ رواق الصعايدة بالازهر الشريف وان "الشرطة لم تتوصل الى الجناة الذين انتهكوا قدسية المقابر وحرمة الموتى ونهبوا عظام والدتي وشقيقتي وعمتي وبقية نساء العائلة. هناك سر غامض في هذه الجريمة كيف تسرق عظام وجماجم الموتى لطحنها وخلطها بالهيروين وبيعها للمدمنين".
في الحوش الكبير وراء الباب المشبك بأعمدة حديدية طويلة وقوية، ترك الواغلون حصيرة قديمة كانوا ينامون عليها، ربما في اثناء قيامهم بمهمتهم المروعة، وآثار شموع كانوا يعملون في ضوئها المهتز الخافت وهم ينزلون من فتحة المقبرة الى جوفها يستخرجون منها الجماجم والعظام الجافة.
لم يكن ذلك كله جديدا تماما، قبض في الاربعينات على عطار وامرأته وفي حوزتهما كميات كبيرة من الهيروين المخلوط بمسحوق جماجم الموتى، وعثر على سلة بها ست جماجم بشرية، فثم تشابة تام بين لوني الهيرويين والجماجم البشرية القديمة ذات اللون البني الفاتح، تطحن الجماجم في خلاطات خاصة وتمتزج بالهيرويين بنسبة 2 كيلو مسحوق جماجم الى كيلو جرام واحد هيروين خام. فهذه تجارة عظيمة الربح.
في الاربعينات ايضا، في كازينو دوفيل وفي سكاربيه على شاطئ ستانلي، وفي الستينات، في كازينو المعمورة، رأيت ديونيزيوس، هل جاء من اكرا، أم من اثينا؟ وشهدته يرقص الهالي بالي والتويست مع البنات، وكانت السماء الاسكندرانية فسيحة فوق اشجار النخيل والسنط التي تهتز اغصانها مع صرخات الترومبيطة ونواح التشيللو وسرسعة الفيولينة وخبطات الطبل وصفقات الصنوج النحاس، تحفزني كلها، مع نبض السكوتش في دمائي، الى التطوح بإيقاع محكوم مع اوديت، ثم ينفلت الايقاع - والعيار - مع ضربات جنون الموسيقى، نفحات البحر تأتينا من وراء ابراج السكارابيه ووشيش عجلات السيارات القليلة على اسفلت الكورنيش المبلول، ومن وراء السوبر ماركت ومطعم ماكسيم ومبنى التلفون وسور البوص وسعف النخل الجاف، وجاء السبع الاسود تهتز لبدته الشقراء كثيفة الشعر على رقبته المكينة، رفع ذيله الطويل فاصطدم بقدمي العنز، اهتز جذع بان البشري على الحافرين المشقوقين ووثب على السبع فورك عليه وامتطى صهوته وهبط السبع قليلا ليمكنه من اعتلاء ظهره العريض.
الرؤوس تتدحرج تحت اقدام الراقصات، والاعين المفتوحة على ذعر النهايات تجف مع عصف الموسيقى تزول المؤق والحدقات وتبقى محاجر العيون عميقة مظلمة في جماجم صحراوية مكسورة.
تضرع الموسيقى الى السماء المفتوحة لا اعرف هل يستجاب أم يستنكر تلويات اجساد البنات في الجوبات القصيرة بين الساقين تكشف الافخاذ السمراء تسقط عليها اضواء الحبال المغروزة بالمصابيح الكهربية المدورة الملونة معلقة بين جذوع النخل تتذبذب الانوار المتقلبة على حراشيف النخل الخشنة تنانين نباتية قائمة ينوس سعفها باستجداء رحمة لن تأتي، واوديت تلين وتتهاوى بين ذراعي عندما تحس توتري الصلب ملتصقاً بها، تقول بصوت خافت "انت تعرف كيف ترقص".
ولأن المياه كانت مقطوعة عن المدرسة الايديولوجية وعن المؤتمر كنا احيانا نخطف نصف ساعة في الصباح المبكر ونندب من غير ملابس في مياه المحيط التي ترتمي على صخور وينيبا، نختار فجوات يهدأ الماء فيها، بين جزر صخرية مدببة يتموج البحر فيها بالرغوة والغضب، وبين اتساعات ضحلة من مستنقعات ملحية عطنة قليلاً.
بعد يومين اتى لنا المرافقون والمرافقات من طلبة المدرسة، بجرادل ماء حلو، واخترعنا - أو أعدنا اختراع - الدوش التقليدي بأن نعلق الجردل بين قائمتين علويتين ونربط بحبل نجذبه فيندلق الماء بحساب، أو يطسنا بقوة فنشهق من الصدمة، حسب شدة الجذب.
ولذلك امكننا ان ننصب عدة الشغل وعتاده، من آلات كاتبة وطابعات استنسل وخزانات لحفظ الاوراق والوثائق والملفات، وفردنا مناضد العمل واستلقطنا الكراسي من غرف الادارة، وجهزنا ثلاث قاعات متجاورة للترجمة ثم للآلة الكاتبة ثم للطباعة بالاستنسل، وبينها بهو كبير اتخذت فيه قاعدة اركان الحرب، ومعي عديلة وهناء للتوثيق والتسجيل، أما توزيع الوثائق على المندوبين والمراقبين والصحافيين فكان في غرفة ضيقة لها نافذة تطل على فناء المدرسة، وأمامها من الناحية الاخرى، مبنى افريقيا الذي تشغل قاعة الاجتماعات الكبيرة الطابق الارضي منه.
ودارت - كما يقال - عجلة العمل المأثورة.
وفي لحظة انقطع كل شيء.
في قلب السكون المتوتر الرازح، والحرارة الثقيلة كانت الاشجار وحشية الخضرة تسقط من غصونها قطرات المطر المليئة، صامتة، بلا حفيف، لا حراك بها، كأنما تنتظر شيئا لا قبل لأحد به الهواء راكد تحتبس فيه الانفاس.
اقبلت من ناحية المحيط سحابة داكنة صغيرة، ازدادت سرعتها واشتدت حلكتها وهي تتسع وتنبسط لها اجنحة قاتمة عريضة، اختفت زرقة المساء الهواء يفح فحيحا مكتوما يعلو ويحتد فإذا هو صفير ثاقب، الاشجار تتطوح تحت العصف المفاجئ للريح التي اصابتها جنة من دوامات تصدر عنها اصوات كالعواء، اسودت السماء تماما واخذت تزمجر، هزيمها المحتشد يطبق على الافق من كل ناحية، يحيط بمبنى افريقيا ويرتطم بجدران المدرسة ونحن نجري نغلق الابواب وزجاج النوافذ ونحن نقاوم هجمة الرياح، ونضيء الانوار الكهربائية في العتمة النازلة علينا وسط النهار بينما زئير العاصفة يحاصرنا ويهددنا ويضرب قلوبنا كأن سباع الغابة جميعاً تنقض علينا من السماء، أو من حيث لا نحتسب على أي حال، والمطر ينهمر يدق النوافذ والجدران بخبط متسارع ثم بسيول متصلة متدفقة تقذف به الريح يمينا ويسارا فتتلاطم خيوط المطر الكثيفة.
سقطت صواري الاعلام القائمة فوق مبنى افريقيا وانحنت جذوع الاشجار واندفعت اغصانها ملتفة بعضها ببعض الى ناحية ثم الى الناحية الاخرى.
وفي لحظة انقطع كل شئ مرة اخرى.
انقشعت السحابة السوداء. سكنت العاصفة كأن لم تكن قط.
عاد كل شيء ساخناً انفاسا مبللة تثقل الصدور من جديد. الفتيان الغانيون طلبة المدرسة الايديولوجية كلهم في زي موحد: القميص الابيض نصف كم والبنطلون الاسود المستورد من الصين الشعبية تلمع عيونهم السوداء ناصعة بياض المقل، ذكية لماحة، لم تطفئ الايديولوجيا بعد حيويتهم ومراعة صباهم. الفتيات يرحن ويجئن في قاعة المؤتمر وغرف المندوبين ومعنا في السكرتارية الفنية لاكتساب الدربة على الاجتماعات الدولية، لا شك، اثوابهن السابغة الملفوفة ضيقة عند الارداف منسدلة بعدها عند الساقين بفتحة طويلة، عاريات الاكتاف اللامعة بنعومة التمسيد منذ الطفولة بزيت النخيل الذي تلاحقنا رائحته النفاذة في كل مكان، في المطعم المدرسي بموائدة الخشبية وأمامها دكك من غير ظهر، وفي قاعة الاجتماعات، حيثما دخلت علينا فتاة أو فتى يمسح شعره المجعد بالزيت، في غرف الاقامة او العمل أو في المطعم المدرسي على صوت افران الطهي واصطدام المواعين والملاعق أو المغارف المعدنية، حركة الفتيان والفتيات يخدمون اعضاء المؤتمر في المطعم السخن تلف في سقفه مراوح ضخمة تزيد من هبوب الحر وفوح رائحة الزيت، يذهبون ويأتون بخفة ومرح وهم يضحكون، ولكن من غير كبير كفاءة لا بأس، هبر اللحم تهبد أمامنا في الاطباق البلاستيك واعواد خضر السلاطة ضخمة تسد النفس، الوجبة اذ تتكرر يوما بعد يوم ظهرا ومساء عافتها النفوس، فلجأنا الى خزيننا من الجبنة الرومي وعلب التونة والحلاوة الطحينية التي جلبناها معنا من القاهرة احتياطا للطوارئ نفعت.
عندما خرجت من المطعم، كأنني انجو بنفسي، واجهتني العظاية الهائلة كما تواجهني كل يوم ظهرا بعد الغداء.
تتنتظرني في الحديقة الامامية، تنظر الى بعينيها الجاحظتين البراقتين تدوران في كل اتجاه وتتوقفان عليّ، تشب على قدميها الخلفيتين المفرطحتين، ذيلها الطويل بحراشيفه المدورة على الارض، مشرئبة العنق، كأنما على وشك الانقضاض، كأنما تترصدني انا وحدي لسبب لا اعرفه، ولعلني كنت احدس انه إثم ما، لا لست انا .. لست مسؤولا عن القتل، لست مسؤولا عن الموتى .
ام انني - في النهاية - لا مهرب لي.
ما أبعدها - هذه العظاية المنتقمة - من قريبتها الوديعة، السحلية الصغيرة الخوافة، تجري من امامي في غيط العنب او الطرانة.
اما هذا الديناصور المقزم، في وينيبا، فيوشك ان ينقض بين الازهار اليانعة الضخمة فاقعة الالوان متفتحة بشراسة في الحديقة المسورة.
الاماوزنة في خوذتها النحاسية قامت امامي في حديقة المدرسة الايديولوجية تمسك بالرمح الطويل ترفعه فوق رأسها، كأنما تلعب بالشومة في ساحة التحطيب عند مسارح حوريس على ايقاع العازفات بالهارب والعود في اخميم، قميصها يحبك جسدها ويلتف يدور بين ساقيها، يميس وشاحها من على الكتفين وراء الظهر المنسرح، ترقص بالكعب العالي على خضرة ممراع بين قطع شطرنج ضخمة ارتفاعها نصف متر أو أكثر، وجذوع النخل تحيط بهن، سامقة، لا يعتورها سأم.
اتت أنثى الشيتا التي احبها تشم رأسي المجزوز المرمى منذ احقاب على رقعة الرمل بين الزهور الوحشية، وقد اسود وجفت عظامه من زمان ولكنه ما زال ينزف، ودائرة القمر البيضاء حادة الحواف تصب علينا ضوءها البارد القاسي، وهي ترقص حول الرأس المقطوع رقصة ثمل وجذل ترتشف دماء ما زالت طرية بعد كل دهور الفراعين واليونان والقبط والعرب واهل الغرب من الانكليز والاميركان.
العود ايضا ملقي على الارض، بجانب الرأس المقطوع مفتوح العينين، أوتاره ما زالت قوية وسليمة ولكن الاصابع المتمرسة لم تعد تمسها بحساسية المستهام بالصبا والنهاوند، انا هويته وانتهيت، هل انتهيت من هذا الهوى وهل تنتهي منه ابداً؟
تندفع الشيتا راقصة على شاطئ وينيبا وتثب على صخور المكس ترتطم بجسد بان نصف الحيواني نصف الالهي، وتعود خاطفة السرعة كالبرق كأنما سوف تلتقط الرأس المقطوع ثم تنكص عنه وتعود، تهب في رقصتها مشرئبة العنق، انفتح فمها المشقوق عن آنياب اكالة طويلة حادة، رفعت ساقيها الاماميتين في الهواء الرطب المندى بغبش فجر البحر وامتدت ساقاها الخلفيتان مشدودتين الى آخر عضلة مستندتين الى الرمل تحفران فيه تحت مخالبها المسننة بين موائد الملهى الليلي. سكاربيه امباسادور كازينو المعمورة قام عنها اصحابها منذ لاحت تباشير الشفق المخضب بدم السماء. ديونيزيوس ما زال ممسكا بصولجان مجده، مستقرا وراسخاً الآن، عربدته قد استنفدت كل عرامتها، عاريا من كل عنفوان، فج ساقيه وركب الشيتا المنقطة الجسد، رأسها كأنه رأس أفعى ضخمة، تندفع تحته الى كثبان سيدي بشر والمندرة المكسوة بغابات النخيل الهادئة.
14 مسري 1713 - 20 اب اغسطس 1997.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.