مباشرة بعد حال إفلاس ألزمته الفراش نحو عام: إنها الساعة الثامنة صباحاً. ماذا فعلت هذا الصباح؟ سؤال ظريف لكنه فرض نفسه عليّ اليوم.. اليوم صباحاً بعد الإفطار، قررت أن أزور صديقاً في جدة أعرف أنه يجلس في الصباح بعد أن يغسل وجهه، ويتمطى ويحرك عضلاته، ويجلس في مقهى يفتح عادة في السابعة والنصف، فقررت أن أتحرك إلى جدة في نعومة الصباح، وبعد ساعة وصلت إلى المقهى ولم أجد صديقي، لكن بسيطة سأتصل به وأخبره أنني بانتظاره.. هو شاعر وروحه جميلة، ولكن ليس هذا الهدف من ذهابي إلى جدة، وإنما هدفي هو أن أغير المكان، وأرى وجوهاً جديدة وأذرع شوارع طويلة ومزدحمة بالحياة... ورأيت كل ذلك وأنا في سيارتي، وعندما وصلت إلى المقهى وجدت موقفاً للسيارة على بعد خطوات من المقهى، وهو الأمر الصعب لو كان الوقت مساء.. أخذت معي المحمول وشغلته فانفتحت فيه بوابات العالم الافتراضي، وأنا الآن على «فيسبوك».. إنه صديقي الحميم. ونشرت مقالة عن الكتابة واللحظات التي يعيشها الكاتب حين يدخل في لحظة الإبداع.. مقالة قديمة وجدتها لأحد الكتاب في موقع إلكتروني، ولكنها صالحة للنشر من دون مناسبة معينة.. طبعاً أتمنى لو أنني في دبي، في لوبي فندق فخم وعندي من الأيام ما يكفي لأسميها إجازة، أو لحظة استقلال خاصة، وليس ضرورياً أن تكون دبي هي المكان، ولكن هكذا جاءت على بالي.. غير أن هناك أمكنة أجمل، المالديف مثلاً.. الله، لو كانت في المالديف.. لا أريد من المالديف إلا الحيز والهدوء والانفراد بنفسي.. الإنسان يحتاج إلى نفسه لوحده بين وقت وآخر.. لي صديق سافر إلى سيشل العام الماضي، وقال إنها مكان رائع جداً لكل شيء، لكل شيء تقريباً، لذلك من الممكن جداً أن أضمها إلى قائمة الأماكن التي أحلم بزيارتها عند توفر الفرصة والرغبة.. الرغبة موجودة أكيد، لذلك أنتظر الفرصة.. لأخبرك عن نومي.. أنا في العادة أنام حوالى الحادية عشرة والنصف مساء لأصحو باكراً.. أحب الاستيقاظ في الصباح الباكر، لكن صباحاً عن صباح هناك فرق.. الصباح في المالديف يتهيأ لي أنه جميل، وأيضاً في سيشل التي لم أرها بعد، والمغرب طبعاً، والأردن حلوة، وتركيا، يا سلام.. أتخيل أنني أفطرت في مكان جميل في تركيا وشرعت في قضاء يومي بطريقتي.. عندما أسافر أفضل البقاء في الفندق لأجل الكتابة، الكتابة هي سلوتي، حتى في السفر، بل في السفر تحديداً، فأنا لا أذهب إلى أماكن الفرجة الصاخبة، لا أحب أماكن السهر الصاخبة، أحب الهدوء معي.. هناك أشخاص قلة جداً دائماً ما أضعهم في داخلي. يكونون معي وبرفقتي.. حتى وإن لم يرافقوني في السفر، أو لم نتلق منذ زمن بعيد، إنني أحب أن أستحضرهم في خلوتي، هم قلة جداً.. أفكر فيهم وإن باعدت بيننا الأيام، أحادثهم بيني وبيني، ليس اللقاء الجسدي ضرورياً كي نتحادث، بل أزعم أن استحضار الوجوه الحميمة في البال يثري الروح أكثر من المشاهدة واللقاء، أحادثهم وأكتب.. طبعاً بصمت لئلا أزعجهم في داخلي، وهناك أيضاً شركاء الروح الذين أحبهم كثيراً.. أتمنى لو أجد وقتاً كافياً ليكونوا برفقتي حقيقة وجسداً وصوتاً، أنظر إليهم وحتماً ستكون ابتسامتي مختلفة، ابتسامة حقيقية.. أضع يدي على أيديهم وأنا أنظر إليهم، أتحسس نعومة ظاهر اليد، نتشارك حرارة اليدين، ونبضات الدم.. بهذه الصفة ليس مهماً أين نقيم، وليس مهماً حساب الوقت، المهم هو أننا نعيش وقتنا معاً، أسمع وقع أقدامهم وأرى كيف يتحركون، كيف يتكلمون، كيف يضحكون، كيف يجلسون، وكيف ينامون، وكيف يشطح بهم الخيال أحياناً، أتأمل أعينهم.. هم لا شك يمتلكون جمال النظرة وجمال التحديق في الأشياء.. نحتسي قهوة تركية في مذاق واحد، هذا على سبيل المثال.. وأسر لهم أنهم هم وحدهم من يهمني أمره، وأقلق حين يصمتون طويلاً، أو يغيبون فترة من الوقت.. خلصت قهوتي الآن، وصديقي لم يأتِ بعد، لكن معي، في داخلي... من يهمني أمره. .................... بعدها بشهرين قال إنه سيبحث في الصحراء عن شجرة تشبهه: ليس في الأمر صعوبة كبيرة، كل ما يلزم هو التجول في الصحراء، لتجد من أشجارها ما يشرح نفسه على النحو الآتي: 1- ستجد شجرة تمد لأختها القريبة منها غصناً يمسها برفق، هذا هو التربيت على الكتف. 2- ستجد شجرة تفضي ببعض أغصانها إلى أغصان أخرى في طولها، وهذا هو شكل القبلة أو طريقة الحكي. 3- ستجد شجرتين تتلاصقان من الجذع حتى الأعلى، وهذا هو شكل العناق. 4- دقق النظر في مجموعة أشجار متباعدة متفاوتة الأطوال والأعمار، ستجد أن المكان الذي يجمعها أشبه بمنطقة مخصصة للقاءات الطويلة للغاية، بحيث يتسع الزمن لأن تذهب الأغصان ولا تبقى إلا الجذوع، وعلى رغم ذلك يبدو اللقاء كما لو كان، بدأ قبل مجيئك للمكان بدورة قمرية. 5- قد تجد على مسافة من شجرة أغصانها ملمومة إلى نفسها، شجرة أخرى تفرد باتجاهها غصناً أثقل من الريح قليلاً، هذا هو التلويح بين الأشجار في العادة. 6- من المحتمل أن تجد شجرة مقطوعة من منتصف الجذع وإلى جوارها غير بعيد عنها، شجرة يشوبها الحزن، قد التوى جذعها إلى الجهة المعاكسة، وهذا هو الشعور بالفقد. 7- ستجد شجرة وحيدة في منبسط واسع، اقترب منها وأمعن النظر في جذعها الذي قد يكون انتزع منه بعض اللحاء، ستجد علامة بالفأس في جهة من الجذع، وهذا يعني أنها ضربة فأس أعملها الحطاب في الشجرة ليخبر بقية الحطابين أنها في حوزته، وأن أوان قطعها ليس إلا مسألة وقت. 8- إن كنت محظوظاً فصادفت وادياً ماؤه غزير، ستجد حتماً أشجار الضفتين تمد أغصانها إلى بعضها البعض. هذا هو ميثاق الماء ما دام جارياً. 9- أنظر إلى أعلى تحت كل شجرة، ستجد قصة الشجرة كلها في الأغصان. 10- والكثير من الأشجار ستبقى خارج رؤية العين أينما ذهبت، دعها لرحلات أخرى. 11- في النهاية، إن كان لديك بعض التواضع، ستعترف بينك وبين نفسك أن الأشجار أقدم من الإنسان في تعلم أساليب العيش الفطري الآمن من بعضها البعض من دون حرج. ............................. من دون تحسن في الوضع استمر يؤلف رحلته هذه على دفعات: - مسافراً لا يزال. - يبدل عجلات سيارته بسبب استخدامها في الطريق لمسافة طويلة وليس لعطب فيها. - ويكون قد قطع آلاف الأميال حينها. - ورأى الكثير في سفره. - وقابل في كل منطقة يدخلها أناساً طازجين مقارنة بقِدَمِه في عينه. - يتذكر جيداً كم أعولت ماسحات الزجاج تحت المطر. - وكم صفقت الريح بيديها فانخرط الغبار في نشيجه الخانق. - وكم من المرات نام في العراء أقل من ساعة واستأنف السير. - وأرق كما يأرق الغرباء. - وأصيب برشح المسافات الطويلة. - ورافقه مغص الأطعمة الأجنبية. - وأحب حب العابرين. - وبكى من الشوق لنفسه وحيداً. - واستمتع بقرقرة بطنه من الجوع. - وتثاءب فتذكر أنه لما كان صغيراً كان يرفع رأسه إلى أعلى حين تأتيه الحالة. - ولما شاهد معركة حامية بين مجموعتين من الكلاب طرب حد أنه كشف عن رأسه متحسساً آثار الحجارة والعصي في معركة مشابهة. - وذات مرة قالت فتاة: «ما أجمل الشيء حين يكون له آخر»، فتأكد من رقم الصفحة وعنوان الكتاب وصرف النظر عن كونه حلماً أم حقيقة. - ما جعله يلجأ لهذا الحل أن الفتاة في الكتاب قالت عبارة يعرفها جيداً. - في سفره المستمر، نقصت في جواله قائمة الأرقام ذات الوميض الناتج من الفراغ والشعور ب«الطفش». - وتزايدت في المقابل قائمة الأرقام المسرحة من الذاكرة. - في مطعم على الطريق سأله النادل: لماذا تذكرني بأخي كلما نظرت إليك؟ - وأين هو أخوك؟ - في السجن باليمن. - هل أشبهه؟ - إلى أبعد حد. - عندها طلب من النادل أن يعيد إليه طبق الطعام الذي رفضه قبل دقائق. - واستمع في المذياع إلى أغنية سودانية عرف بعد انتهائها أن الفنان هو محمد وردي، واسم الأغنية «الحزن القديم». - استمع إليها ليلاً وكان بمحاذاة البحر ورائحة الشاطئ تلعب بأنفه. * روائي وقاص سعودي.