اسفرت الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية في كولومبيا التي جرت يوم الاحد 21 حزيران يونيو الجاري عن فوز المرشح المحافظ اندريس باسترانا بعد معركة انتخابية متعادلة، خصوصاً ان الجولة الاولى من الانتخابات اشارت الى تقدم مرشح الحزب الليبرالي هوراثيو سيربا بفارق طفيف. وكان فارق عدد الاصوات حوالى 300 ألف صوت لصالح المرشح الليبرالي الذي يحظى بدعم رئيس الدولة. ويبدو ان الاصوات التي حصلت عليها المرشحة المستقلة تويمي سانين، ووصلت الى ثلاثة ملايين صوت، كانت حاسمة في ترجيح كفة المرشح المحافظ في الجولة الثانية، على رغم ان المرشحة المستقلة لم تحاول دعوة المتعاطفين معها للتصويت لصالح مرشح من دون آخر، حتى تحافظ على مكانها في الحياة السياسية لبلادها في حال فوز احدهما. لكن المرشحة دعت بشكل غير مباشر للتصويت لصالح المرشح المحافظ، لأن دخولها حلبة الصراع على رئاسة كولومبيا كانت منذ البداية محاولة منها لاقصاء الحزب الليبرالي الذي ينتمي اليه الرئيس الحالي ارنستو سامبر المتهم منذ توليه الرئاسة بالحصول على اموال من مافيا المخدرات، وانه استخدم تلك الاموال في الدعاية الانتخابية مقابل تعهده لرجال المافيا باصدار قانون يمنع تسليمهم الى الولاياتالمتحدة في حال القاء القبض عليهم، او صدور اوامر بالقبض عليهم عن طريق البوليس الدولي الانتربول. يؤكد المراقبون ان الدعم الذي وجده المرشح المحافظ اندريس باسترانا من بعض الشخصيات العامة المعروفة في كولومبيا كان ايضاً سبباً في حصوله على الاصوات التي حصلت عليها المرشحة المستقلة خلال الجولة الاولى من الانتخابات وعلى رأس الشخصيات العامة التي دعت للتصويت لصالح المرشح المحافظ كان الكاتب العالمي المعروف غابرييل غارثيا ماركيز، على رغم اختلاف الايديولوجية بينهما، كان ماركيز رافق المرشح في عدد من جولاته الانتخابية في البلاد، اضافة الى انه رافقه خلال جولة في العواصم الاوروبية في فترة سابقة على الانتخابات للدعوة الى "مصالحة وطنية" من خلال برنامج يجب ان توافق عليه الحكومة والمجموعات المسلحة التي تعمل في احراش كولومبيا. واستخدم ماركيز نفوذه لتقديم المرشح الرئاسي المحافظ الى عدد من الزعامات الاوروبية التي تملك نفوذاً قوياً في اميركا اللاتينية، مثل رئيس وزراء اسبانيا السابق الاشتراكي فيليبي غونزاليس. يبلغ الرئيس الجديد لكولومبيا، الذي سيتولى مهمات عمله رسمياً في آب اغسطس المقبل من العمر 44 عاماً، وله تاريخ طويل ومتناقض في عالم السياسة. كان والده ميسائيل باسترانا رئيساً سابقاً لكولومبيا، اي انه ولد في بيت سياسي، وحضر في طفولته جولات انتخابية وسياسية كثيرة، سواء في عهد رئاسة الاب، او اثناء تولي الأب لعدد من المناصب الوزارية في الحكومات المحافظة السابقة في كولومبيا. وعاش اندريس باسترانا حياة الطفولة والمراهقة منغمساً في المجتمعات الراقية، وحصل على تعليمه في افضل المدارس، وعاش ايضاً التحولات التي حدثت خلال الستينات والسبعينات من هذا القرن في اوروبا الغربية، لانه كان قادراً على السفر الى خارج بلاده نظراً لقدرات اسرته المالية، وهذا الوضع استخدمه منافسه للتقليل من شأنه في اعتباره مرشح الطبقة المرفهة. عاش في مراهقته الحياة "الهيبية" والفوضوية بكل ما كانت تمثله تلك الحركة في اوروبا والولاياتالمتحدة من توجه يساري، بل يقال انه اطلع على الفكر الماركسي على يد احدى الهنديات في بلاده، وشارك في مناقشات مع زملائه عن الحرية والفقر والحاجة وطالب بتغيير حقيقي في التركيب الاجتماعي لبلاده. شارك في مراهقته في اول تجربة سياسية عندما كوّن مع صديقتين له جماعة، وجهت جهودها لجمع التبرعات وتقديمها للفقراء وغير القادرين في بلاده. وعلى رغم نجاحه في دراسة القانون عمل في الصحافة، خصوصاً في التلفزيون وسافر خلال تلك الفترة الى العديد من دول العالم وأقام صداقات متعددة الاتجاهات. ويرى البعض ان تلك الصداقات خلال فترة العمل الصحافي فتحت له ابوب العالم الخارجي، ووضعته على صلات مباشرة مع مراكز القرارات الدولية، وخصوصاً الولاياتالمتحدة التي تحكم الحركة السياسية الداخلية في كل دول اميركا اللاتينية تقريباً. ودخل عام 1988 صراعاً غير متكافئ للحصول على منصب محافظ العاصمة بوغوتا، واستطاع ان ينجح في الانتخابات على رغم كل التوقعات التي اشارت الى هزيمته ومنها توقعات الاب الرئيس السابق للبلاد، الذي طلب منه ان ينسحب من الانتخابات لأن الحزب الليبرالي كان يسيطر على كل حركة في العاصمة. نجح اندريس باسترانا في منصب محافظ العاصمة، لكنها كانت فترة عصيبة، حين كانت مافيا الكوكايين تصفّي حساباتها في قلب العاصمة، التي شهدت في عام واحد اكثر من 130 هجوماً بالقنابل والسيارات المفخخة، التي راح ضحيتها عدد كبير من المواطنين، واستطاع زعيم "كارتيل دي ميديين" السابق بابلو اسكوبار ان يدخل مكتبه ويتخذه رهينة طوال اكثر من ثماني ساعات، وكانت حياته مقابل رفع الحصار عن زعيم كارتيل دي ميديين. وانتهى الاختطاف بمصرع بابلو اسكوبار الذي تابعه الناس على التلفزيون. الحظ الذي حالف اندريس باسترانا طوال حياته السياسية تخلى عنه فجأة في الانتخابات قبل الاخيرة، عندما كان مرشح المحافظين في مواجهة ارنستو سامبر الرئيس الحالي لكولومبيا، وعلى رغم ان باسترانا كان واثقاً من فوزه في الانتخابات، دفعته هزيمته الى ارتكاب عدد من الاخطاء السياسية غير المتوقعة، حين قام باجراء عدد من التسجيلات السرية التي تؤكد ان الرئيس ارنستو سامبر نجح في تلك الانتخابات باستخدام اموال قدمتها له "مافيات الكوكا" في كولومبيا، وبدلاً من تقديم تلك التسجيلات الى القضاء الكولومبي لاتخاذ الاجراءات القانونية المناسبة ضد الرئيس المنتخب، قام بتسليم نسخة من تلك التسجيلات الى سفير الولاياتالمتحدة في بوغوتا ما اسفر عن انفجار فضيحة سياسية قررت على اثرها الولاياتالمتحدة سحب تأشيرة دخول اراضيها من رئيس كولومبيا. ولم تسفر تلك الفضيحة في كولومبيا عن اي نتائج بل اصبح باسترانا في نظر قطاع كبير من الجماهير خائناً وجباناً وعميلاً للولايات المتحدة، لأنه لم يواجه الرئيس المنتخب في ساحات القضاء الوطنية. بعد فوز باسترانا في انتخابات الاسبوع الماضي اصبح عليه ان يستعد من الآن لمواجهة وطن منقسم على نفسه، ويعيش حياة من العنف اليومي الذي اصبح مألوفاً. كولومبيا في حالة حرب حقيقية غير معلنة، رئيسها الحالي مشتبه في تعاونه مع "مافيات الكوكا"، وعدد من وزرائه في السجون او يخضعون للتحقيق بسبب فسادهم، ونصف اعضاء البرلمان يعلنون تعاونهم مع مافيات المخدرات، سواء مع "كارتيل دي ميديين" او "كارتيل دي كالي". الوضع في كولومبيا الذي سوف يرثه اندريس باسترانا عن الرئيس ارنستو سامبر عبارة عن حال اقتصادية متردية بسبب المعارك اليومية التي تخوضها قوات الامن والجيش ضد رجال حرب العصابات، انها حرب متعددة الجبهات، رجال عصابات مسلحون وينتمون الى اكثر من دستة مجموعات ثورية، تضم حوالى 20 ألف مسلح، في مواجهة حوالي 6 آلاف مسلح ينتمون الى جماعات يمولها الجيش او اثرياء الاقطاع، وهناك اكثر من 10 آلاف مسلح لقتال الجميع وفي كل الجبهات يمولهم "مافيات الكوكايين" و100 الف جندي هم عدد الجيش الكولومبي الذي لا يسيطر على اكثر من 40 في المئة من ارض البلاد. من بين هؤلاء 25 ألف من الجنود المحترفين، بينهم 10 آلاف ضابط مرتباتهم تستهلك اكثر من 90 في المئة من موازنة الجيش، وما يتبقى من الموازنة لا يكفي لأي شيء. لهذا يعيش الجنود على النهب والسرقة، وفي احيان كثيرة يعيشون على هبات "مافيات الكوكايين" مقابل غضّ الطرف عن افعالهم، عندها يصبح الفلاحون الابرياء هم الضحية الحقيقية للجيش العاجز. كل ما يضمه برنامج الرئيس الكولومبي الجديد يعتبر نوعاً من الطوباوية، لأن الوضع صعب ومتفجر، لأن مزارع الكوكا تعتبر المحصول الرئيسي للبلاد، وتمثل جانباً لا يستهان به من الدخل الوطني، ولا يمكن حل مشكلة المخدرات في كولومبيا الا عن طريق الحصول على دعم عالمي يشك المراقبون انه ممكن في الوقت الحالي، لان بعض الدول الكبرى تستخدم الارتباط الشرطي ما بين تجارة المخدرات وتجارة السلاح لتبيع المزيد من السلاح في مناطق كثيرة من دول العالم الثالث، ومنها اميركا اللاتينية