شبح الاشتراكية العلمية الذي داهم أوروبا والعالم من مطلع القرن الحالي 1917 إلى نهايته 1989 يعود في قسط منه الى التأثير السحري الذي مارسه "بيان الحزب الشيوعي" المكتوب بلغة بيانية، تعبوية فاتنة، وبحمية دينية دنيوية لافتة. هناك قرابة فكرية كبيرة بين الايديولوجيا والدين، بل ان الايديولوجيا هي دين عصري، ومن ثمة وجود مقولات دينية في كل منظومة ايديولوجية. الايديولوجيا، كالدين، تقدم تفسيرات لكل مظاهر الوجود الانساني. فهي، في حالة الماركسية، تفسر التاريخ البشري بأنه تاريخ الصراع الطبقي في المجتمعات الانسانية. وكل مظاهر الحياة في المجتمع تعود الى هذا العنصر الدينامو المحرك: الاقتصاد، الذي يفسر السمات السياسية والتحولات الفكرية والتطور التكنولوجي، والملامح القانونية، وكل أشكال الوعي بما في ذلك الوعي الماورائي نفسه. يقوم التفسير الايديولوجي بتقديم تفسيرات تبسيطية اختزالية تمكن المنخرط من اقفال باب الفكر والاجتهاد بترديد هذه الخطاطات الاختزالية التي تختزل تعقد الظواهر البشرية في ثنائيات تجتمع فيها بشكل مثير القدرة التفسيرية بالقدرة التبشيرية من قبيل ان المحرك الأساس للتاريخ، ومفتاحه هو الصراع الطبقي، وان الصراع القائم في المجتمعات الحديثة هو الصراع بين البورجوازية والبروليتاريا، بين رؤيتين للعالم احداهما ايديولوجية ومحافظة هي الرؤية البورجوازية والأخرى علمية وثورية وهي الرؤية الاشتراكية "العلمية". ومن قبيل جدل التاريخ، وجدل الفكر، بل جدل الطبيعة ذاتها، والبنية الفوقية والبنية التحتية، وقوى الانتاج وعلاقات الانتاج، ومن قبيل تحنيط مراحل التطور البشري في مسلسل يبتدئ بالمجتمع العبودي، فالاقطاعي، فالبورجوازي، فالاشتراكي. هذا التفسير التبسيطي ملازم لتحول الفكر الى خطاطات جاهزة للتدخل العملي وللممارسة اليومية، لأن مهمة الايديولوجيا ليست الحض على التفكير بل ممارسة الاعتقاد، وانهاء حالة التوتر الذهني والنفسي وحالة القلق الناتجة عن غياب اقتناعات، ويقينيات، ومهام تعبوية. التفكير المعمق، بما يصحبه من توتر وقلق ذهني متروك للفلسفة والفلاسفة وللعلماء وعشاق المعرفة الذين هم متفرغون للهم المعرفي، ولديهم كل الوقت، بل ربما كل الدهر لممارسة التفكير والتساؤل. القدرة الاستقطابية والتعبوية للايديولوجيا ناتجة عن الوعد بالخلاص الذي تقدمه وتبشر به. إذا كانت الديانات تعد الناس بالخلاص الأخروي فإن الدعوة الايديولوجية تعدهم بالدنيا قبل الآخرة، بل تعتبر ان ما يشبه الخلاص يحدث في الأفق الزمني المنظور لا في ما وراءه. تحقق الايديولوجيا يعني ان مجيء الاشتراكية سيملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جورا، حيث ستتفتح ألف زهرة وتتفتق ألف برعمة. فالمجتمع الاشتراكي هو الفردوس الأرضي الموعود المفروش بالرياحين والمزركش بالآمال. وبعبارة أخرى فإن البعد اليوتوبي هو بعد ملازم لأية دعوة ايديولوجية، وقد شكل المجتمع الاشتراكي، الخالي من الطبقات والمتخلص من هيمنة سلطة الدولة النموذج المثالي لهذه اليوتوبيا المحملة بما لا عين رأت ولا أذن سمعت. وبالاضافة الى ذلك فإن الشحنة التعبوية للايديولوجيا عامة وللايديولوجيا الاشتراكية خاصة، تصبح حادة وماضية أكثر عندما تتمكن من توجيه مشاعر العداء نحو عدو ملموس يتم اسقاط كل السوءات عليه، بنفس القدر الذي يتم به تمجيد الذات، والاعلاء من شأنها. هذا العدو، هذا الشيطان هو البورجوازية بالنسبة للماركسية. فهي الطبقة المستغلة التي تمتص رحيق الشغيلة، وتمص دماءهم بتحويلها الى فائض قيمة يتزايد باستمرار وينضاف الى رأس المال البورجوازية ليزيد قوتها قوة، وربحها فائدة. إلا أن الطريف في هذا الكتاب الايديولوجي النموذجي البيان المكتوب ببيان هو أنه قد كال للبورجوازية أشكال من المديح والاطراء لا نظير لها، لدرجة ان قارئ البيان اليوم، في ضوء التحولات التي وقعت، لا يملك إلا أن يتساءل عن سر، بل عن درجة صدقية هذا الاطراء. يصرح البيان بأن البورجوازية الأوروبية طبعاً قد لعبت في التاريخ دوراً ثورياً الى درجة بعيدة". فهي التي وضعت حداً للعلاقات الاقطاعية والأبوية والوجدانية التي طبعت العلاقات الاجتماعية في عصر سيطرة الاقطاع. فقد قامت البورجوازية الأوروبية بتعرية المجتمع، ونزعت عنه الورود الجميلة التي كانت تغطيه، وجعلت المصلحة الشخصية والاستفادة المالية بمثابة العلاقة الوحيدة القائمة بين الناس. لقد أحلت قيمة القيم أي المال بالمعنى الحرفي لكلمة قيمة محل أية قيمة معنوية أو روحية أو "انسانية"، إذ أغرقت كل الطبقات في "المياه الجليدية للحساب المشبع بالأنانية" وحولت كل ملاكات الانسان وكمالاته، وجمالاته الى بضاعة قابلة للبيع والشراء مقابل مقدار مالي. بل جعلت حرية التعبير والتفكير بمثابة الأقنوم الأساسي في المجتمع الحديث، في حين أن قلبها وعقلها يتجه نحو الحرية الأساس أي "حرية" التجارة أو "التبادل الحر". ومثلما اغرقت البورجوازية كل الفئات في حمأة الحساب والفائدة والمصالح الشخصية والأنانية اللامحدودة، فقد نزعت عن العديد من الوظائف طابعها الانساني الموحي، وجعلت النخبة كلها خادمة لديها أو موظفة لديها اما في القطاع العام أو في القطاع الخاص. لقد كنست البورجوازية "سائر العلاقات الاجتماعية المتوارثة، وما تجره وراءها من مواكب الأوهام، والأفكار القديمة المبجلة، أما تلك التي تحل محلها فستشيخ وتتقادم عهدها... فكل ما هو صلب يتبخر وكل ما هو مقدس يتدنس ويبتذل... مسقطة غشاء الوهم عن كل شيء". والبورجوازية هي التي اضفت الطابع الكوسموبوليتي على الاقتصاد واخضعت الكرة الأرضية كلها للسوق الرأسمالية. نزعت عن الصناعة طابعها القومي، وحطمت الأشكال القديمة والتقليدية للصناعة وأحلت محلها صناعات جديدة، وجرت أكثر الشعوب وحشية الى رحاب المدنية، واجبرت سائر الأمم على تبني وادخال الأسلوب البورجوازي في الانتاج تحت طائلة الوقوع في أشد أنواع العقاب شراسة. اخضعت البورجوازية الريف للمدينة، وزادت بشكل مفرط سكان المدن على سكان الأرياف "منتزعة قسماً كبيراً من السكان من بلاهة حياة الحقول"، وأخضعت "الأمم المتوحشة أو نصف المتوحشة كذا "للأمم المتمدنة"!.. مثلما أخضعت الشرق للغرب". روضت البورجوازية الطبيعة وأخضعتها للآلة، وطبقت الكيمياء على الصناعة والزراعة مطورة الملاحة بالبخار، والسكك الحديد، والبرق الكهربائي، وعمرت قارات بكاملها، وحفرت القنوات للأنهر، وجعلت شعوباً بكاملها تتفتق وتنبثق من الأرض، كأنما بفعل السحر: "أي عصر سابق كان يمكن أن يتصور بأن مثل هذه القوى المنتجة ترقد في حضن العمل الاجتماعي". ومن دون أن نسترسل في سرد الاطراء والمدح التي يكيلها مؤلف، بل مؤلفا، البيان نقول ان ماركس، في هذا النص على الأقل اعتبر البورجوازية أكثر ثورية من البروليتاريا. وجاءت الأحداث اللاحقة لتؤكد حكمه هذا. فالبورجوازية انجزت أكبر الثورات التي حدثت في أوروبا: الثورة التقنية، الثورة السياسية التي حطمت النظام السياسي القديم وأقامت الدولة المركزية الحديثة، الثورة الفكرية التي كنست الأوهام القديمة، الثورة الاجتماعية المتمثلة في تغيير طبيعة علاقات القرابة، والثورة الاقتصادية الانتاجية... الخ. اما البروليتاريا فهي التي وقفت في منتصف الطريق، لا البورجوازية. فالأولى لم تنجز شيئاً. فقد توقف التاريخ عند أقدام الثورة البورجوازية، فهي، حسب هذا النص، الذي زكته التطورات اللاحقة، الطبقة الثورية حقا وبامتياز، لأنها أنجزت ثورتها، بل كل ثوراتها كاملة وراديكالية، في حين توقفت البروليتاريا عند أول عثرة صادفتها في التاريخ المعاصر