العنوان: عصر رأس المال. المؤلف: إريك هوبزباوم. المترجم: فايز الصيّاغ. الناشر: المنظمة العربية للترجمة. الموزع: مركز دراسات الوحدة العربية. تاريخ النشر: 2008عدد الصفحات: 627صفحة. * تعتبر هذه القراءة امتدادا لقراءتين، الأولى القراءة في الحلقة السابقة لكتاب التاريخ الجديد والثانية هي قراءة الكتاب الأول لهوبزباوم "عصر الثورة" (الرياض عدد 14192). ومن المصادفات الجميلة أن تصدر لهوبزباوم في ذات الفترة سيرته الذاتية "عصر مثير: قصة عمر في القرن العشرين". الكتاب صدر عن دار المدى وترجمة معين الإمام. هذه الكتب جميعا توفر لنا فرصة أكبر للتعرف على هوبزباوم وبالتالي على القرن العشرين. فهوبزباوم يرى أن سيرته الذاتية تستحق القراءة ليس لأنها سيرة أحد المشاهير التي تمتلئ بهم أرفف مكتبات لندن ولا لأنها سيرة فضائحية تكشف خفايا مغامرات صاحبها الجنسية أو السياسية بل لأنها سيرة تؤدي إلى فهم القرن العشرين، فهي سيرة مؤرخ إنجليزي ولد سنة 1917وعاش طفولته في ألمانيا ثم انتقل في شبابه إلى بلده الأم، مؤرخ التزم بالماركسية وانضم للحزب الشيوعي البريطاني قبل وخلال وبعد الحرب الباردة بين القطب الشيوعي والقطب الرأسمالي. مؤرخ تخلص، بشهادة عدد من النقاد، من الدوغماء الماركسية وإن بقي وفيا لأساسيات الفلسفة. طاف هوبزباوم الكثير من دول العالم وعمل في الكثير من الجامعات، حتى الجامعات الأمريكية بعد أن كان ممنوعا من دخول الولاياتالمتحدة لفترة طويلة. تعتبر السلسلة التاريخية (عصر الثورة - عصر رأس المال- عصر الإمبراطورية - عصر النهايات القصوى) هي منجز هوبزباوم الأساسي. فهو كمؤرخ درس أوروبا تحديدا مع أخذ بقية مناطق العالم بالاعتبار، خصوصا أمريكا الجنوبية، انطلاقا من الثورة الفرنسية سنة 1789إلى اليوم. الفترة الأولى (1789- 1848) أسماها عصر الثورة. وتلاها (1848- 1875) عصر رأس المال. ومن (1875- 1914) عصر الإمبراطورية. ومن (1914- 1991) عصر النهايات القصوى. عصر الثورة ( 1789- 1848) هو عصر الثورة المزدوجة، الثورة الفرنسية الشهيرة والثورة الصناعية البريطانية. وهي الثورة التي أحدثت أعظم تحول في تاريخ البشرية كما يرى هوبزباوم إلا أنه وانطلاقا من النظرية الماركسية التي تفسر التحولات الاجتماعية يرى أن هذه الثورة العظيمة لم تكن انتصارا ل "الصناعة" بحد ذاتها، بل للصناعة الرأسمالية ؛ ولا للحرية والمساواة عموما ،بل للطبقة الوسطى وللمجتمع "البرجوازي" الليبرالي. طبعا يفترض أن تكون هذه المرحلة خطوة في سير تحول المجتمع إلى الاشتراكية عبر ثورة البروليتاريا السياسية. هذا أيضا ما يفسر رأي هوبزباوم في أن الأيديولوجية الاشتراكية الثورية التي اجتاحت العالم أواخر القرن التاسع عشر وأغلب العشرين كانت ردة فعل على "الثورة المزدوجة"، الفرنسية والصناعية. استهلال ثوري "ربيع الشعوب" كانت سنة 1848سنة البيان الشيوعي "المانيفستو" الذي كتبه ماركس وانجلز سنة ثورية ففيها أعلنت الجمهورية في فرنسا واندلعت الثورة في جنوب غرب ألمانيا وفي فيينا وهنغاريا وفي إيطاليا كما حدثت انتفاضات في البرازيل وكولومبيا. كانت ثورات 1848الأكثر انتشارا وامتدادا ولكنها أيضا الأقل نجاحا ففي غضون ست سنوات انهارت تماما بل أن أنظمة الحكم التي أطاحت بها قد استعادت عافيتها بسرعة. يبرر هوبزباوم هذا الفشل بسبب تخلي البرجوازيين عن الثورة بعد أن أصبحت تهدد النظام الاجتماعي برمته. كان يجب أن تكون هذه الثورات برجوازية كخطوة نحو ثورة البروليتاريا لكن هذا لم يحدث. التطورات يتكون الكتاب من مقدمة وثلاثة أقسام. القسم الأول وهو القصير مقارنة بالأقسام الأخرى "استهلال ثوري" أما القسم الثاني فهو قسم "التطورات"، القسم الثالث قسم "النتائج". يلي هذه الأقسام جداول وخرائط وثبت تعريفي. وهذا التقسيم منهجي عند هوبزباوم والتزم به في كتاب عصر الثورة. حيث يرصد أولا ويلاحظ التطورات التي تحدث في العصر المدروس ثم يحلل لاحقا ويتابع النتائج التي أثمرت عنها. يصف هوبزباوم الفترة من 1848إلى أواسط السبعينات بأنها "ليست من الفترات التي تلهب خيال القارئ الذي تستهويه المشاهد الدرامية والبطولية بالمعنى التقليدي للكلمة" فهي لم تشهد حروبا كبرى سوى الحرب الأهلية الأمريكية. إلا أن أكثر العناصر الدرامية تجلت في ذلك العصر في المجالين الاقتصادي والتقني. فالحديد يصب ويتدفق بملايين الأطنان إلى أرجاء العالم، ويتلوّى في أشرطة من السكة الحديدية عبر القارّة الأوروبية ،و الكوابل التي تمتد تحت الماء عبر المحيط الأطلسي، وحفر قناة السويس، وقيام مدن كبرى مثل شيكاغو. كانت الرأسمالية عنوان هذا العصر، كانت في عنفوانها ورجالها كانوا بحق هم قادة العالم. كان هذا العصر مليئا بالطموحات والثقة المفرطة. الثقة بالعلم والإنسان والطموحات الواسعة في تحقيق السعادة البشرية. ستنتج الرأسمالية أزمتها سريعا ولكن الروح العامة في تلك الفترة كانت من النشوة بحال لم تتصور معها مستقبل الصعوبات. كانت الطبقة البرجوازية في هذه الفترة هي الفئة الرابحة، فهي تتقدم وتحقق الأرباح، الولاياتالمتحدة هي هنا النموذج، حيث كانت تعج في هذه الفترة بتطور وحركة لم يكن لها مثيل في التاريخ البشري، اليابان من جهة أخرى حققت نجاحا في هذا العصر فقد استطاعت منافسة الغرب بنفس أدواته وحققت تقدما مشهودا أما شعوب العالم الثالث فيقول هوبزباوم عنهم "أغلب شعوب العالم الثالث لم تكن على ما يبدو قد حققت أي فائدة ذات شأن من التقدم غير المسبوق والخارق للعادة الذي حققه الغرب" دون أن ينسى بعض الإيجابيات مثل السفن البخارية وخطوط السكك الحديد والتلغراف وتعليم فئات من الشعب تعليما غربيا. التواصل مع العالم وخصوصا أوروبا يمكن أن يسجل على أنه المكسب الأكبر. عربيا نعلم أن هذا التواصل كان سبيل الاستيقاظ من السبات. النتائج في القسم الثالث يسجل هوبزباوم نتائج عصر رأس مال فمن جهة ازدادت الكثافة في المدن بشكل كبير. أيضا حدث في هذه الفترة بداية أضخم هجرة للشعوب في التاريخ، هذه الهجرة كانت داخلية وخارجية داخلية من الأطراف إلى المراكز وخارجية من أوروبا إلى الأمريكيتين. يتناول هوبزباوم أيضا التغييرات التي حدثت في العالم البرجوازي في الأزياء وعادات الأكل والاستمتاع. وبرأيي أن هذا الفصل من أكثر الفصول متعة. ولكن ماذا عن نتائج هذا العصر في العلم والدين الأيديولوجيا. يفرد هوبزباوم فصلا لهذا الأمر. لم تكن هذه الفترة سعيدة للفلاسفة الميتافيزيقيين.فالفلسفة الوضعية والتجريبية كانت لها السطوة والقيادة. لدينا في هذه الفترة ماركس وانجلز وأوجست كونت وجون ستيوارت مل وهربرت سبنسر الذي يصفه هوبزباوم بالمفكر متوسط الجودة. كانت الليبرالية هي المعبّر عن ذلك العصر وهي الفلسفة التي سيطرت على التفكير والأنظمة. إلا أن هوبزباوم لا يرى أن هذه الفترة فترة ثورية في العلم والمجتمع. تعتبر نظرية التطور لداروين هي المعبّرة عن التقدم العلمي في هذا العصر. كان العلم هو النواة الأيديولوجية لتقدم العلمانية في العالم أما الدين خلال تلك الفترة فيبدو نسبيا قليل الأثر. فقد كانت الاكتشافات العلمية تهزّ باستمرار القناعات الدينية يكفي هنا الحرج الكبير الذي وقعت فيه الرؤية الدينية بعد نظرية التطور وانتشارها. شهدت هذه الفترة أيضا محاولات من الكنيسة لاستعادة دورها القديم ومحاربة العلمانية حتى في القسم البروتستانتي داخل المسيحية. من الأكيد أن اللاهوت تمت هزيمته فكريا أما في أوساط المجتمع والطبقات الشعبية فقد بقي الدين يمثل لهم الوجود الروحي. أما على مستوى الفنون فيقول هوبزباوم فلا تقارن هذه الفترة بفترة الثورة المضاعفة السابقة ولكنها أيضا فترة شهدت الكثير من الإبداعات خصوصا في روسيا فهناك أبدع تولستوي ودستويفسكي. ومن أسماء هذه الفترة الشهيرة تشارلز ديكنز والموسيقار فاغنر. لا يكتفي هوبزباوم هنا برصد الأسماء المبدعة بل يقوم بقراءة معمقة في الذوق الفني والأساليب الفنية وفي حياة ومكانة الفنانين وما حدث لها من تغيير مع التغيرات الاقتصادية الكبيرة. في هذه الفترة خرج الفنان من القصور واحتفالات الطبقات العليا ليتصل أكثر بالجماهير ويتمتع باستقلال اقتصادي وفّر له إمكانية الاستقلال بذوقه وإنتاجه أيضا. الغريب في هذا الكتاب أن هوبزباوم لم يأت على ذكر الفيلسوف الألماني الشهير نيتشه ( 1844- 1900) فهل يكمن خلف هذا التجاهل نوع من الخلاف الفكري خصوصا إذا علمنا أن نيتشه سخر من الكل وليست الماركسية استثناء هنا.