لا جدوى من سياسة تجاهل - أو التظاهر بتجاهل - الحجم الحقيقي لواقعتي التجارب النووية في شبه القارة الهندية. لاحظتُ أن الخطاب الرسمي العربي - في مجمله، أو في أغلب الدول العربية - راوح بين تجاهل هذه التجارب النووية وبين التقليل من أهميتها بالنسبة الى الامن القومي لكل دولة من دول المنطقة، ولأمن ومستقبل كل العرب. وقد يكون وراء هذا التجاهل أو تعمد الاهمال اسباب ودوافع، من بينها مثلاً بطء عملية صنع التقدير والتحليل السياسي في اجهزة القرار والسياسة العربية، والحذر الشديد في اتخاذ موقف ثم في الاعلان عنه، خصوصاً اذا كان الموقف متعلقاً بموضوع له مكانة عالية في السياسة الدولية، وبالذات اذا كان متعلقاً بالامن سواء الداخلي أم الخارجي. ثم أن المعتاد في عمليات صنع السياسة والقرار في معظم دول العالم النامي، ونحن جزء منه، هو انتظار أن يتولى الزمن مهمة تبريد المواضيع الساخنة وبالتالي الامتناع عن المساهمة بالرأي والفعل في قضايا دقيقة كمساعدة للزمن على القيام بمهمته. ولكن الموضوع المثار هذه الأيام ليس من المواضيع القابلة للتبريد. بدأ ساخناً وسيظل ساخناً لفترة غير قصيرة. فمساحة شاسعة من منطقة الشرق الاوسط وعشرات المدن العربية ومئات بل آلاف الآبار النفطية، تقع على خطوط مرمى الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى المنتصبة في شبه جزيرة الهند. ونعرف أن باكستان جزء اصيل في التعريف الاستراتيجي الاميركي لمنطقة الشرق الاوسط، وهي حسب هذا التعريف البوابة الشرقية للشرق الاوسط. والتعريف ليس جديداً. فقد استقر عليه الفكر الاستراتيجي الاميركي منذ بداية سياسة الحصار التي سعت واشنطن الى تطبيقها ضد الاتحاد السوفياتي السابق في اواخر عقد الاربعينات، ولذلك كانت باكستان دائماً عضواً مؤسساً في الاحلاف العسكرية الاميركية كافة تحت مسميات الشرق اوسطية، مثل الحلف المركزي وحلف بغداد ومنظمة الدفاع عن الشرق الاوسط وغيرها. وحسب ما اعرف لم يحدث - رغم التطورات الكبيرة في الفكر الاستراتيجي الاميركي - أن تغير تصنيف باكستان، ما حدث هو أن واشنطن أدخلت تعديلاً موقتاً على الوظيفة الباكستانية. إذ بعدما كانت وظيفتها تقتصر على دعم صمود الخط الثاني، أو القوس الثاني، في خطوط واقواس المواجهة مع الاتحاد السوفياتي، أصبحت وظيفتها اكثر ايجابية فانتقلت باكستان الى الخط الاول المهاجم للاتحاد السوفياتي في واحدة من اشهر مواجهات الحرب الباردة بعد برلين وكوبا وكوريا، وهي افغانستان، ولعلها اشهرها جميعاً باعتبارها آخر المواجهات. ولا تزال باكستان، وربما ايضاً الاستراتيجية الغربية، تعتبر افغانستان وما وراءها وما جاورها شأناً أساسياً من شؤننا، وفي الوقت نفسه تعتبر ايران منافساً خطيراً في اداء وظيفة الحارس للبوابة الشرقية للشرق الاوسط. صحيح أن هذه المنافسة كانت باستمرار قائمة، ولكنها اصبحت حادة بعدما تغيرت الاوضاع في ايران وبعد حربي الخليج، وصارت اهداف الدولتين في الشرق الاوسط متناقضة أو على الاقل متباينة، بعدما كانت - وعلى مدى ثلاثة عقود - متوازية. معروف أن باكستان، منذ نشأتها وبسبب ظروفها، هي دولة باحثة عن عمق يحمي وحدتها السياسية في ظل انقطاع وحدتها الجغرافية. وبعد انفصال بنغلاديش احتاجت الى عمق يحمي وحدتها السياسية في ظل خطر الانفراط الطائفي والاثنى والجغرافي. لذلك كان اهتمامها عقب الاستقلال بالشرق الاوسط في اطار استراتيجية الحرب الباردة، وللسبب نفسه قد يزداد اهتمامها الآن بالشرق الاوسط ولكن في اطار وضع دولي جديد، والمثير عبر خمسين عاماً من عمر باكستان وسياساتها في اطار الاستراتيجية الغربية للشرق الاوسط. لم يحظَ هذا البلد في أي وقت من جانب معظم الدول العربية بأكثر من درجة العلاقات العادية أو الطبيعية، لم تعتبر أكثرية دول المنطقة علاقاتها بباكستان من النوع المتميز، رغم خلو هذه العلاقة من عناصر النزاع المباشر أو الخلافات الحادة. وكانت العلاقة في معظم الاوقاف رتيبة لا إثارة فيها. والمؤكد أن باكستان لم تفلح في - وربما لم تحاول - ارساء قواعد تعاطف متبادل مع النخب العربية المثقفة والمسيَّسة، مثلما فعلت الهند وأفلحت، ومثلما تفعل - الآن - وبدرجة مختلفة ايران. ورغم هذا التاريخ البارد للتفاعلات الباكستانية العربية، حظيت التجارب النووية الباكستانية باهتمام رجل الشارع في معظم انحاء العالم العربي. ولا اظن ان جانباً كبيراً من هذه الحماسة عائد الى ما تردد عن تعاون نووي بين اسرائيل والهند. ذلك لأن حماسة الشارع العربي عندما اجرت الهند تجاربها لم تكن اقل كثيراً. أنا اتصور أن الحماسة في الحالتين كانت تعبيراً عن رغبة التشفي في الولاياتالمتحدة والى حد ما في اسرائيل. فقد وقعت التجارب النووية في مرحلة لعلها الاولى من نوعها في تاريخ العلاقات الاميركية - العربية. ففي الوقت الذي انفتحت الابواب العربية على مصاريعها في وجه مستوردات الثقافة الشعبية الاميركية وبخاصة مستودرات الاغذية والمشروبات والمسليات، وفي وجه ضغوط واشنطن السياسية التي وصلت الى ذروتها، وفي وجه المطالب والطلبات الاقتصادية الاميركية التي صارت تتجاوز امكانات الدول العربية الاكثر ثراءً، يزداد الغضب الشعبي في شكل لم يسبق له مثيل، ويزداد بدرجة اخرى غضب كثيرين من اعضاء النخب السياسية والثقافية على الولاياتالمتحدة. وقد تجمعت في الآونة الاخيرة سياسات واجراءات مثيرة للغضب ودافعة الى الاحتجاج والتمرد جعلت مستقبل المنطقة يبدو في صورة تكاد تختلف عن الصورة المعتادة. الجديد في الصورة أخطر من كل قديم فيها، وهو خيبة امل معظم من سعدوا باتفاقات اوسلو والخليل واعتبروها نهاية مطاف التنازلات، وخيبة أمل من راهنوا على صحوة حزب العمل أو على هيمنة انصار السلام على الحياة العامة في اسرائيل وعلى الشباب وعلى الفكر الصهيوني، فضلا عن ذلك استمر الاستيطان اليهودي يقضم كل يوم ارضاً من اراضي الدولة التي تحلم السلطة باعلان قيامها في العام المقبل، واستمر الموساد يصطاد الشباب الفلسطيني امام اعين السلطة الفلسطينية ويضع خطوطاً حمراء وصفراء وخضراء. وتفاقم القمع من الجهتين - الاسرائيلية والفلسطينية - الى حد يؤكد حال اليأس المنتشرة في كل انحاء فلسطين، يهودية كانت أم عربية. اما خارج فلسطين فيستمر الاحتلال في سورية ولبنان، ويستمر الاختراق الاسرائيلي مستتراً أو معلناً في دول عربية كثيرة. تضاف الى هذه الخيبات خيبة امل المؤملين في ايجابيات وانجازات مسيرة العولمة على المدى القصير. هؤلاء قضوا الاشهر الاخيرة في توتر شديد وهم يشاهدون فيضاً من الآثار الجانبية للعولمة. شاهدوا سقوط ثلاث أو اربع اقتصاديات في جنوب شرقي آسيا. وعنفاً ضد الاقليات ومقتل مئات على ايدي المتظاهرين في اندونيسيا، وانهيار ثقة شعوب جنوب شرقي آسيا في حكامهم وفقدان ثقة هؤلاء الحكام في انفسهم، وهو ما عبر عنه رئيس وزراء ماليزيا خلال وجوده اخيراً في القاهرة، حين قال إنه لا يجرؤ على إبداء رأيه في أي شأن من شؤون بلاده خوفاً من غضب او انتقام "قوى خارجية بعينها". ولم يفت احداً في المنطقة العربية واقع ان سوهارتو، أحد اقدم الحكام في العالم، سقط ضحية الفجوات والضغوط المصاحبة قسراً للعولمة. ويبدو أن كل هذه الخيبات لم تكن كافية لإثارة رد الفعل المناسب في الحياة السياسية العربية. فجاءت التجارب النووية في شبه القارة الهندية تؤذن بتغيرات قد لا تكون بسيطة، وقد لا يتاح مجال للتفلت منها الا بصعوبة مرهقة. فمنذ مدة نلاحظ أن الصراع العربي - الاسرائيلي يتدين بفعل تأثيرات واسباب كثيرة: بعضها صهيوني - يهودي - اسرائيلي، وبعضها إقليمي وعربي وإسلامي وسياسي واجتماعي، وبعضها خارجي وعولمي. لاحظنا "تديناً" وكان صاعداً ولكن بتدرج. ثم وقعت التجارب الباكستانية، وبدأ الحديث عن القنبلة الإسلامية متناثراً، وبعد أيام أصبحت القنبلة الباكستانية تعني نصرة المسلمين بعد ليل حالك طويل، وتعني وحدة المسلمين، وتعني قوة الردع الأعظم في مواجهة إسرائيل المتسلحة بالقنبلة اليهودية، هذا الصعود المفاجئ في منحنى "تدين" الصراع قد يجعل خطاب الصراع في صيغته الجديدة يبدو مختلفاً عن صيغة الخطاب الذي تعودنا عليه على مدى معظم الخمسين عاماً الأخيرة. من ناحية ثانية - وأظن أن ذلك يحدث للمرة الأولى - بدأ الصراع العربي - الإسرائيلي يميل رغم أنف كل الأطراف العربية المشاركة فيه، وغير المشاركة، في اتجاه نووي. بمعنى آخر اصبح السلاح النووي إمكانية متاحة ومتبادلة بعد أن كان قدرة مؤكدة يحتكرها طرف واحد في الصراع. وشتان ما بين مرحلة كان يدار الصراع خلالها في ظل هيمنة نووية من طرف واحد، ومرحلة أصبح عندها الطرف غير الحائز على سلاح نووي واقعاً تحت ضغط شعبي رافض للتحريم والتمييز. بل إن هذا الطرف أصبح مسلحاً بواقع أو بوهم جديد وهو أن سلاحاً نووياً صديقاً موجوداً الآن رهن الإشارة والتعبئة الدينية في ترسانة غير بعيدة. مرحلتان مختلفتان ما لم تقم إسرائيل بتدمير الترسانة الباكستانية وتخريب المشروع النووي الإيراني وإحباط اتصالات عربية - باكستانية وإيرانية - باكستانية وكلها نشط فجأة عقب التجارب الباكستانية. وفي إسرائيل حديث صريح حول هذا الموضوع. ومن ناحية ثالثة، فقد بدت السياسة العربية في الأيام الأخيرة كما لو كانت تأثرت بشدة ببعض الإشعاع النووي الناتج عن التجارب في شبه القارة الهندية. لا أحد في مكان صنع السياسة أو صنع الرأي يستطيع انكار الآثار المباشرة لهذه التجارب في الشارع العربي. ولكن لا أحد سيعترف بأن هذا الشارع نفض فجأة عن نفسه الشعور بالإحباط وخيبات الأمل المتلاحقة بسبب التنازلات - أيضاً المتلاحقة - خلال سنوات المسيرة السلمية وبخاصة خلال سنوات توقفها. لقد عرف الشارع أن شعباً على شاكلة الشعب العربي أنتج قنبلة، وأن حكومة على شاكلة الحكومات العربية استطاعت تغيير ميزان القوى في قارة بأكملها والتسبب في تأثيرات قد تطاول الأمن العالمي بأسره. في مثل هذه الحالة، لا أعتقد أن حملة توعية، مهما بلغت من ذكاء وحنكة، تستطيع إقناع جماهير العرب الذين نفضوا الاحباط وخيبات الأمل أن يقتنعوا بأن السلام مع إسرائيل ممكن في ظل الاختلال الحالي في توازن القوى بين العرب وإسرائيل، بينما كان ممكنا أن يقتنعوا بالسلام استسلاماً عندما لم تكن هناك قنبلة في باكستان. وأعتقد أن القمة العربية - إن عقدت - لن تتجاهل هذا المتغير الجديد في السياسة العربية، وإن تجاهلته أو لم تنعقد فقد تجد العواصم العربية نفسها في وضع أشد تعقيداً وحرجاً. أخشى إن تجاهلته أن تفسر إسرائيل هذا التجاهل بضوء أخضر للتصرف بعنف ضد إيران أو ضد باكستان، أو كليهما معاً. وإذا حدث فلن يغفر أيهما للسياسيين العرب هذا الموقف حتى وإن اتخذ شكل اللا موقف