لفترة طويلة ظلّ يتردّد على النادي الذي تلتقي فيه الجالية. ينتحي ركناً يجلس فيه، يتابع الرجال والنساء في لقاءاتهم وأحاديثهم ونكاتهم الصاخبة، من دون ان يشاركهم حياتهم. يلزم مكانه المعتاد قرب المدخل، مكتفياً بالنظر الى القادمين، يتفحص حركاتهم وملامحهم وتعبير وجوههم. نادراً ما تكلم الى احد، او شجع الفضوليين على التمادي معه في الحديث، والناس اعتادوا على رؤيته، وتركه عمال النادي في حاله. في البداية اسموه الغريب، ثم نسوا امره. في العيد السنوي تقاطر عدد كبير من الزوار. كان الغريب في مكانه المعتاد، عندما دخل رجل في الستين، قصير، متهلل الوجه، شمل القاعة بنظرة واسعة، ثم توقفت عيناه على الغريب، وأحسّ هذا، من جانبه، برعشة تخترق مفاصله. إذن أنت هنا؟ قال كل منهما الى الآخر بعينيه. قام الرجل بدورة قصيرة، وزّع فيها التحيات والأشواق على بعض الواقفين، ثم توجه بحركة غير ملفتة ليجلس قرب الغريب. - هل احظى بشرف التعرف عليك؟ بادر الرجل في ودّ كبير، وصوت خفيض. - أرسلني والدي للقاء بك. ردّ الشاب بطريقة الرجل في الكلام. - من هو، والدك؟ - جابر - لا اذكر صاحب الاسم، قال الرجل، وأطرق مفكراً، ثم سأل: لكن، كيف عرفت انني أنا؟ وأصبحت ابتسامته مثل ابتسامة الأموات. - السؤال نفسه دار في ذهني، حينما شاهدت نظراتك تنصب عليّ. لم تفارق الابتسامة الشاحبة وجه الرجل، غير ان ظلالها كانت تتغير طوال الوقت. - يقول الوالد انك قادر على مساعدتي. - بالتأكيد، لكنك لم تذكر لي اسمك؟ - اسمي جابر، تعرف... هذه تقاليد العائلة. لاحظ الشاب مسحة انثوية تتخلل صوت الرجل وحركاته والمفردات التي يكثر من استعمالها، ومن نداءات وأحاديث الموجودين اليه عرف ان اسمه "صالح"، فاعترف له جابر ان والده أيضاً لا يتذكر اسمه: "قال لي ستعرفه ما أن تراه"، واستغرب ان الامر حدث تماماً كما اقترح الوالد. هوّن صالح من قيمة هذه الأشياء، وسأل الشاب عن الصفار الذي يضرب بياض عينيه بين آونة وأخرى، ردّ الشاب: - لهذه المسألة جئتُ، يقول والدي، في بدن كل انسان كمية من السم، تكفي، اذا رُكّزت في قطرة واحدة، لقتل نسر، ان الخلل موجود في غدد معينة دون غيرها، وهي تفيض بإفرازاتها عن الحاجة، فتنقلب على عيوني. - هل تحبّه؟ - من؟ - والدك... - لا. اكتفى صالح بأن هزّ رأسه متفهماً، وقدم الشحوب ألواناً اخرى للموت على وجهه الباسم. استدار بنصف جذعه وراح ينظر بعاطفة الى جابر، كأنه يعبُر من خلال نظارة الشاب الى ازمان أليفة، بينما واصل هذا حديثه: - الكثير من الناس يعتقدون ان سمّ الافعى في لُعابها، ولو كان الزعاف فوق لسانها لأصبحت عيون الأفاعي تنطق بالشرر، ولكنه في عمودها الفقري، وهو مكان يصلح للإفرازات العديمة اللون، التي تخرج عبر منافذ عظيمة. والسموم في العادة تهتك الانسجة حين تأتي كاملة، تمزّقها، تعفّنها، وتقضي عليها في لحظة، أمّا الناقصة فهي تترك الأعضاء مشلولة، بين الحياة والموت. أُنظر هنا في عيني، قال الشاب وهو يوسّع فتحة جفنه بطرف إبهامه. هذه العصارة تخرج في سيل لا ينقطع، لكن احداً لن ينتبه اليها الا حين يقترب منّي، أما باطن الجفن فقد اصبح يتقرّح ويتآكل وتتعفّن انسجته. لم يُثر الشرخ الدقيق اهتمام صالح، ولا استغرابه، انما ظلّ معجباً ببراعة الشاب في طرح موضوعه، مع إحساس عميق بالإشفاق. - اين تعلمتَ كل هذا؟ - أترى هذه الكتب، اجاب الشاب وهو يُظهر من جيوبه الداخلية كتيبات جميلة التغليف والألوان، تشبه الكتب المعنية بتسلية الاطفال، عرضها امام صاحبه، ثم أضاف. إنني أقرأ وأتابع المعلومات الخاصة بتركيب المواد. - لن تحتاجها بعد الآن. - هل تعتقد؟ لا شكّ ان بين اصدقائك الكثير من الأطباء. - نعم، لكن جميعهم يمقتونني، يحتقرونني اكثر من الناس العاديين. - إذن، لا يمكنك مساعدتي! - سنتدبّر هذا الامر. اجاب صالح، بعدها سأل. هل تعرّفت الى بعض الناس هنا؟ - لا. - حسناً فعلت، قال في ارتياح كبير، وقبل ان يترك مجلسه أضاف. بعد الآن لا تنتظرني في الاماكن العامة، ولا تكشف لأحد، مهما كان، معرفتك بي. - لكن أين اجدك. سأل الشاب مبهوتاً، عندما نهض الآخر فجأة واستدار لينخرط في الحفل. - انا اجدك. انقضى شهران من دون ان يفتح جابر عينيه امام أي طبيب. ظلّ صاحبه يجد الاعذار بسهولة للتأجيل، واستمرت لقاءاتهما في الاماكن البعيدة، الخالية من الناس، وأغلبها يتم في الليل، حيث يقضيان ساعات طويلة في الحديث وهما يسيران في شوارع معتمة، غير مأهولة، وإذ استمر الشاب يعبّر عن قلقه من خلال عرض معرفته بالسموم وأثرها الهدام، صرخ الآخر بوجهه يوماً، طالباً الكفّ عن هذه الثرثرة. - ألم تدرك بعد، ان الكلمات التي تستعملها تؤذيني! - لا اقصد ايذاءك. - هذا لن يغيّر شيئاً، انها تؤذيني، تتفاعل داخلي مثل كبريت يغلي ولا يشتعل. مع ذلك، لم يتخلص الشاب من عادته، لأن هواجسه كانت أقوى من تحفظه، فتحدّث، بعد ساعة فقط، عن أنواع من النبات غير سام في الظروف العادية، ولكنه يصبح مهلكاً في ظروف اخرى، وبعضها يتركز السم في اوراقه، وتبقى بذوره صالحة للأكل. قال ان السم موجود في اوراق الشوكران المائي، وفي جذوره وبذوره ايضاً، حيث تكفي جرعة صغيرة منه لتدمير جميع خلايا المخ في لحظة خاطفة، وعدد كبير من اوراق النبات سامّة وهي طازجة، غير انها تفقد سمّيتها عندما تُطبخ، وهنا تكشف الطبيعة اعاجيبها المخيفة، قال الشاب، فالكثير من الازهار الجميلة ذات اثر سمّي، وأخيراً اعترف ان اللغة ذاتها وضعت ثقلها في خدمة النتائج المرعبة لمفعول السمّية، فهي تصف الجزء المصاب بأنه يفسد، وينحط، ويتفسّخ، ويضعف، ويتعفّن، ويتحلّل، ويصبح خراباً، ولا تكتفي بهذا، بل تقرن كلمة السمّ بالحقد والغِلّ، لذلك، لن ألومك، قال الشاب يطمئن صاحبه، اذا كنت تتضايق من هذه الكلمات. ذلك اليوم، ترك صالح المكان غاضباً، يلعن ويسبّ ويغلظ في الايمان أن لا يلتقي جابراً مرة اخرى، بينما وقف هذا في عتمة الليل، وسط ساحة مقفرة كثيرة الفروع، مندهشاً من سلوك صاحبه، وحائراً اي الطرق يتخذ، ليعود الى سكناه. الطريقة الأسهل، والوحيدة، للقاء صالح من دون التعرض لتعنيفه، كانت احتفالات النادي، فكّر الشاب وهو ينزوي في مكانه المعتاد، مواجهاً المدخل، هناك حيث اصطدمت نظراتهما للمرة الأولى. دخل صاحبه مبتهجاً، وقف بين مصراعي الباب يدقّق في الحاضرين، ثم هجم مثل العاصفة، اخذ يد اول رجل وعانقه وهو يفيض بالودّ، قال كلمتين رقيقتين لشخص ثان، وبمحبة كبيرة أسرع يهنئ زوجاً وزوجته بعودتهما من السفر، لم يبخل بأشواقه حتى على الذين أولوه ظهورهم، مستغرقين في الحديث، او هكذا تظاهروا. رأى كل منهما الآخر من غير ان تلتقي نظراتهما. شعر القادم وجوداً كثيفاً يصدم دخوله، خُيّل اليه للحظة ان جيوبه امتلأت بالاحجار الكبيرة، فراحت تربكه، تعرقل خطاه المندفعة باتجاه الحاضرين، بينما احسّ الآخر بمجيء صاحبه قبل ان يدخل، تشمّمه مثل رائحة ينقلها تيار سريع، وشعر به، من دون ان يرفع انظاره المُطرقة، يتعثر وتصطك قدماه وركبتاه، كما لو كان قد التهم نصف ملعقة زرنيخ. دورتان ثلاث من الاشواق ثم تسلّل الى موقع الشاب وجلس الى جانبه. - أترى هذا الحشد من الناس، قال صالح في صوت خافت، ينقلب الى الداخل فلا يكاد يُسمع. كلهم يكرهونني، يبغضون صورتي ووجودي، يشتمونني كلما ذُكر اسمي، مع ذلك، ما أن احضر حتى تتفجر الابتسامات على وجوههم، ويتسابقون للترحيب بي، اتعرف لماذا؟ - أعرف، اجاب الشاب وهو ينظر امامه. - إذن، يجب ان تكفّ عن متابعتي، هذه العصارات الضئيلة التي تشكو منها، ستحتاج اليها، فلا تزعجني بإلحاحك. - لا يعنيني ما تفكر به، ولا كيف تنظر إليّ، الافرازات تضايقني، والذي يرعبني انها مع الوقت قد تخلف قروحاً بشعة على عيوني. اخفض صالح رأسه، وتقبّضت جلدة انفه من الحنق، ليقول وهو يختنق بالكلمات: - انت غبي صغير، لم تفهم كلام والدك على الوجه الصحيح، بدل ذلك رحتَ تقضي الوقت مع كتيبات مليئة بالحماقة والهراء، لا اظنها شرحت لك، هذه الزبالة المطبوعة على الورق، ان الافعى الصفراء تدافع عن نفسها ضد عشرين نوعاً من الضواري تلتذّ بلحمها، ولولا مرارة اوراق الشوكران، لقضت عليه الأرانب حتى قبل ان يخرج من التربة، والضفدع الأزرق، ايها الاحمق، يغذّي جلده بالسموم من نفس الطحالب التي يعيش بينها... ألا تفهم ما يعني كل هذا؟ اخيراً صاح وخداه يرتعدان من الغضب، انت ايضاً تحتاج سلاحاً تبعد به الاخطار عن نفسك. - اعرف، ردّ الشاب. لكن المسألة التي يفوتك ادراكها ان الانسان وحده، من بين كل الاحياء، تتحول سمومه ضد نفسه، والدليل مشكلة عينيّ. لطم الآخر وجهه بيديه الاثنتين يأساً، ثم نهض. فكّر الشاب ان هذا الغضب ليس له ما يبرّره، صاحبه يريد التحلّل من وعوده لا غير، فلن تؤثر الحجج على عزيمته، انه يقدم فرصة عظيمة لا يفهمها الآخر، اما هو، فتهمه سلامة عينيه. ما لفت انتباهه في صالح، قدرته المدهشة على التحول من الغضب الى الانبساط، ما ان نهض حتى بشّ، بشّ وطعن بسرعة مذهلة، هذا ما لا يقدر عليه، اعترف الشاب لنفسه، ليس حاذقاً، بل يكاد يكون غبياً، أضاف الشاب في دخيلته. الا ان هذا طبيعي فيه، طبيعي الى درجة تحملك على نسيان كل مساوئ البشر حين تلتقيه للمرة الأولى، لكن الألعاب التي يقوم بها سخيفة، مكشوفة، لا تستحق الجهد المبذول من اجلها، فهو يمتدح المرأة بحضور زوجها وشلّته، ثم يخبر الشلّة الاخرى انه رآها تغازل مدير النادي في مكتبه منذ قليل. كل هذا لا يؤكد شيئاً، فكر الشاب اخيراً، لأن الاقنعة لعبة قديمة، عمومية، ساذجة. البراعة ان تكون جوهراً مختلفاً، خارقاً قبل كل شيء. بعد غياب طويل، انقطع خلاله صالح عن التردد على النادي، وجد الشاب نفسه يقصد بيته. "إيه، تدبرت امورك مع الحياة بشكل جيد؟" همس جابر عندما شاهد البيت بنوافذه العديدة. اتجه مباشرة الى غرفة صاحبه، هناك عِبْرَ عتمة خفيفة لقي الرجل ممدّداً على مكتبه، عارياً، يجهش ويمزق صدره ووجهه بأظافر قاسية، احياناً يلوي عنقه لتبلغ اسنانه اطراف ثدييه، يعضّ حتى يصرخ من الألم. لم يقل جابر شيئاً، لزم مكانه في صمت، ينتظر نهاية هذا الفصل الغريب. - ماذا جئت تفعل في بيتي؟ قال صالح وهو يستوي جالساً. الكلبة هي التي فتحت لك الباب، اعرف. لم يشاهد الكلبة أثناء دخوله، هو يعني زوجته، تخيّلها فحسب، جالسة في واحدة من الغرف، غارقة في حزن أبدي. تعرف انه عندما تنقلب المرارة على زوجها، يفصد دمه ليخفف آلامه. وفي الاحوال العادية يقصد غرفة نومها، ينفخ حول سريرها وَبَر القطط الميتة التي يجلبها من زوايا الحدائق، فيهتاج عليها الربو، تستيقظ جاحظة العينين، تشهق وتتشبث أصابعها بالأغطية والوسائد من اجل نسمة هواء، حينها يركع قرب الفراش يواسيها، ويذرف الدموع على عذابها. - افزعتني، قال الشاب اخيراً، هذا البكاء! هذه الجروح! - كلها لا تمثل شيئاً، بالقياس الى العذاب الذي ينتابني عندما اكون بين الناس. - هل تخاف من الناس؟ - اخافهم؟ قال باشمئزاز. انني لا اعترف بهم اصلاً، لذلك يضايقني احتقارهم لي. - قلت لك، انا فرصة لن تتكرر، ولم تُعط لإنسان من قبل. - احب الغرور الذي فيك، لكنك من دون خبرة. - تحدثني عن الخبرة! ضحك الشاب بسخرية. اتدري كيف عرفتك حين دخلت النادي للمرة الأولى؟ الصفرة المخفية داخل عيني موجودة على وجهك، معكوسة بصورة بشعة، وهي تفضحك كيفما تلوّنت. - ستظهر القروح على عينيك، مهما فعلت. - ذلك بسبب مماطلاتك، لو ساعدتني، لو كنت ساعدتني منذ البداية... - ليست مماطلاتي، قاطعه الآخر. انه شيء أبعد من هذا، انه... ماذا أقول! انه قدر! لا، ليس قدراً، انه خلاصة تبلورت عبر آلاف السنين. مرة اخرى انخرط في البكاء، راح يتحشرج ويكرر: "ماذا تريد؟". تأمل الشاب الجلسة التي اتخذها صاحبه فوق المكتب، سيقانه العجفاء، عريه البشع، الندوب السوداء المنتشرة على جلده، كل هذا تتوجه نظرة ذئبية منطفئة. لكزه بقوة تحت إبطه، فتهاوى على الأرض من الجانب الآخر، تكوّم لينكمش في غضون ثوانٍ، أشبه بعنكبوت باغته الصقيع. بقي جابر يحضر احتفالات النادي باستمرار، ينزوي في مكانه الأول نفسه محاطاً بوحدة تامة، مُغلقة، عندما يصافح امرأة تنشب النيران على الفور في اذيالها، وحين يعود الى البيت تذبل اوراق الاشجار على جانبي الطريق الذي يمرّ به، ثم تعود اليها نضارتها ما ان يبتعد. أمّا زوجته، فلا تفهم قدراته الجديدة الخارقة، فتزداد وحدته وحشة.