الأحد 29/3/2009: بيت واحد بيوت كثيرة سكنتُ فيها ولا بيت لي. عشت في مدن كثيرة، وليس لي مدينة، ولا حتى قرية نائية أصاحب فيها الشجر والطير وأقرأ نجوم السماء في ليالي الصيف. الإقامة أن تسكن في بيت واحد ويسكنك هذا البيت إن غادرته لأيام معدودات. تكون خربشات جدار البيت وشماً على يديك، بل على القلب، ترتجف مع دقاته. يكفيك أن تعرف العالم معرفة سطحية، لتعود الى بيتك الحاضن مثل رحم الأم. ولن تكون لك هذه النعمة لأنك ساكن بيوت كثيرة في مدن كثيرة: تلك المشاطئة للبحر الأبيض المتوسط، بيروت، يرتجف قلبها وترتجّ بيوتها من وطأة الصراع المديد بين شرق وغرب. وتلك النائية في كندا، مونتريال، تحتفظ بثقافتها الفرنسية هوية وحيدة، فتبدو أغاني أديث بياف مثل نشيد وطني. وهناك المدينة الأخرى في شمال أميركا، تورونتو، ليست كندية ولا أميركية. مدينة الأشجار الهياكل، تكتمل حين تلبس الثلج لتعود سريعاً الى عريها يصرخ عالياً في وجه سماء زرقاء صافية. والمدينة الصعبة هي لندن، سيدة مدن الأرض حيث تتألق ثقافات الشعوب، وتركن أنت قرب سريرك البارد، لا تستطيع ثقافتك الخرساء دفعاً لذلك الانكفاء، يعممه الآسيويون المتطرفون ويساهم في التعميم مستفيدون آخرون. وحدك في لندن تشعر بخسارة عضويتك في نادي الثقافات الحية، عضوية أهلك الذين أتتهم الضربة من بيت أبيهم قبل ان يضربهم الآخرون. هل يكون لك مسكن في مدينة، أو حتى بيت ناء في بلادك الأصلية، أو البديلة، وشجرة أليفة ونبات وحشي طالع من ذلك التراب بالذات، بعيداً عن تهجين أو نبات مستورد؟ الإقامة بيت وحيد، فإذا تعددت البيوت يدخل الفرد في حالة غجرية يستمتع برؤيتها المتفرجون ولا يرتضونها لأنفسهم. الاثنين 30/3/2009: قمة البشير لم يتوقع قادة العرب انضمام عمر حسن البشير الى قمتهم في الدوحة، لكنه حضر بطائرته الخاصة ليفاجئهم. تحدث اليهم فرداً فرداً، ثم مجتمعين، عن تجربة حكمه الناجحة في السودان، حيث تُراعى المناطق والأعراق والأديان وتعتمد في آليات الحكم الموسعة مجالس تقليدية تعادل مجالس الشيوخ في أوروبا، تتخذ أشكالاً مركزية ومناطقية، وحيث القضاء مستقل ونزيه يساعد في جذب الاستثمارات، وحيث نهضة زراعية أدهشت العالم وجعلت من السودان مصدراً رئيساً لغذاء العرب والأفارقة، فصار الجوع صفحة مطوية من الماضي. هذه المفاجأة لم تحدث، والآتي الى الدوحة كان نذيراً لا بشيراً. وهو أضاف الى مشكلات العالم العربي عبئاً جديداً، فاضطر القادة الى التضامن معه على مضض، ضد المحكمة الدولية، مدركين أنهم لا يسدلون بذلك الستار على مأساة الشعب السوداني في دارفور وغيرها، بعدما تفاقمت في عهد «النذير» وعهد معلمه حسن الترابي الذي تنصل بعدما وقعت الواقعة. حضور البشير/ النذير أسدل الستار على ملفات القمة العربية، وأبرزها تطرف رئيس الوزراء الاسرائيلي (الجديد) بنيامين نتانيانو ووزرائه اليمينيين، خصوصاً أفيغدور ليبرمان، وملف المصالحات العربية الذي لم يحظ بعناية كافية لأن القادة العرب انشغلوا بعمر حسن البشير وتضامنوا على مضض، على رغم محبتهم العميقة للشعب السوداني الجريح. الثلثاء 31/3/2009: «ظل الأفعى» يوسف زيدان الذي نالت روايته «عزازيل» جائزة بوكر العربية هذه السنة بعدما طبعت ست طبعات في ستة أشهر، سبق ان أصدر عام 2007 روايته الأولى «ظل الأفعى» فلم تحظ بالتفات كاف من القراء ومن الإعلام. بداية زيدان الروائية هي «عزازيل»، ذلك ان روايته الأولى تهدف الى «الحض على اعادة اكتشاف الذات وتصحيح مفهوم الانسانية وصورة المرأة»، كما جاء في كلمة الغلاف (بموافقة المؤلف) وانها حكاية «تحولات صورة الأنثى في ثقافتنا... من أفق الانثى المقدسة الى دهاليز النسوة المدنسات»؟ تؤكد روايتا يوسف زيدان ولعه بالأفكار الشمولية/ الدينية القديمة وأثرها في عواطف الانسان واجتماعه وعلاقته بالآخر وبالمكان وعناصره، لكنه في «ظل الأفعى» صاحب رسالة مباشرة أكثر مما هو راوٍ يشكّل أشخاصاً وأمكنة. والرواية هذه قسمان: الأول سردي والثاني رسائل في تجميد «الأنثى المقدسة». في السرد مشاهد مختصرة لزوجين، الرجل محدود الثقافة والمرأة واسعة الاطلاع تتقن لغات عدة وتتمتع بإحساس عميق بوجودها الانثوي ورثته عن أمها المسافرة. مات أبوها في ريعان شبابه ورباها جدّها لأبيها الضابط العالي الرتبة، بعدما انتزعها من الأم التي سرعان ما غادرت وطنها لتعمل استاذة جامعية ثم خبيرة دولية. وحين تبلغ الزوجة الثلاثين من عمرها تتلقى رسائل من أمها تزيدها بعداً عن الزوج فلا يلتقيان «بعدما خولف بين طريقيهما». يشكو الزوج الى جدّ الزوجة أحوالها الغريبة ويخبره عن الرسائل، فيغضب الجد لكنه لا يستطيع التأثير في حفيدة اعتمدت نهائياً أفكار والدتها. هنا تزداد المسافة اتساعاً بين الزوجين الى ان تقرر المرأة الرحيل الى حيث والدتها، لكن الزوج يشتبك معها محاولاً قراءة الرسائل، فيتمزق بعضها وراء المرأة المتعجلة التي تسافر بلا عودة الى مصير «الأنثى المقدسة». في الرسائل تتبدى أفكار الأنوثة الأولى حين كان البشر ينسبون الى أمهاتهم، قبل ان يصادر الرجل هذا الموقع ويدفع المرأة الى الدونية مقنعاً اياها بدنسها، وقد حدث ذلك، كما يذكر الكاتب، بدءاً من العقيدة اليهودية، وتكرس معها ومع ما تلاها من عقائد. والأفعى التي تحولت الى رمز سلبي كانت في الأصل رمزاً ايجابياً لأنها شعار المرأة الأثير: «هل تعلمين يا ابنتي ان تسعين في المئة من الافاعي غير سام، وان مئة في المئة من الأفاعي لا تهاجم إلا انساناً اعتدى عليها أو عبث بجحرها أو اقترب من ذريتها. الأفعى كائن مسالم في الاساس». يحاول يوسف زيدان في «ظل الأفعى» ان يكتب الرواية - الاسطورة بعد حوالى اربعين عاماً من غرق الشعر العربي الحديث في بئر الاسطورة اليونانية والمشرقية والفرعونية، ويثبت في روايته نصوصاً من مصر القديمة وسومر وبابل وأكاد تمجّد الانثى، وينقل عن كليمان الاسكندري أحد آباء الكنيسة (توفي سنة 216 ميلادية) قوله «انما جئت لأدمر أعمال الأنثى». لم تطق الزوجة استغراق زوجها في السعي الى أن «يجعل من الواعية وعاء»، فتفترق عنه ملبية نداء أتاها في رسائل الأم: «فتدبري يا ابنتي، من الذي من شأنه ان ينظر للآخر نظرة الوجل والازدراء والتأفف: الانسان أم الافعى؟ ان الأفاعي لو كانت لها لغة لحفلت آدابها بنصوص في تحقير البشر، تحقير حضارة الرجل الحديث تحديداً. لأن البشر قديماً كانوا يعرفون قدر الأفعى، كانوا يجلّونها باعتبارها رمزاً وتجلياً لصورة الأنثى المقدسة». «ومن العجائب الخفية للغة العربية أمر لم يفطن له معظم أهلها يرتبط بأزمنة الأنثى المقدسة. ففي العربية اسم مفرد لا يمكن جمعه واسم جمع لا يمكن إفراده. المفردة التي لا تجمع هي كلمة (المرأة) والجمع الذي لا يفرد هو كلمة (نساء)». الأربعاء 1/4/2009: قمة العشرين قمة العشرين في لندن أشبه بقيادة للعالم تبحث في أزمة مالية تعصف به، من الولاياتالمتحدة وصولاً الى أماكنه النائية، والأزمة تدل الى وحدة عالمية وصلنا اليها ونحن في ذروة تفتتنا، بل ان معظم دول العالم فقد الى حد بعيد، السيطرة على الشعب والارض لمصلحة قوى محلية - ما قبل دولتية - تتنازع على الأفكار/ المعتقدات أكثر منها على المصالح. التظاهرات التي استقبلت قادة العالم، اختارت للاحتشاد قلب لندن، حيث سوق المال، وحيث المكان الذي شهد الثورة الصناعية وما نتج منها من متغيرات في الاقتصاد والاجتماع والسياسة والفكر، شكلت عماد الحداثة، هذا المكان ألهم الثورتين الفرنسية والأميركية ومنه سادت أفكار الرأسمالية في وجوهها الثلاثة: الاطلاقي والمقيّد وذلك الذي تصادره الدولة. المحتجون في وسط لندن ركزوا على فشل الرأسمالية في شكلها المتوحش وعلى تردي حال البيئة وخطر الحروب المتنقلة. احتجوا وطالبوا بمعالجة جادة لمسائل ساخنة، ولم يدّعوا امتلاك الحقيقة أو الحل، بل طلبوا مبادرة الجميع، حكاماً وشعوباً، الى معالجة الوضع المتردي بدءاً من معالجة أسبابه، خصوصاً في قطاع المال، لذلك صنعوا تمثالاً يرمز الى ادارة البنوك وأحرقوه في قلب سوق المال. ليسوا ايديولوجيين ولا استئصاليين، فطلاب الجامعات الذين شكلوا اكثرية المحتجين لا يشبهون نظراءهم الذين اطلقوا الثورة الطالبية عام 1968، خصوصاً في فرنسا. هؤلاء المحتجون في وسط لندن لا يعتبرون أنفسهم البديل بل يحرضون على البحث عن آليات بديلة تنقذ العالم وتجنبه مزيداً من الويلات.