شكلت هذه المرحلة آخر المراحل الخمس التي مرت فيها حزب 1948 ابتداء بمرحلة القتال الأولى من 15 أيار/ مايو الى 11 حزيران/ يونيو 1948 ومروراً بمرحلة الهدنة الأولى الموقتة من 11 حزيران الى 8 تموز/ يوليو 1948 فمرحلة القتال الثانية من 8 الى 18 تموز 1948 ومرحلة الهدنة الموقتة الثانية من 18 تموز 1948 الى 5 كانون الثاني يناير 1949 وانتهاء بالمرحلة التي نحن بصددها. كانت هذه المرحلة أقسى المراحل الخمس علينا وطئة وأفدحها ذيولاً ذلك انها كانت مرحلة قطاف لنا ولعدونا لثمار كل ما زرعه كلانا في المراحل الأربع السابقة، فلا غرو ان استفردنا عدونا فيها على طاولة المفاوضات استفراده لنا على جبهات القتال، ولا عجب مما حصده من وفير الغلة لنفسه وغزير الذل والهوان والخسارة والضياع لغيره، فيما اجراه من مفاوضات تباعاً مع كل من مصر ولبنان وشرق الأردن وسورية، أحكم فيها الربط بين الوسيلة العسكرية والوسيلة غير العسكرية للاستحصال على آخر قطيرة من المغانم والمكاسب أراض وقرى وأطياناً ومزارع وحدوداً وشروطاً وقيوداً على حسابنا. فكيف سارت هذه المفاوضات على كل من المسارات الأربعة التي اسلفنا؟ المفاوضات الاسرائيلية - المصرية كانت مصر أول دولة عربية مقاتلة انصاعت تحت وطئه عمليتي يواف 15 - 22 تشرين الأول/ اكتوبر 1948 وحوريف 22 كانون الأول/ ديسمبر 1948 - 8 كانون الثاني 1949 لقرارات مجلس الأمن القاضية بوقف القتال وبدء مفاوضات بغية الوصول الى هدنة دائمة والاتفاق على الحدود الفاصلة بين الأطراف المتحاربة. بيد ان شرق الأردن كانت سبقتها كما ذكرنا تحت وطئة عملية داني 9 - 19 تموز 1948 بفتح قناة اتصال سري مباشرة مع اسرائيل في 19 تموز 1948 وهو اتصال دام طيلة الأشهر التالية واستمر متزامناً مع مفاوضات مصر ثم مفاوضات لبنان العلنية ايضاً مع اسرائيل. بدأت المفاوضات الاسرائيلية - المصرية في 13 كانون الثاني في جزيرة رودس برعاية رالف بانش نائب الوسيط الدولي لكنها تحولت تدريجياً الى مفاوضات مباشرة بين الطرفين من دون وساطة دولية. وكان مطلب مصر الأولي العودة الى ما وراء حدود 15 تشرين الأول اي الى الحدود التي كانت قائمة قبل عملية يواف عملاً بقرار مجلس الأمن القاضي في حينه بذلك، كما رفضت مصر الاقرار بشرعية احتلال اسرائىل لبئر السبع الواقعة داخل الدولة الفلسطينية بموجب قرار التقسيم، وطالبت مصر كذلك بإجلاء قواتها التي كانت ما زالت محاصرة في جيب الفالوجا، اما موقف اسرائيل الأولي فكان الجلاء التام عن أراضي فلسطين الى ما وراء الحدود الدولية بما في ذلك الجلاء عن قطاع غزة، كما رفضت اجلاء القوات المصرية المحاصرة في جيب الفالوجا، بيد ان الطرفين ما لبثا ان تخليا عن موقفيهما الأولين واخذا بالاقتراب بسرعة نحو حل "وسط"، وكان مصير قطاع غزة موضوع نقاش داخل الحكومة الاسرائيلية، فثمة فريق يدعو الى ضمها وآخر الى اعطائها الى الملك عبدالله، وكان من رأي موشيه شرتوك شاريت فيما بعد وزير الخارجية وجوب "اعطاء" القطاع الى مصر. ويذكر بن غوريون في يوميات الحرب ان شرتوك قال له في 11 كانون الثاني 1949 "ما هي مصلحتنا في مخاصمة مصر بسبب سيطرة عبدالله على غزة ومنحه طريق الى النقب وهو ما يعني جلب بيفن وزير خارجية بريطانيا الى هنا". ويسجل بن غوريون انه اقتنع بكلام شرتوك وكان المسيطر على القاهرة حينذاك نفور عام من الدول العربية بسبب عدم نجدتها للجيش المصري خلال عمليتي يواف وحوريف، ويدوّن بن غوريون في يوميات الحرب في 15 كانون الثاني في هذا الصدد "لدى ساسون الذي كان من جملة المفاوضين الاسرائيليين في رودس انطباع واضح ان المصريين يريدون السلام وأنهم ضاقوا ذرعاً بتورطهم في سياسة عربية شاملة وانهم ذاقوا طعم الهزيمة المرّ". ومما يلقي الضوء على جو مصر خلال هذه الفترة ومزاجها ان العراق الذي كان تولى نوري السعيد رئاسة الوزارة فيه في 6 كانون الثاني 1949 بعد استقالة مزاحم الباجه جي أوفد في 23 كانون الثاني جميل المدفعي رئيس مجلس الأعيان الى القاهرة حاملاً آراء نوري السعيد ونصائحه الى رئيس الوزارة المصرية ابراهيم عبدالهادي. وكان رأي السعيد ان على مصر "التمسك في رودس بمقررات مجلس الأمن حرفياً أي المطالبة بالعودة الى ما وراء حدود 15 تشرين الأول 1948" الا اذا كان هناك أمور يجهلها نوري تتعلق بالحكومة المصرية"، ويقترح السعيد ايضاً عدم سحب القوات المصرية من الفالوجا، واذا لم يقبل اليهود بذلك يطلب رفع الحظر على السلاح عن الحكومات العربية وابقاء هذا الحظر على اليهود. ويجيب ابراهيم عبدالهادي على هذه النصائح قائلاً: "ان مصر مبدئياً دخلت المفاوضات مع اليهود حرة وحدها، وانها ستكمل الأمر وحدها ايضاً ودون التقيد بغير امكانياتها، على انها من الطبيعي ان تسلك كل الطرق لتحقيق المطالب العربية، وان التشدد في مفاوضة اليهود يجب ان يكون مستنداً الى قوتنا وقدرتنا على استئناف القتال أو عدمه". وتتبلور المفاوضات في رودس بين الطرفين في اتفاق فحواه بقاء قطاع غزة في أيدي مصر وجعل منطقة العوجا الاستراتيجية من الناحية الفلسطينية مجردة من السلام، واجلاء القوات المحاصرة في جيب الفالوجا بسلاحها. ونص الاتفاق كذلك على ان الخطوط الفاصلة بين الطرفين حددت من دون الإخلال بحقوق ومطالب ومواقف كليهما بالنسبة للتسوية النهائية للقضية الفلسطينية ولا يجوز اعتبارها بأي معنى كان على انها حدود سياسية أو اقليمية. وكان حجم القطاع ما هو عليه اليوم طوله 25 كلم، وعرضه ما بين 3.5 و5 كلم، وكان يقطنه حينذاك 70.000 نسمة من سكانه مضافاً اليهم 200.000 من لاجئي القرى المجاورة الذين طردتهم اسرائيل، وكان عدد القرى التي سقطت بانسحاب القوات المصرية من النقب 45 قرية اضافة الى بلدة المجدل وهي قرى صمدت وقاومت وحاربت الى جانب الجيش المصري الى آخر يوم من القتال. ويدوّن بن غوريون في يوميات الحرب في 24 شباط فبراير 1949، وهو يوم التوقيع على الاتفاق: "وقع اليوم اتفاق الهدنة مع المصريين، بعد اقامة الدولة وانتصاراتنا في ميدان القتال، فإن هذا هو الحدث الأعظم خلال عام الأعمال المجيدة" أي عام 1948. المفاوضات الاسرائيلية - اللبنانية بدأت المحادثات بين الطرفين في 14 كانون الثاني 1949 لكن اسرائيل آثرت ان تؤجلها الى ما بعد التوقيع على الاتفاق الاسرائيلي - المصري في 24 شباط واستؤنفت المفاوضات في 1 آذار مارس في مركز رأس الناقورة على الجانب الفلسطيني من الحدود الذي كان الجيش اللبناني قد احتله عند بدء القتال. ويذكر القارئ ان الجيش الاسرائيلي كان قد احتل حوالى عشر قرى لبنانية في شريط حدودي يحاذي "اصبع" الجليل ويمتد ما بين المالكية ونهر الليطاني شمالاً وذلك بعد دحر قوات القاوقجي وإخراجها من فلسطين في عملية حيرام 29 - 31 تشرين الأول 1948 وأصرت اسرائيل عند استئناف المفاوضات على ربط الاتفاق بين الطرفين بانسحاب الجيش السوري من رأس الجسر الذي كان اسسه عبر نهر الأردن جنوبي بحيرة الحولة عند احتلاله لمستعمرة مشمارهايردين في 6 - 7 حزيران يونيو 1948 الذي كان لا يزال يحتفظ به، ولكنها في الوقت نفسه اعادت قرى من القرى العشر اللبنانية التي كانت احتلتها هي: قنطرة، ودير سريان، والقصير، وعلما، ويارون. وعند تعثر المفاوضات بسبب ربط اسرائيل تقدمها بانسحاب الجيش السوري من مشمارهايريدن تدخل نائب الوسيط الدولي رالف بانش واخذ بالضغط على اسرائيل لتوقيع اتفاق مع لبنان. وفي 16 آذار بحث بن غوريون الأمر مع كبار قادته العسكريين ومستشاريه في الخارجية وحسمه بفك الربط بين الاتفاق مع لبنان وانسحاب الجيش السوري من مشمارهايردين شرط "إعادة" لبنان لمركز رأس الناقورة الحدودي وخروج كتيبة سورية كانت مرابطة في لبنان منه. جمل بن غوريون في يوميات الحرب بالتاريخ ذاته الأسباب التي دعته لهذا القرار كالآتي: "1- ان هذا الاتفاق سيعزز موقفنا في ايلات أي العقبة. 2- سيعزز موقفنا في المحادثات مع شرق الأردن. 3- سيسهل لنا العملية في المثلث جنين - طولكرم - نابلس اذا كنا سنضطر للتحرك بهذا الاتجاه. 4- انه سيعزز مطلبنا من السوريين كما اننا لا نريد ان نربط دولة عربية بأخرى". وهكذا تم في 23 آذار الاتفاق على الهدنة الدائمة بين اسرائيل ولبنان وجعلت الحدود الانتدابية الدولية الحد الفاصل بين الطرفين كما تأسست الى جانبي الحدود مناطق مجردة من السلاح حظر على كليهما ابقاء أكثر من 1500 جندي فيها. المفاوضات الاسرائيلية الأردنية لم يذهب الوفد الشرق الأردني المفاوض الى رودس بدعوة من نائب الوسط الدولي إلا بعيد التوقيع في 24 شباط 1949 على الاتفاق الاسرائيلي - المصري وابتدأت المفاوضات الرسمية بين اسرائيل وشرق الأردن في رودس في 2 آذار، بيد انه كما ذكرنا، كانت المفاوضات السرية بين الطرفين بدأت قبل ذلك بكثير، بل وقطعت أشواطاً في نهاية شباط وحتى بعد بدء المفاوضات الرسمية في رودس ظلت هذه المفاوضات الأخيرة شكلية ظاهرية بينما كانت المفاوضات الجدية تجري عبر مركزين رئيسيين: القدس حيث مثل شرق الأردن الحاكم العسكري عبدالله التل يدعمه شوكت الساطي المقرب من القصر ومثل اسرائيل موشي دايان الحاكم العسكري الاسرائيلي يدعمه الياهو ساسون كبير خبراء اسرائيل في الشؤون العربية والشونة مقر الملك عبدالله الشتوي في الغور الأردني مقابل أريحا. وكانت نقاط التصادم الرئيسية بين الطرفين حول قضايا مصيرية ثلاثة: أولاً، القدس، وثانياً العقبة، وثالثاً حدود المثلث في القطاع الذي كان الجيش العراقي لا يزال يحتله ما بين جنين وطولكرم فقلقيلية، ووظفت اسرائيل كامل سلطانها وانجازاتها على الجبهتين الجنوبية والشمالية لابتزاز عمان في شأن هذه القضايا الثلاث الى آخر حدود الابتزاز، فجاء أحكام ربطها للوسيلة العسكرية بالوسيلة غير العسكرية بهذا الهدف مثالاً نموذجياً لكيف يكون عليه الابتزاز والربط في هذه الحلبة. والمفارقة انه كان بين الطرفين قاسم مشترك بصدد الباب الآمر في القدس، اي موضوع السيادة، ذلك انهما استبعدا كما ذكرنا صيغة الوصاية الدولية التي كانت الاممالمتحدة اقرتها، فاتفقا عبر المفاوضات السرية على اقتسام المدينة. اذ تحتفظ اسرائيل بالقدس الغربية بكاملها ويحتفظ شرق الأردن بالقدس الشرقية بمعظمها بما في ذلك البلدة القديمة ومقدساتها، وظلت قضايا خطيرة تخص القدس عالقة الى حين غير قضية السيادة منها: الاتصال بالجيب اليهودي الذي تضمن الجامعة العبرية ومستشفى هادسا شمال شرق القدس الشرقية، ومنها طمع اسرائيل بحبل المكبر جنوب القدس حيث وقف الخليفة عمر بن الخطاب مكبراً عندما وقعت عيناه للمرة الأولى على أولى القبلتين، وطمعها بالقرى العربية على امتداد سكة الحديد جنوب غربي القدس، ومنها الوصول الى حائط البراق، بيد ان جميع هذه القضايا غدت محاور ضغوط شديدة ومتصلة من اسرائيل الى ان حلت باستثناء موضوع الوصول الى حائط البراق لمصلحتها أكثر منها قضايا استراتيجية تستدعي المجابهة العسكرية. ولم توصل عملية حوريف 22 كانون الأول 1948 - 8 كانون الثاني 1949 على الجبهة المصرية الجيش الاسرائيلي الى ذاك المثلث الجنوبي الشاسع من النقب جنوب بئر السبع والبحر الميت الذي يمتد الى بلدة العقبة وخليجها، وكانت بلدة العقبة ذاتها وقرية ام الرشرش المقابلة لها في حوزة قوة صغيرة من الجيش العربي الأردني وكانت الأولى داخل حدود شرق الأردن والثانية داخل حدود فلسطين الانتدابية وكان الملك عبدالله حريصاً أشد الحرص على الاحتفاظ بالعقبة وخليجها وبما استطاع من مثلث النقب الى الشمال منها، واصطدمت رغبة عمان بتصميم لا زحزحة عنه لبن غوريون على مد السيادة الاسرائيلية الى أم الرشرش على خليج العقبة حتى يكون لاسرائىل مدخل على البحر الأحمر يمنحها الاستقلال البحري عن قناة السويس وحرية الاتصال التجاري بدول افريقيا الشرقية والشرق الأقصى، وبالفعل اخذت القوات الاسرائيلية تتأهب لاحتلال مثلث النقب الجنوبي وأم الرشرش فور الانتهاء من عملية حوريف، وشعر الملك عبدالله بذلك فاستنجد ببريطانيا التي كانت حريصة من جهتها لأغراضها الدفاعية الشرق أوسطية على احتفاظ عبدالله بمثلث النقب ومنع اسرائيل من الوصول الى خليج العقبة "فاستجابت" لنداء عبدالله وانزلت في 13 كانون الثاني 1949 قوة دبابات صغيرة في العقبة قبالة قرية أم الرشرش حيث كانت ترابط الحامية الصغيرة من الجيش الأردني، وهكذا برزت قضية العقبة كإحدى مراكز التصادم الكبرى بين عمان وتل ابيب تحمل في طياتها مضاعفات خطيرة بالنسبة لمسار المفاوضات الخاصة بالقدس وبالقطاع العراقي في المثلث الشمالي والعكس بالعكس، وتنزعج اسرائيل كل الانزعاج من نزول قوات بريطانية في العقبة وتعاتب عمان على ذلك وعلى دعوتها لها، وتعتبر هذه الدعوة عملا عدوانياً يخالف روح المفاوضات السرية القائمة بينهما، وتنكر عمان انها هي التي طلبت من بريطانيا النزول في العقبة، وتظل اسرائيل على حنقها وتأخذ في التشدد بالنسبة لموضوع القطاع العراقي، وتبدأ بإعداد عملية واسعة النطاق ضده، وتظل على موقفها المتصلب هذا حتى بعد ان تعترف بريطانيا بها اعتراف الأمر الواقع في 26 كانون الثاني 1949. وأدركت اسرائيل كل الإدراك المأزق الذي وجد الجيش العراقي نفسه فيه في المثلث الشمالي بعد عملية حوريف على الجبهة المصرية وبدء مفاوضات الهدنة العلنية في الاسبوع الثاني من كانون الثاني 1949 بين كل من مصر ولبنان من جهة واسرائيل من جهة ثانية، وبعد عملية حيرام ضد قوات القاوقجي 29 - 31 تشرين الأول 1948 اضافة الى استكانة الجيش السوري عند مشمار هايردين وقيام هدنة معلنة بين الجيشين الأردني والاسرائيلي في القدس، ولم تكن اسرائيل لتجهل ما كان من أمر مؤتمري عمان 1 تشرين الأول 1948 وأريحا 1 كانون الأول 1948 والمؤتمرين اللاحقين في رام الله 26 كانون الأول 1948 ونابلس 28 كانون الأول المطالبة جميعاً بمبايعة الملك عبدالله ملكاً على فلسطين، وعليه أخذت اسرائيل من ناحية تضغط على الجيش العراقي عن طريق تحركات وتحرشات على طول جبهته تنم عن نية فعلية على ضربه بغية اقناعه بالانسحاب من البلاد، ومن ناحية أخرى بالضغط على عبدالله لدفع ثمن سماحها له بالحلول محل الجيش العراقي المنسحب، وهكذا تحكمت اسرائيل بكل من برنامج انسحاب الجيش العراقي وشروطه من جهة، وبمدى حلول جيش شرق الأردن محله وبتوقيته من جهة أخرى. وفي هذه الأثناء تشهد بغداد، شأنها في ذلك شأن القاهرة وغيرها من العواصم العربية، مظاهرات شعبية وطلابية صاخبة احتجاجاً على سير القتال في فلسطين، وتعكس مقررات اتخذها مجلس الأمة في 24 و28 تشرين الثاني نوفمبر 1948 في جلسة مشتركة الشعور العام إذ تنص كما أوردها رئيس أركان الجيش العراق صالح صائب الجبوري في مذكراته على وجوب "وضع خطة سياسية موحدة مقرونة بتأييد صريح قطعي من ذوي الحل والعقد والمسؤولين في الدول العربية تعين بصراحة ووضوح الأعمال الحاسمة التي ينبغي القيام بها للقضاء على أية محاولة لتكوين دولة يهودية". ولم يكن بطبيعة الحال في وسع السلطات العراقية في هكذا جو الا رفض قرار مجلس الأمن القاضي بالبدء بمفاوضات للوصول الى هدنة دائمة بين المتحاربين وفي 28 كانون الأول ديسمبر 1948 تبلغ بغداد نائب الوسيط الدولي بهذا القرار، وكان ما كان مما أسلفنا من استقالة مزاحم الباجة جي وتولي نوري السعيد رئاسة الوزارة وايفاده لجميل المدفعي لمقابلة رئيس وزارة مصر ابراهيم عبدالهادي، ويشعر عبدالله بضرورة التنسيق الوثيق مع العراق في المرحلة التالية فيعقد في 20 شباط اجتماع قمة في وسط الصحراء في محطة H3 ايج ثري الكائنة على أنبوب البترول الممتد من بغداد الى حيفا يحضره الملك عبدالله وكل من الأمير عبدالاله ونوري السعيد والجبوري ويطلب عبدالله شمول الهدنة المنطقة العراقية في فلسطين وتسليم الخطوط الأمامية العراقية الى الجيش الأردني كما يطلب تخويله المفاوضة مع اسرائيل نيابة عن العراق، ويجيب السعيد "بعدم وجود حاجة الى التخويل وان العراق يضطر لقبول الهدنة والانسحاب بعد قبول الجيوش العربية الأخرى لها". وهكذا يحصل عبدالله على مبدأ انسحاب الجيش العراقي من دون التخويل المطلوب وتتبع اتصالات بين الطرفين تستمر على مدى ثلاثة أسابيع يحاول العراق فيها الاتفاق على برنامج زمني لتسليم قطاعه من دون أن يصل الى نتيجة بسبب تردد شرق الأردن في الاستلام ويكون سبب تردد شرق الأردن عدم حصولها على التخويل المطلوب وتخوفها من استغلال اسرائيل لذلك، ويحاول عبدالله الاستنجاد بكل من لندن وواشنطن فتفهمه لندن في 18 آذار بأن المعاهدة البريطانية الشرق أردنية لا تسري على الضفة الغربية، وينصحه هاري ترومان بالتعجيل بالتوقيع على اتفاق الهدنة مع اسرائيل وتأجيل بحث المسائل الحدودية الى حين التسوية الشاملة ويكرر ما كان ممثل الولاياتالمتحدة قد قاله في مجلس الأمن 19 تشرين الثاني من أن التسوية ستبنى على أساس مقايضة أراض، كما أكد مجدداً معارضة الولاياتالمتحدة لاستيلاء اسرائيل على أراض تتعدى خطوط 29 تشرين الثاني 1947 مشروع التقسيم الا في مقابل مقايضة أراض بأخرى. وفي هذه الأثناء يعطي بن غوريون الاشارة ببدء عملية موفدا الأمر الواقع وتتحرك 3 ألوية من الجيش الاسرائيلي نحو خليج العقبة انظر الخريطة وتحتل أم رشرش من دون مقاومة وتنسحب قوة الجيش الأردني الصغيرة منها ولا يحرك الجيش البريطاني في العقبة المقابلة ساكناً، ويُرفع العلم الاسرائيلي على "ايلات" ام رشرش سابقاً في 11 آذار 1949، وينفصم مشرقنا عن مغربنا من دون إراقة نقطة دم عربية أو غازية واحدة، ويدوّن بن غوريون في يوميات الحرب زاهيا "وصلنا الى ايلات وربما هذا هو الحدث الأعظم خلال الأشهر الأخيرة ان لم يكن طوال حرب التحرير". وما أن ينتهي بن غوريون من عملية عوفدا حتى يعد العدة لعملية شين تاحت شين السن بالسن لضرب الجيش العراقي في قطاع المثلث الشمالي ما لم ينسحب ويعطي شرق الأردن التخويل بالمفاوضة باسمه ويطالب شرق الأردن بشريط حدودي متوسط عمقه حوالى 3 كلم على طول الجبهة العراقية انظر الخريطة خلف الخطوط الأمامية القائمة ثمناً لسماحه الجيش الأردني باستلام مواقع الجيش العراقي وفي 27 آذار "تفوض الحكومة العراقية حكومة شرق الأردن بالتفاوض بشأن القطاع الذي تستولي عليه باسم شرق الأردن نفسه" أي ليس باسم العراق ويبدأ الجيش العراقي انسحابه من الجبهة في 6 نيسان ابريل 1949 وينهيه في 14 منه ويوقع في رودس في 3 نيسان 1949 على اتفاق الهدنة الاسرائيلية - الأردنية على هذا الأساس وتسقط قرى تقع داخل الشريط حاربت وقاتلت وصمدت الى النهاية الى جانب الجيش العراقي في قبضة اسرائيل ومنها ام الفحم، وعارة، وعرعرة وباقة الغربية وباقة الشرقية، والطيرة، وجلجوليا، والطيبة، وقلنسوة وكفرقاسم ناهيك عن بتيرّ والقبو والولجة وبيت صفافا على خط سكة الحديد جنوب القدس. وفي هذه الأثناء تحصل اسرائيل في 11 كانون الثاني 1949 على قرض أميركي بقيمة 100 مليون دولار وفي 4 آذار 1949 أي عشية عملية عوفدا يقرر مجلس الأمن ان اسرائيل "بحسب رأيه دولة محبة للسلام وقادرة وعازمة على تنفيذ الالتزامات التي يتضمنها الميثاق". وبناء عليه توصي الجمعية العامة بقبول اسرائيل لعضوية الأممالمتحدة. المفاوضات الاسرائيلية - السورية أصاب دمشق ما أصاب القاهرة وبغداد من مظاهرات صاخبة حانقة على مجرى الأحداث في فلسطين ما أدى في كانون الأول 1948 الى استقالة جميل مردم بك من رئاسة الوزارة وتولي خالد العظم لها. ويخبرنا الأمير عادل ارسلان في مذكراته ان خالد العظم أدلى في 15 اذار 1949 ببيان في اجتماع سري لمجلس النواب خلاصته شرح الأسباب التي تحمل الحكومة على قبول عقد هدنة دائمة مع اليهود فأظهر بعض النواب تفضيلهم انسحاب الجيش السوري الى حدود سورية من دون عقد هدنة تجر الى الاعتراف باسرائيل. وتتفاعل داخل سورية ذيول ما آلت اليه الأمور في الحرب وتنفجر في انقلاب في 30 اذار 1949 يدبره حسني الزعيم قائد الجيش السوري يطيح برئيس الجمهورية شكري القوتلي ويتولى الحكم الزعيم نفسه رئيساً للوزارة ويعين صاحبنا الأمير عادل وزيراً لخارجيتها. ويعلق بن غوريون في يوميات الحرب بتاريخ 31 آذار على الانقلاب السوري بقوله: "نوقشت دلالة الانقلاب خلال محادثات ممثلي الخارجية والجيش وطلب ساسون تأجيل محادثات الهدنة مع سورية كي لا تكون اسرائيل أول من يعترف بالنظام الجديد". وتبدأ مفاوضات الهدنة الاسرائيلية - السورية في 12 نيسان ابريل 1949 ولكنها تتعثر منذ البداية ويصف تاريخ الجيش الاسرائيلي الرسمي هذه المفاوضات بقوله: "كانت هذه المفاوضات الأصعب في الأساس بسبب الحقيقة أنه من بين كل الجيوش التي غزت البلد كان الجيش السوري هو الوحيد الذي احتل منطقة اسرائيلية رأس الجسر في مشمار هايردين ونجح في الاحتفاظ بها حتى الهدنة الثانية وان هذه المنطقة لم تكن حقاً كبيرة إلا أن أهمتها العسكرية والاقتصادية كانت فائقة وفي البداية أصر السوريون بشدة على أن من حقهم الاستمرار في الاحتفاظ بالمنطقة المحتلة من دون شروط وفي ما بعد وافقوا على الانسحاب الى خط نهر الأردن وليس الى الحد السياسي للانتداب الواقع ورائه من ناحية الشرق وازاء الموقف المبدئي الواضح لدولة اسرائيل من هذه المسألة بدأت فترة أزمات وتوقف في المحادثات". وفي هذه الأثناء يخبرنا الأمير عادل ارسلان أنه قاوم بشدة محاولات عدة لحسني الزعيم لاقامة اتصالات مباشرة مع القادة الاسرائيليين فقد طلب الزعيم من الوزير الأميركي المفوض ان يرتب اجتماعاً له مع بن غوريون ورفض هذا الأخير الاقتراح وطلب شرتوك بالمقابل ان يجتمع بنظيره ارسلان نفسه وحثه الزعيم على ذلك ولكن ارسلان رفض الانصياع وأخذ الزعيم يفكر بأن يجتمع هو بشرتوك. وفي 26 حزيران أعلن انتخاب الزعيم رئيسا للجمهورية وتعيين محسن البرازي رئيساً للوزارة واستقال ارسلان في اليوم نفسه من منصبه لكنه كان قد وضع الأسس لاتفاق الهدنة مع اسرائيل الذي وقع عليه في 20 تموز 1949. ويعلق التاريخ الرسمي للجيش الاسرائيلي على اتفاق الهدنة بقوله: "وفي النهاية قدم القائم بأعمال الوسيط اقتراحاً بحل وسط هو نزع السلاح عن المنطقة وكان لا بد من أن تشمل المنطقة المنزوعة السلاح أيضاً دردارة مستعمرة يهودية واقعة شرقي الحولة وعين غيف مستعمرة يهودية شرقي بحيرة طبريا فقد ادعى السوريون أنه إذا لم تشمل المنطقة المنزوعة السلاح النقطتين الأخيرتين فإن أمن سورية سيكون مهدداً لكون هاتين النقطتين تشكلان رأس جسر لغزو سورية". ويصف ارسلان اتفاق الهدنة كالآتي: 1- الاتفاق مبني على الخطوط الحاضرة شرط أن يمر خط الهدنة في منتصف المسافة التي تفصل بين خطوط الجيشين. 2- الأرض الواقعة بين خط الهدنة والحدود السورية بما فيها عين غيف والدردارة تكون منطقة مجردة من السلاح. 3- المنطقة التي منها سمخ الى نهر اليرموك تكون أرضاً غير محتلة أي انه محظور على القوات اليهودية دخولها ولا دخول الأرض التي بين خط الهدنة وخط اليهود الحربي. 4- على جانبي خط الهدنة والى مسافة ستة كيلومترات عمقاً من الجانبين تكون منطقة قوات محدودة مخففة حيث يسمح لمفارز عسكرية صغيرة بالمرابطة والتجول لأسباب دفاعية صرفة. 5- تعطى هذه المنطقة ادارة خاصة وهي لا تخضع لسلطة أحد من الفريقين فتكون ادارتها محلية، القرى العربية يكون لها ادارة عربية والقرى اليهودية يكون لها ادارة يهودية محلية والكل تحت مراقبة الأممالمتحدة ولا يسمح بدخول هذه المناطق المجردة إلا لسكانها الأصليين ولن يسمح لقوات الفريقين بدخولها ويحفظ الأمن بواسطة شرطة عربية في القرى العربية ويهودية في القرى اليهودية. وبعد فلعل أفضل خاتمة لكل ما سبق ما دوّنه بن غوريون في يوميات الحرب بتاريخ 29 كانون الثاني 1949، يقول بن غوريون انه اطلع على بيان لأحد العرب الفلسطينيين يقول ان الهزيمة في القضية الفلسطينية هزيمة القيادة العربية وخطها السياسي لا هزيمة الأمة العربية وان طاقات الشعب العربي وقدرته هائلة لكن ثمة بونا شاسعاً بين امكانات الأمة وبين الواقع وان وحدة الأمة العربية هي أساس الأسس وان لا بد من ضمان حرية الفرد في مزاولة حياة نزيهة وعيش كريم ومن تعزيز الصناعة والعصرنة وفتح مؤسسات للتعليم العالي وازالة الحدود الجمركية بين البلاد العربية وتوحيد قيادة الجيوش العربية وفتح مصانع للأسلحة وتنظيم دعاية فعالة في العالم، يقول بن غوريون معلقاً على ما سبق "هذا هو الطريق الذي ينشده العرب وأنا أتخوف طوال الوقت من أن يقوم زعيم عربي بقيادة العرب على هذا الطريق".