بعد سقوط اللد والرملة والناصرة تسارعت الاحداث انحداراً في النصف الثاني من سنة 1948 ورُفع الستار عن مظاهر التماسك الزائف بين العواصم العربية وازداد العدو صلفاً وجبروتاً بحصوله على السيطرة الجوية التامة ونمو ترسانته من الاسلحة الثقيلة وانفضاح غيبة ادنى درجات التنسيق بين الجيوش العربية وانشطر الشعب الفلسطيني الى معسكرين متقابلين لما رآه ولهول ما اصابه ولهزالة زعامته وتنظيمه السياسي. وتناطحت المواقف العربية مع بعضها البعض بشأن مشروع برنادوت في المحافل الدولية وفي هيئة الامم واستفرد العدو جيوشنا وحكوماتنا استفراد فرديناند وايزابيلا لملوك الطوائف بالاندلس محصلة لكل ما اسلفنا من اعتبارات وعلل. احداث شهر تموز كان مجلس الامن قرر سريان هدنةٍ تبدأ في 18 تموز يوليو تحت طائلة العقوبات بموجب الفصل السابع من ميثاق الاممالمتحدة من دون تحديد مهلة زمنية لها كما حدث عند اقراره للهدنة الاولى من 11 حزيران/ يونيو الى 8 تموز/ يوليو على ان يقوم الوسيط الدولي برنادوت بمساع للوصول الى تسوية دائمة بين الطرفين المتحاربين. ويعلّق الامير عادل ارسلان على الهدنة بقوله "من عواقب قبولنا الهدنة بلا قيد ولا شرط بأنا صرنا كلما رفضنا شيئاً يريده برنادوت نكون قد خالفنا مجلس الامن وتحديناه فإن قبلنا بتمديد الهدنة ازداد اليهود قوة وسلاحاً وان رفضنا تمديدها اقترح خصومنا في مجلس الامن تأديبنا بعقوبات اقتصادية او عسكرية. بيد ان الذي غاب عن ادراك اميركا الاصيل ان زمن فرض القيود والشروط كان قد ولّى لما كنا في عجز لا يسمح لنا بالقيام بذلك حتى لو اردناه. وتفاعلت ذيول كارثة اللد والرملة في اكثر من عاصمة عربية. ويروي الجنرال غلوب انه استدعي الى القصر الملكي بعدها واذ بالملك مجتمعاً بأعضاء وزارته "كان وجه جلالته متجهماً وشعرت للمرة الاولى والوحيدة طوال سنوات خدمتي المديدة له انه ايضاً قد اخذ يشكّ بي، والتفت جلالته اليّ وهو يرمقني بنظرة غاضبة وقال: "اذا كنت لا تريد ان تخدمنا بإخلاص فلا حاجة لبقائك معنا" وتبعه الوزراء فقال احدهم: لم نسمع القط بنقص في ذخيرتنا حتى طالب المستر بيفن بوقف القتال، وكان بيفن قد صرّح بذلك عشية سقوط اللد والرملة وقال آخر: ان مستودعاتنا مليئة بالذخيرة، وتبع ذلك سكوت الجميع، لم احاول الدفاع عن نفسي، ما فائدة الجدال… لقد كان رئيس الوزارة توفيق ابو الهدى على علم تام بالنقص في ذخيرتنا… ومع ذلك لم يحاول الدفاع عني وتبع ذلك فترة سكوت ثانية والتفت اليّ جلالته وقلت "هل تسمح لي بالانصراف، سيدي؟ قال لا بأس، فمشيت عبر القاعة ووقفت عند الباب واستدرت وأديّت لجلالته التحية العسكرية وخرجت". ولكنه ظل قائداً للجيش الاردني وجدير بالذكر ان قسط المعونة المالية البريطانية الى شرق الاردن بمقدار نصف مليون جنيه والذي كان موعده 12 تموز وكانت بريطانيا قد هددت بعدم دفعه، عادت ودفعته في 28 تموز تقديراً لتقيد شرق الاردن بالهدنة. ويذكر رئيس اركان الجيش العراقي صالح صائب الجبوري ان الامير عبدالله اخبره في معسكر الزرقاء في شرق الاردن في 20 تموز ان رئيس الوزارة العراقية مزاحم الباجه جي كان قدّم استقالته ثم سحبها وانه ذكر في رسالة استقالته "بأنه على مفترق الطرق لانه لا يريد الموافقة على قبول الهدنة ولا يريد ان يستمر على القتال بالجيش العراق بمفرده ويسبب خسارته". ويعود الجبوري الى بغداد ويقرر "بسبب مرضي واستيائي من مجرى الامور عدم المدوامة في مقر رئاسة اركان الجيش ولازمت داري". ويظل الجبوري ملازماً داره من 23 تموز الى 18 آب اغسطس 1948 عندما يستجيب لطلب الامير عبدالله بالعودة الى عمله. وتشعر عمان بالخطر على جيشها في فلسطين فتبدأ اول اتصال سري لها بعد بدء القتال في 15 ايار مايو بالطرف الاسرائيلي فتوعز في 19 تموز الى الدكتور شوكت الساطي بالاتصال برقياً برئيس الدائرة العربية في الخارجية الاسرائيلية الياهو ساسون المقيم حينذاك في باريس. وما ان ينتهي شهر تموز حتى يكون سفير شرق الاردن في لندن عبدالمجيد حيدر على اتصال دائم بساسون في باريس. وفي 27 تموز يعلم القنصل الاميركي في القدس رؤساؤه في واشنطن بأن الملك عبدالله اعرب له عن استعداده للوصول الى تسوية مع اسرائيل شرط اعطائه النقب والجليل الغربي ويافا بالاضافة الى المناطق التي كان يحتلها. احداث شهر آب ويشهد شهر آب تكثيفاً للاتصالات السرية بين عمان واسرائيل اذ يلتقي عبدالمجيد حيدر بساسون للمرة الاولى في باريس في 3 آب ويدوم الاجتماع بينهما اربع ساعات ويوجّه حيدر الى ساسون اربعة اسئلة. اولاً: ما هي اهداف اسرائيل الغائية Ultimate Goals ثانياً: ما هو موقف اسرائيل من مشروع برنادوت الذي اوصى فيما اوصى به في 27 حزيران كما يذكر القارئ بضم المناطق العربية في فلسطين الى شرق الاردن واقامة اتحاد اقتصادي بين شرق الاردن واسرائيل علماً بأنه اي برنادوت عدل في 7 تموز اقتراحه الاول بضم القدس بكامها الى شرق الاردن مطالباً الآن بنزع السلاح عنها DEMILITARIZATION ثالثاً: ما هو موقف اسرائيل من قضية اللاجئين الفلسطينيين من مدنهم وقراهم ورابعاً: ما هو موقف اسرائيل من ضم المناطق العربية في فلسطين الى شرق الاردن مشروع برنادوت. ويستلم وزير الخارجية الاسرائيلية موشى شرتوك من ساسون هذه الاسئلة ويصدر في 5 تموز تعليماته الى ساسون للاجابة عنها بالشكل الآتي: اولاً، تريد اسرائيل حدود مشروع التقسيم اي النقب والسهل الساحلي والجليل الغربي مع اضافات اليها. ثانياً: لا تمانع بضم ما تبقى منا الاراضي الفلسطينية الى شرق الاردن. ثالثاً: تؤيد نوعاً من الاتحاد الاقتصادي ولكن ليس على غرار ما اقترحه مشروع التقسيم 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 1947. رابعاً: لا عودة للاجئين الفلسطينيين ويجب اسكانهم في البلاد العربية بما في ذلك شرق الاردن والمناطق الفلسطينية من البلاد على ان تقدم اسرائيل بعض العون المالي لاسكانهم هناك. خامساً: تسعى اسرائيل لحصول شرق الاردن على قرض مالي من الولاياتالمتحدة. سادساً: تسعى اسرائيلي لانضمام شرق الاردن الى عضوية هيئة الاممالمتحدة. سابعاً: بالنسبة للقدس: يعطى شرق الاردن قسماً من القدس الجديدة اما البلدة القديمة فتكون مشتركة بين الطرفين على ان يبقى "الممر" من الساحل في ايد اسرائيلية. ويعلّق المؤرخ الاسرائيلي بار جوزيف على هذا الرد بقوله انه كان مزيجاً من العُصى والجزر STICKS & CAROTS كما يعلّق شرتوك نفسه عليه في تقرير يرفعه الى حكومته بأن اهداف الرد انما كانت اخراج شرق الاردن من ميدان القتال، والتحسين على قرارات التقسيم لصالح اسرائيل، وجعلت شرق الاردن اقل اعتماداً على بريطانيا واكثر اعتماداً على اسرائيل نفسها ويمهد ساسون لهذا الرد بقوله لعبدالمجيد حيدر ان اسرائيل تحرص على الوصول الى اتفاق عن طريق المفاوضات المباشرة الشفهية قبل انعقاد اجتماع الهيئة العامة للامم المتحدة في النصف الثاني من ايلول سبتمبر التالي. وبالفعل يتصل شرتوك في هذه الاثناء بأبا ايبان ممثل اسرائيل في هيئة الاممالمتحدة لجسّ النبض بشأن انضمام شرق الاردن الى الاممالمتحدة، فيتكلم ايبان مع ممثل الولاياتالمتحدة الذي يقول له ان انضمام شرق الاردن يساعد في انضمام اسرائيل نفسه الى الاممالمتحدة وان هذا الهدف الاخير انما هو ما تسعى اليه الاممالمتحدة ويتكلم ايبان مع ممثل الاتحاد السوفياتي على اساس انه يؤىد اي خطوة تضعف النفوذ البريطاني في شرق الاردن، فيعبّر السفير السوفياتي عن شكّه في ان يكون شرق الاردن متمتعاً بمقومات الدولة ولكنه لا يمانع وتتوقف الاتصالات بين شرق الاردن واسرائيل الى حين بسبب تسرّب انبائها الى الصحف والاذاعات في نهاية شهر تموز. ويشهد شهر آب ايضاً تدهور اوضاع جيش الانقاذ في الجليل الاوسط الاعلى بعد انسحابه من الناصرة، وكانت الجامعة العربية قررت في نهاية تموز تخفيض عدده الى النصف فيكتب فوزي القاوقجي في 5 آب رسالة الى عبدالرحمن عزام امين العامة يقول فيها: يرابط جيش الانقاذ على جبهة طولها 143 كلم يتصل بها 11 طريقاً رئيسية… فيها خيرة اراضي الجليل على الاطلاق واكثرها سكاناً واخصبها تربة… وان تخفيض عدد جيش الانقاذ الى النصف لا يحل مشكلة العتاد ابداً التي يتخبّط فيها هذا الجيش تدركون هذا متى علمتم موجودنا من العتاد الحالي 18 طلقة لكل بندقية انكليزية و45 فرنسية و650 طلقة للرشاش وبدون اي طلقة لمدافع الهاون على اشكالها". ويطالب القاوقجي باصلاح فوري للاوضاع ويختتم رسالته بقوله "واني بانتظار قراركم بهذا الشأن اتخلي عن القيادة وينوب عني المقدم شوكت شقير" وبالفعل يتغيب القاوقجي عن قيادة جيشه من 5 آب الى 25 آب ولا يعود اليها الاّ بعد تدخّل الملك عبدالعزيز آل سعود. احداث شهر ايلول يشهد شهر ايلول سبتمبر بعض اهم احداث هذه المرحلة واخطرها ويتوسطه تقديم الوسيط الدولي الكونت برنادوت لمقترحاته الى هيئة الاممالمتحدة في شكلها النهائي وفحواها ضمّ النقب الى الدولة العربية مقابل ضم الجليل الغربي الى الدولة اليهودية مع وضع القدس تحت نظام وصاية دولية منفصل CORPUS SEPARATUM وضم المناطق العربية في فلسطين الى شرق الاردن واعادة اللاجئين ولم يمض على تقديم الوسيط لتقريره يومان حتى اغتيل في القدس في 17 ايلول على ايدي منظمة الشتيرن الارهابية بزعامة اسحق شامير رئيس الوزارة الاسرائيلية لاحقاً. ولم "يشفع" لبرنادوت انه عدل عن جعل القدس في الدولة العربية وهو ما كان اقترحه في 27 حزيران السابق ولم يؤثر اغتياله سلباً على وضع اسرائيل الدولي بحجة ان مقترفيه انما كانوا من العصاة المنشقين. وتستحوذ خطورة الوضع العسكري على تفكير القيادة السياسية والعسكرية العراقية وتصل هذه الى قناعة بأنه لا بد من جعل الجيش العراقيوالاردني تحت قيادة عراقية واحدة ضماناً للتنسيق التام بينهما. ويسافر الامير عبدالله وبصحبته مزاحم الباجه جي ونوري السعيد الى عمان لهذا الغرض. في 3 ايلول سبتمبر توافق عمان على الاقتراح "بعد جدال طويل" كما يذكر صائب الجبوري وترشح بغداد الجبوري نفسه لقيادة الجيشين العامة وتصدر في 22 ايلول ارادة ملكية عراقية بتعيينه قائداً عاماً للجيش العراقي في فلسطين وبتخويله قيادة الجيش الاردني لكن المشروع يتعثر بسبب عدم صدور ارادة ملكية مقابلة في عمان. وفي هذه الاثناء تجتمع اللجنة السياسية للجامعة العربية في 10 ايلول في الاسكندرية بحضور الامير عبدالله ومحمود النقراشي رئيس وزراء مصر وجميل مردم بك، ورياض الصلح وعبدالرحمن عزام وصالح صائب الجبوري ويحاول الطرف العراقي جاهداً اقناع مصر بلزوم وضت خطط مشتركة على الاقل للمستقبل لمجابهة الحركات التي يحتمل قيام العدو بها ضد واحد او اكثر من الجيوش العربية واهمية تقرير مثل هذه الخطط مبكراً، ولكن الطلب العراقي يواجه موقفاً للنقراشي لا يجدي النقّاش في التأثير عليه وخلاصته بحسب رواية الجبوري اولاً: ان مصر لا تتحمل مسؤولية خرق الهدنة ولا تشرك جيشها بأي عمل من هذا القبيل، ثانياً: لا يقاتل الجيش المصري ما لم يُهاجم من قبل العدو ويُجبر على القتال، وثالثاً: لا يشترك بوضع خطة يعين فيها واجب اليه وفيما بعد يُلقى اللوم عليه لعدم قيامه بواجبه. وجاءت ثالثة الاثافي على العرب خلال هذا الشهر في اعقاب اعلان قيام حكومة عموم فلسطين في غزة في 23 ايلول. وكان الداعي لقيام هذه الحكومة الهيئة العربية العليا برئاسة الحاج امين الحسيني التي حازت على موافقة كل الدول العربية على ذلك بما في ذلك ممثل شرق الاردن في الجامعة العربية لما مثلته الحكومة من توكيد على حق الشعب الفلسطيني والامة العربية في عموم تراب فلسطين بيد انه لم يكن خافياً على احد ما كان من نشاز بين القيادة الفلسطينية الوطنية وبين عمان يعود الى اقتراح تقسيم فلسطين الاول الذي طرحته بريطانيا عام 1937 مشروع اللورد بيل / Lord Peel الذي شمل في حينه ضم المناطق العربية في فلسطين الى شرق الاردن ولا كان تأييد بعض العواصم العربية لقيام حكومة عموم فلسطين مستهلماً حصراً من اسمى المبادئ القومية من دون غيرها، بخاصة في ضوء اقتراح برنادوت لضم المناطق العربية الفلسطينية الى شرق الاردن وما اعتُبر من تقصير من قبل الجيش الاردني بشأن اللد والرملة وهكذا بدأت سلسلة مؤتمرات ومؤتمرات فلسطينية مضادة لم تصبّ في حصيلتها لا في مصلحة فلسطين ذاتها ولا في مصلحة اي طرف عربي آخر. بالمقابل تجتمع الحكومة الاسرائيلية الانتقالية طوال يومي 26 و27 ايلول لتقرر استراتيجيتها العسكرية العامة في ضوء مشروع برنادوت وظروف الهدنة القائمة واوضاع العرب سياسياً وعسكرياً وتشكل رسالة وردت من واشنطن الى بن غوريون في 8 ايلول الخلفية لمداولات الحكومة الاسرائيلية. وتقول الرسالة الاميركية كما يوردها بن غوريون في يوميات الحرب بهذا التاريخ ان الولاياتالمتحدة قررت استخدام نفوذها كله من اجل الحؤول دون انتهاك الهدنة واذا حدث شيء كهذا فانها ستؤيد عملاً فورياً في مجلس الامن بموجب المادة 7 من ميثاق الاممالمتحدة ضد المهاجم وتكون حكومة الولاياتالمتحدة ممتنة اذا ابلغتها الحكومة الاسرائيلية ما اذا كان هناك اساس ليجعل الحكومة تعتقد ان ثمة دول عربية او مجموعة من الدول العربية مستعدة لبدء مفاوضات من اجل السلام وتضيف الرسالة مجموعة من الافكار التجريبية وبمثابة Trying-on-for Sige لبابها فيما اذا كانت اسرائيل توافق على مشروع برنادوت بشكله الاخير بالنسبة الى تبادل النقب بالجليل الغربي مع قبول الولاياتالمتحدة بترتيب في القدس بديل عن الوصاية الدولية "توافق اسرائيل والبلاد العربية عليه" على ان تنظر اسرائيل "في بعض التدابير البنّاءة لتخفيف محنة اللاجئين الفلسطينيين". وعلى رغم رسالة واشنطن يطرح بن غوريون بقوة في 26 ايلول على وزارته مشروعاً خلاصته "تحطيم" الجيش العربي الاردني في اللطرون واحتلال القدس ونابلس والخليل فاذا اشعل هذا الهجوم الجبهات الثانية فليكن لان هذا يسمح نظراً لتفوق اسرائيل العسكري بكسر الحصار المصري على النقب واحتلال الجليل بأسره، بكلمة كانت خطة بن غوريون توجيه ضربة قاسمة في الجبهة الوسطى اي ضد الجيش العربي الاردني تمهيداً لهجوم عام على الجبهتين الشمالية والجنويبة ويكون مبرر اسرائيل تجاه الاممالمتحدةواشنطن. ان عناصر من الجيش الاردني كانت قد خرقت الهدنة بنسفها لمحطة ضخّ المياه الى القدس عند اللطرون ويصطدم اقتراح بن غوريون بمعارضة قوية داخل وزارته ويفشل بصوت واحد هو صوت شرتوك وزير خارجيته. ويصرّ شرتوك في تفسير تصويته على ان الخطر الاكبر الآن بعد تقرير برنادوت النهائي انما هو على النقب وليس على المثلث اي منطقة نابلس - جنين - طولكرم ويلفت النظر الى ان هناك مركزان لاستقطاب الفلسطينيين: الملك عبدالله والحاج امين الحسيني وان ثمة خياران امام اسرائيل بالنسبة للفلسطينيين: دعم دولة فلسطينية برئاسة الحاج امين وهذا غير مقبول او ضم المناطق الفلسطينية الى شرق الاردن وان لا بد من الاستفادة من هذا التناقض وتفضيل الخيار الثاني ومن ثم تحويل الضربة الكبرى باتجاه النقب للحيلولة دون دخوله ضمن نظام دفاعي شرق اوسطي تشرف بريطانيا عليه استنادا الى مشروع برنادوت عليه. وينجح شرتوك في اقناع بن غوريون بذلك فيتم الاتفاق على ان يكون مركز ثقل الهجوم الاسرائيلي المقبل باتجاه الجبهة المصرية والجليل اي قوات القاوقجي وتبقى "المشكلة" في ايجاد الذرائع المستساغة للهجوم على هاتين الجبهتين علماً بأن مصر تمانع في امداد المستعمرات خلف خط المجدل - بيت جبرين وان الجليل "منح" بأسره لاسرائيل بموجب مشروع برنادوت النهائي. احداث تشرين الاول يذكر القارئ اننا اعتبرنا نهاية مرحلة القتال الاولى 15 ايار الى 11 حزيران نقطة الانعطاف الكبرى في مسار حرب 1948 وهو انعطاف تكرّس وتجذّر في مرحلة الهدنة الاولى التالية 11 حزيران الى 8 تموز واذا كان سقوط اللد والرملة والناصرة محطة كبرى بدوره بين نقطة الانعطاف هذه وبين خاتمة الحرب المأسوية ككل فان احداث تشرين الاول اكتوبر العسكرية شكلت ايضاً محطة لا تقل عن سابقتها فداحة وخطورة. وبينما كانت القوات الاسرائيلية تجلب من كل حدب وصوب استعداداً لهجومها الكبير على الجبهة المصرية عملاً بالقرار الذي اتخذ في اجتماع الحكومة الاسرائيلية في 26 و27 ايلول واذا بحرب المؤتمرات تستعر بين مركزي استقطاب الفلسطينيين الذين حددهما شرتوك في اجتماع الحكومة الاسرائيلية السالف الذكر. وهكذا يدعو الحاج امين الحسيني الى انعقاد مجلس وطني فلسطيني في غزة في اول تشرين الاول اكتوبر برئاسته لتأكيد شرعية حكومة عموم فلسطين واظهار تأييد الشعب الفلسطيني لها ويحضر المؤتمر جمهرة كبيرة من الشخصيات الفلسطينية ويتم فيه الاعلان عن شرعية الحكومة الجديدة كما تقرر اعلان استقلال فلسطين دولة حرة ديموقراطية ذات سيادة بحدود فلسطين الانتدابية الدولية شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً ويُقر دستور موقت لها. وفي اليوم ذاته يعقد مؤتمر فلسطيني مضاد في عمان يرأسه الشيخ سليمان التاجي الفاروقي ويندد المؤتمر بتلك "الفئة من متزعمي فلسطين سابقاً الذين ضجّ الشعب الفلسطيني خلال ثلاثين عاماً الماضية من سوء تصرفاتهم وانانيتهم" ويفوّض المؤتمر الملك عبدالله "تفويضاً تاماً مطلقاً في ان يتحدث باسم عرب فلسطين ويفاوض عنهم ويعالج مشكلتهم بالشكل الذي يراه". ويبرق المؤتمر الى الهيئة العربية العليا مؤكداً "انه نزع منها ثقة عرب فلسطين فهي لا تمثلهم ولا يحق لها ان تنطق باسمهم". ويتبنى المؤتمر مقررات اهمها الدعوة الى وحدة اردنية فلسطينية ودعوة الجيوش العربية الى مواصلة القتال وتزويد الفلسطينيين بالسلاح والدعوة الى مؤتمر يعلن فيه الفلسطينيون مبايعتهم للملك عبدالله ملكاً على فلسطين. وفي 6 تشرين الاول يدوّن بن غوريون في يوميات الحرب "اليوم اتخذنا في الحكومة اخطر قرار منذ ان قررنا اعلان اقامة الدولة وبعد تداول مستفيض وافقت الحكومة على اقتراحي القاضي باختراق طريق الى النقب بالقوة بعد ان اخذ المصريون ينتهكون قرار الاممالمتحدة القاضي باعطاء قوافلنا ممراً" وأوجه الخطورة في قرار الحكومة الاسرائيلية هي طبعاً في ان اسرائيل هي نفسها التي تستأنف القتال وتنتهك الهدنة بمبادرتها وان المعركة ستقضي على مشروع برنادوت للتسوية الذي حظي بتأييد الدول الغربية وعلى رأسها الولاياتالمتحدةوبريطانيا وانه يناقض تحذيرات واشنطن كما وردت في رسالتها الى بن غوريون بتاريخ 8 ايلول كما اسلفنا. بيد ان تعويل بن غوريون كان على ذريعة منع مصر لقوافل اسرائيل وعلى قدرة جيشه على حسم المعركة بسرعة استناداً الى القوة الضخمة التي تم حشدها امام الجبهة المصرية وهي مطمئنة الى استكانة الجبهات العربية الاخرى مستفيدة من خطوط مواصلاتها الداخلية القصيرة inner lines of communications ومن خفة تحرك قواتها عليها. وهكذا تشن القوات الاسرائيلية هجوماً عاماً كاسحاً في عملية "يواف" في 14/15 تشرين الاول على طول الجبهة المصرية تتمكن فيه من اختراق خط المجدل - بيت جبرين لتتصل بقواتها جنوب هذا الخط وتفك عزل النقب "اليهودي" وتحتل القوات الاسرائيلية كلا من بيت جبرين وبئر السبع وبيت حانون وتقع هذه الاخيرة على مشارف غزة ذاتها وتضطر القوات المصرية الى الانسحاب من اسدود والمجدل لترابط على بعد كيلومترات قليلة شمال غزة حيث يقع الحد الشمالي لقطاع غزة اليوم. وينتج عن احتلال بيت جبرين وبئر السبع عزل القوات المصرية الخفيفة جنوبالقدس عن القوات المصرية الرئيسية. بيد ان ثمة قوة مصرية عدادها لواء معزّز حوالي 2500 جندي بقيادة الزعيم السوداني السيد طه الضبع الاسود تجد نفسها فجأة معزولة ومحاصرة في جيب مركزه قرية الفالوجا الى الغرب من قرية عراق المنشية انظر الخريطة في منتصف طريق المجدل - بيت جبرين. وهنا تبدأ صفحة من اروع صفحات الصمود اذ يصمد السيد طه في موقعه ويصمد على رغم موجات متلاحقة من هجمات العدو عليه المدعومة بقصف جوي كثيف متواصل ويثبت السيد طه في الفالوجا طوال الاشهر الاربعة التالية ولا يخرج منها الا بسلاحه عند التوقيع على الهدنة الدائمة بين اسرائيل ومصر في 25 شباط فبراير 1949. وفي هذه الاثناء وعند نهاية عملية يواف "تنصاع" اسرائيل لقرارات مجلس الامن وتوقف اطلاق النار في 22 تشرين الاول وتقبل مصر ايضاً بذلك. وتقع انباء اختراق الجبهة المصرية وقع الصاعقة على العواصم العربية ويجتمع القادة العرب في عمان في 23 تشرين الاول ويحضر الاجتماع اضافة الى الملك عبدالله كل من الامير عبدالاله ورئيس الوزارة المصرية محمود فهمي النقراشي وجميل مردم بك ورياض الصلح والزعيم حسني الزعيم وصالح صائب الجبوري. وهنا نترك الكلام الى الملك عبدالله الذي يصف المشهد كالآتي "في تلك الليلة… مضت فترة فوق الخمس دقائق دون ان يتكلم احد بكلمة ما. ولقد اشار سمو الوصي المعظم الامير عبدالاله بأن ابدأ الحديث فصعب علي ان اقول اي كلمة بعد ما اصاب الجيش المصري ما اصابه فقلت والكلام يوجه الى رئيس الوزارة المصرية: انتظر الكلام من دولته فقال: ما هو مذكور الآن بالكلمة تتبع الكلمة "انني لم آت لاقول ولكنني اتيت لأسمع" فقلت له: اعتقد ان الكلام لدولتكم في الموقف اليوم بعد ان ضاعت بئر السبع وحوصرت الفالوجا فقال: من يقول هذا؟ ان القوات المصرية كما هي في اماكنها فقلت له: لعل الخبر لم يبلغ مسامع دولتكم ولقد ظننت انكم ستشيرون الى لزوم مساعدات عسكرية وفق رغبة القيادة المصرية للاستعانة على انقاذ الموقف فقال: لا ان الحكومة المصرية لا تستعين بأحد ولكن اين القوات الملكية الاردنيةوالعراقية، اما قوات سورية فكلنا يعلم انها غير مجدية وكان جميل بك يسمع ذلك فقلت له: يفهم من هذا ان دولتك قد حضرت لتتهمنا وقد قلت ان الحكومة المصرية لا تستعين بأحد وهذا عزام باشا يصرخ في الاذاعة طالباً المساعدة وانت تحقّر العرب في بيت العرب وهذا بيت العرب فيه الاردنوالعراق وسورية ولبنان فقال مجيباً: استغفر الله انني لم آت لأتهم وقال صالح صائب باشا بأنه سأل مقر القيادة المصرية بالزرقاء عندما بلغه خبر الهجوم اليهودي عن صحة الانباء فلم يظفر بجواب على الرغم من تكرر الاستفهام عن ذلك شفهياً وخطياً وازاء ذلك فليس يرى بالامكان التحرك دون فهم الموقف فقلت: "هذه هي الحقائق وانا ذاهب لصلاة العشاء وانتم تحدثوا فتركتهم وقمت لتوي نتيجة التوتر الكلامي ولما عدت وجدتهم جميعاً وقد ذكروا حكومة عموم فلسطين ولزوم قبولنا واعترافنا بها فرفضنا بشدة لعلمنا بسخف هذا الرأي واعتقادنا بعدم اهلية القائمين بها وكان موقف جميل مردم بك عربياً محضاً اذ رفض معنا ذكر هذه الحكومة الموهومة ثم انفض المجلس "على ان يجتمعوا بالسفارة المصرية" ولما اجتمعوا قال لهم النقراشي باشا ان سقوط بئر السبع قد تحقق وفي الليلة التالية… اتفقوا جميعاً على مساندة الجيش المصري وتم الرأي على ان يقام بتحرّكين اثنين واحد من قبل الجيش العراقيوالاردني من الجنوب وآخر بالاشتراك مع القوات السورية من الوسط والشمال… ولكن ما طلع اليوم التالي حتى اجتمعوا ثانية في الصباح فكلفهم النقراشي باشا بالعدول عن قرار الليل نظراً لزوال الحاجة. ولم يكد اجتماع عمان ان ينفضّ على هذا الاساس الهزيل حتى تشن القوات الاسرائيلية الهجوم على قوات جيش الانقاذ بقيادة فوزي القاوقجي في الجليل الاعلى الاوسط الذي كان قد تقرر سابقاً كما اسلفنا. وتنجح عملية حيرام خلال ايام ثلاثة 29 - 31 تشرين الاول في اخراج جيش الانقاذ مما تبقى من الجليل في ايدينا وتحتل بذلك الجليل بأكمله وتعبر القوات الاسرائيلية الحدود اللبنانية وتحتل حوالي عشر قرى لبنانية في شريط حدودي يحاذي "اصبع الجليل" الشرقي ويمتد من المالكية الى نهر الليطاني. ويدوّن بن غوريون في يوميات الحرب بتاريخ 30 تشرين الاول "لم يحرك الجيش السوري ساكناً خلال يومي المعركة الجليلية لكنهم تحصنوا ويبدو انهم لا يريدون سوى الاحتفاظ بما عندهم". ويضيف: "القاوقجي هرب الى لبنان، ليس معروفاً بعد اذا ما كانت المالكية في ايدينا لكن لا خوف ستسقط في ايدينا". وتنتابه نشوة النصر فيقول "الآن بعد ان نعرف ردة الفعل في العالم يتطلب ذلك 2 - 3 ايام يجب البدء في المثلث وسنضغط على جنين وطولكرم واذا ما وصلنا نابلس ستسقط رام الله تلقائياً. ويدوّن صالح صائب الجبوري في مذكراته في 31 تشرين الاول: "الانتكاس الاخير غير المنتظر الذي اصاب الجبهتين الجنوبيةوالشمالية فتّ في عضدنا وعدا انه اضعف الامل في تحسن الوضع فانه احرج موقفنا الى حد بعيد اذ اصبح الجيشان العراقيوالاردني محاطين بالقوات الاسرائيلية من ثلاث جهات الشمال والغرب والجنوب اما الجهة الرابعة وهي الشرقية فانها ايضاً اصبحت مهددة من الشمال من ناحية طبريا ومن الجنوب من ناحية النقب الشرقي". ويكون مسك الختام في شهر تشرين الاول اعتراف مجلس الجامعة العربية بحكومة عموم فلسطين ودعوتها في 30 منه الى الانضمام اليه.