في منتصف أيار (مايو) 1948، تقدمت القوات المصرية مثل بقية القوات العربية، لإنقاذ ما تبقى من فلسطين، بعدما طرد الإسرائيليون نصف السكان وهم تحت حماية الانتداب البريطاني، واقترفوا المذابح مثل دير ياسين، واحتلوا أهم المدن الفلسطينية الساحلية. وكانت المساحة التى سيطر عليها الجيش المصري أكثر من مساحة نصف فلسطين، أي حوالى 14000 كيلومتر مربع. وصلت القوات المصرية إلى إسدود والفالوجة والخليل وبيت لحم، وكانت المنطقة الجنوبية عربية خالصة عدا بعض المستعمرات القليلة. وفي منتصف تشرين الأول (أكتوبر) 1948 وجهت إسرائيل قواتها إلى الجنوب لاحتلاله في مواجهة الجيش المصري، بعدما احتلت مساحات واسعة في وسط فلسطين وشمالها. وفي معركة حاسمة في تلة الخيش الواقعة على تقاطع طرق هام غرب موقع شرطة عراق سويدان، تمكنت القوات الإسرائيلية من اختراق دفاعات الجيش المصري في منتصف تشرين الأول 1948 وتدفقت نحو الجنوب، واحتلت مدينة بئر السبع الإستراتيجية، ثم اتجهت غرباً، ونسفت جسر بيت حانون في محاولة لقطع إمدادات الجيش المصري. فانسحب الجيش المصري بقيادة اللواء المواوي على طول السهل الساحلي من إسدود إلى غزة. وطوّقت إسرائيل جيب الفالوجة المشهور الذي صمد فيه القائد الشجاع السيد طه ومساعده جمال عبدالناصر. وبعدما احتلت إسرائيل بئر السبع، احتلت العوجا ودخلت سيناء متجهة إلى العريش، لقطع خط انسحاب الجيش المصري، إلا أنها تراجعت بضغط بريطاني، فعادت إلى محاصرة ما تبقى من الساحل الفلسطيني في غزة. أقيل اللواء المواوي وحلّ محله اللواء محمد فؤاد صادق باشا، الذي أمرته الحكومة المصرية بإكمال الانسحاب من فلسطين. لكنه رفض قائلاً: «إزاي أنسحب وأسيب ربع مليون من إخواتي كالفراخ يذبحهم اليهود وينتهكون أعراضهم؟ أتريدني أن آخذهم معي إلى العريش؟ أم أدافع عن رفح؟ كلا لن أنسحب مهما كانت النتيجة؟». حاولت إسرائيل مرة أخرى مهاجمة الساحل، وشطر قطاع غزة إلى شطرين في موقعة مشهورة تسمى «تبة 86» أو تبة الشيخ حمودة. وصمد اللواء صادق باشا بشجاعة، بل إنه أخرج متطوعي الإخوان المسلمين من معتقل رفح، حيث اعتقلتهم حكومة إبراهيم عبدالهادي، وشاركوا في المعركة، ثم أعيدوا إلى المعتقل بعد المعركة. هُزم الجيش الإسرائيلي هزيمة منكرة، وقتل قائده الروسي، وبذلك تم إنقاذ ما يسمى الآن قطاع غزة، الذي يتكدس فيه أهالي 247 مدينة وقرية في جنوبفلسطين، وهم الذين طردتهم إسرائيل، واحتلت أراضيهم بعد انسحاب الجيش المصري. بعد هذه الهزيمة الإسرائيلية، بدأت إسرائيل حملة انتقامية وشنت غارات جوية لإبادة أكبر عدد ممكن من اللاجئين الذين يحاولون العودة إلى ديارهم. جاء في تقارير مراقبي الهدنة أنه في الفترة بين 26 و 31 كانون الأول (ديسمبر) 1948 قصفت إسرائيل جواً مستشفيات ومواقع مدنية في قطاع غزة. وجاء في هذه التقارير تفصيلاً بتاريخ 2/1/1949 أن 4 طائرات إسرائيلية أغارت على مركز توزيع المؤن في خان يونس فدمرته وقتلت 30 مدنياً وجرحت 70 آخرين. كما جاء في التقرير الشهري للصليب الأحمر عن شهر كانون الثاني (يناير) 1949 من مكتب غزة إلى جنيف أن «في يوم الأحد 9 كانون الثاني قُصف مركز توزيع المؤن في دير البلح وهو بالطبع مكتظ باللاجئين وقتل 150 شخصاً (شهود عيان قالوا إن العدد 225). لقد كان مشهداً مريعاً». كان غرض هذه الأفعال الوحشية ترويع الأهالي وردعهم عن محاولة العودة إلى ديارهم وإثبات أن الجيش المصري عاجز عن حمايتهم ودفعه إلى توقيع اتفاقية الهدنة وهو ما حدث في الشهر التالي. لم تكن هناك مستعمرات صهيونية بين غزة وإسدود على السهل الساحلي، وهي آخر نقطة وصل إليها الجيش المصري، عدا مستعمرة «يد مردخاي» التي احتلها الجيش المصري قرب دير سنيد. السهل الساحلي من غزة إلى إسدود التي كانت ترابط فيها القوات المصرية على مسافة 30 كلم من غزة، توجد فيه القرى الفلسطينية الآتية: دير سنيد، دمرة، هربيا، بيت جرجا، بربرة، الخصاص، نعليا، الجية، الجورة، المجدل (عسقلان)، حمامة، وإسدود. أما منطقة شرق قطاع غزة حتى بئر السبع على مسافة 50 كلم، وهي أرض العشائر، فلم تكن سوى مستعمرتين أو ثلاث لا يزيد عدد الجنود في كل منها عن 30 جندياً. لذلك، فإن خط الهدنة الذي تم الاتفاق عليه في اتفاقية الهدنة الموقعة في 24 شباط (فبراير) 1949 بين مصر وإسرائيل، في جزيرة رودس، مكّن إسرائيل من احتلال مساحة 5000 كيلومتر مربع من الأرض العربية لم يسجل لهم فيها أكثر من 60000 دونم في فترة الانتداب، ولم يسكنها أكثر من 300 جندي في حوالى 11 مستعمرة بنيت قبل سنة ونصف سنة مقابل 200000 فلسطينى هُجّروا إلى قطاع غزة لينضموا إلى 80000 من أهالي قطاع غزة الأصليين. كان هذا مكسباً هائلاً لإسرائيل في معارك محدودة بأقل الخسائر البشرية لها وأكبر الخسائر في الأرض والبشر للفلسطينيين. الهدنة مع مصر لم تكن لدى الضباط المصريين المفاوضين في رودس معلومات كافية عن الأرض وأهلها. وكان اهتمامهم الأول إنقاذ القوات المصرية المحاصرة في الفالوجة، ولذلك تمت الموافقة على خط الهدنة الذي اقترحته إسرائيل كطرف منتصر، خصوصاً أن تعليمات الحكومة المصرية كانت الانسحاب الكامل من فلسطين، واعتبار أن «كل أرض غير مصرية هي أرض إسرائيلية» كما جاء على لسان أحد المفاوضين المصريين في مذكرات كامل الشريف قائد قوات المتطوعين من الأخوان المسلمين. في هذه الظروف تم تحديد خط الهدنة كما لو كان سوراً يحيط بقطاع غزة. جاء في المادة السادسة من اتفاقية الهدنة الفقرة الرقم (1):- إن خط الهدنة يجب أن يتم بناء على قرار مجلس الأمن الصادر في 4 تشرين الثاني (نوفمبر) 1948، والمؤكد عليه في مذكرة مجلس الأمن بتاريخ 13 تشرين الثاني 1948 (أي بإرجاع الوضع كما كان عليه في 15 تشرين الأول 1948 أو بمعنى آخر إعادة أهل القرى الفلسطينيةالجنوبية إلى ديارهم). لكن الإسرائيليين فرضوا خط الهدنة إلى الحد التقريبي الذي وصلت إليه قواتهم. وتمكنوا من تحديد الحد الشمالي لخط الهدنة بحسب الفقرة الأولى من المادة السادسة كالآتي: «إنه خط يمتد من مصب وادي الحسي، ويتجه شرقاً خلال قرية دير سنيد، ثم يعبر طريق غزة - المجدل إلى نقطة تبعد 3 كيلومترات شرق الطريق، ثم في اتجاه موازٍ لطريق غزة - المجدل إلى أن يصل إلى الحدود المصرية». وفي ما عدا الحد الشمالي الذي يمر بوادي الحسي ودير سنيد، فإن بقية الخط تقريبية، وقد تم تحديدها في شكل مفصل في الفقرة الثالثة من المادة السادسة كما يأتي: لا تتجاوز القوات الإسرائيلية النقاط الآتية، التي يسمح في كل منها بوجود سرية واحدة (30 جندياً فقط): دير سنيد على الضفة الشمالية لوادي الحسي، محجر الكبريت، تل جمة، خربة المعين. وأعطيت إحداثيات دقيقة لهذه النقاط التي تحدد أقصى حد للوجود الإسرائيلي. كما توجب الفقرة نفسها على إسرائيل الانسحاب من نقاط أخرى، موصوفة تعدت فيها هذا الخط. الخريطة الرقم (1) تبين هذا الخط الحقيقي بحسب الاحداثيات المذكورة في الاتفاقية والذي يفترض أنه يحدد قطاع غزة بموجب اتفاقية الهدنة، وتبلغ مساحته 555 كيلومتراً مربعاً. إذاً، كيف تقلص خط الهدنة إلى الوضع الحالي وكيف ضاع من غزة 200 كيلومتر مربع؟ تنص اتفاقية الهدنة بين إسرائيل والدول العربية الموقعة عليها على أن خط الهدنة لا يعطي حقاً للقوات المهاجمة ولا يحرم القوات المدافعة من أي حق لها في الأرض موقع القتال. لذلك، فإن خط الهدنة ليست له قيمة قانونية، ولا يعتبر حدوداً، والعبرة في النهاية بما يتفق عليه في معاهدة نهائية تحدد فيها الحدود. أما بالنسبة الى أهالي القرى الجنوبية فلم يعن هذا الأمر لهم شيئاً، فقد عاد الشباب منهم إلى ديارهم لإحضار شيخٍ أو مريض تركوه هناك أو لإطعام مواشيهم الباقية هناك أو لجني محاصيلهم، وكانت عملية العبور إلى تلك القرى سهلة، لأن عدد جنود المستعمرين كان قليلاً، ولم يكن في إمكانهم السيطرة على تلك الأراضي الشاسعة التي احتلوها. لذلك وضعت إسرائيل الألغام في طريق العائدين إلى ديارهم أو حول مصادر المياه أو حول الأماكن الهامة مثل المخازن وصوامع الغلال. ولم يخل الأمر من حمل بعض الشبان السلاح، وقتلهم من اعترض طريقهم من المحتلين. ووصل بعضهم إلى الخليل وأحضر بعض أفراد أسرته إلى غزة أو أخذهم من غزة إلى الخليل. ضج الإسرائيليون بالشكوى من هذه «التعديات»، وأثاروا الموضوع مرات عدة أمام لجنة الهدنة المشتركة، التي كان يمثل الجانب المصري فيها محمود رياض وصلاح جوهر. وفي الوقت نفسه قامت إسرائيل بعمل دراسة جيولوجية بينت أن منطقة وادي الحسي غنية بالمياه الجوفية. وهذا بالطبع بديهي في معظم الوديان، ولكن الدراسة أثبتت نوع او كمية المياه وبقي التقرير سرياً. انتهزت إسرائيل فرصة الشكاوى المقدمة منها إلى لجنة الهدنة، وطلبت تحديد خط الهدنة بعلامات واضحة لإيقاف «التعديات» التي تدعي أن الاهالي قاموا بها اثناء عودتهم إلى ديارهم، وسمتهم «المتسللين» إلى أرض إسرائيل. تم الاتفاق مع ضباط الهدنة المصريين برئاسة محمود رياض على تقليص مساحة قطاع غزة، وذلك بتحريك خط الهدنة بحيث تقتطع مساحة 200 كيلومتر مربع من مساحة القطاع الحالية. لم تكن حوادث الحدود هي السبب. وكان الضغط الإسرائيلي للاستيلاء على أراضي عبسان وخزاعة والادعاء أنه في الجانب الإسرائيلي كان صورياً فقط لأن آخر نقطة إسرائيلية مسموح بها في اتفاقية الهدنة تبعد حوالى كيلومترين شرقاً. ولم تكن إسرائيل في أي حال ترغب في الاستيلاء على أرض مع أهلها. لكن الهدف الحقيقي لإسرائيل كان تقليص مساحة قطاع غزة قدر الإمكان والاستيلاء على المياه الجوفية في شمال القطاع. وعلى ذلك اقترح الإسرائيليون إنشاء خط داخلي (في قطاع غزة)، لمنع الاحتكاكات مع الأهالي، في اتفاقية عرفت باتفاقية التعايش بتاريخ 22 شباط (فبراير) 1950 أي بعد سنة من اتفاقية الهدنة. حددت هذه الاتفاقية ثلاث مناطق في قطاع غزة، ووقعت عليها إحداثيات خط التعايش هذا بدقة. (أنظر الخريطة الرقم 1). هذا الخط هو الخط الحالي لقطاع غزة، وهو المشار إليه في كثير من الوثائق. وجاء في المادة الثالثة من اتفاقية «التعايش»: «إن اتفاقية التعايش هذه ذات طابع محلي بحت، ولا تؤثر في أي شكل من الأشكال في اتفاقية الهدنة الرئيسة الموقعة في 24 شباط 1949. وبوجه خاص، فإن اتفاقية التعايش هذه لا تعتبر في أي بند منها تعديلاً في مواقع أي طرف كما هي مذكورة في اتفاقية الهدنة». إن اقتطاع 200 كيلومتر مربع من قطاع صغير أصلاً، كان بمثابة قنبلة تنفجر في قطاع غزة، لو علم الناس بهذا الأمر. بسبب هذا الموقف المتفجر تم توقيع اتفاقية التعايش سراً، ليس في غزة، وإنما في العوجا، وهي منطقة منزوعة السلاح أصلاً ومساحتها 260 كيلومتراً مربعاً. وقد تم احتلالها بالكامل في ما بعد بقوات إسرائيلية كان يقودها ارييل شارون. وقع اتفاقية «التعايش» هذه الكولونيل محمود رياض واللفتنانت كولونيل كالمان كيت. (أنظر التوقيعات على الخريطة الرقم 2 التي تبين وادي الحسي في الشمال والخط المنقط في الوسط يمثل الخط الحالي، وما بينهما Zone A، تمثل الأرض المقتطعة في الشمال). وعلى رغم أن الاتفاقية سجلت لدى مجلس الأمن في 17 آذار (مارس) 1950، إلا أنه لم يعلن عنها في غزة ولا في الصحف العربية. ذهبت لجنة الهدنة، التي تشمل ضباط الأممالمتحدة وضباطاً إسرائيليين ومصريين لوضع علامات الخط الجديد. خرج السكان عن بكرة أبيهم يحملون العصي يصيحون ويصرخون لإبعاد ضباط الهدنة عن أراضيهم. وقد أخبرني الحاج محمد أبو دقه مختار عبسان في تشرين الاول 1995 أنه طلع مع رجال البلاد ونسائها واعترض طريق هؤلاء الضباط، ورفض أن يتزحزح من أرضه. كما أخبرني شحاده إقديح في 4/9/2008 وله من العمر 85 عاماً بوصف مماثل. قال: «كنت مرافقاً للكوكبة التي حددت خط الهدنة، وكان مختار خزاعة إبراهيم محمد النجار الملقب أبو الأعور يحتج بشدة على تقسيم أرض قريته، فأشار إليه الملازم حسن صبري بالسكوت، وكان الضباط الإسرائيليون هم الذين يسيطرون على الموقف، ويحددون الاتجاهات، وفي ثاني يوم جاءوا ليأخذوا خزاعة فوقفنا لهم لمنعهم، وتصدينا لهم من كل اتجاه برجالنا ونسائنا وإصرارنا على البقاء. ولولا معارضتنا الشديدة لما أمكن إنقاذ عبسان وخزاعة. وفي سنة 1959، جددوا التخطيط من الجنوب وجاء الخط شرق خزاعة. وبعدما أصبحوا في شمال القرية اتجهوا نحو الشمال الغربي على السناطي وفيها المثلث الباقي من المعين واستمروا شمالاً إلى أن اخذوا سروال إلى الجانب الإسرائيلي». وفي صورتين فريدتين عثرنا عليهما في الأرشيف الإسرائيلي، يبدو المختار إبراهيم النجار يجادل الضابط الإسرائيلي ليبتعدوا عن أرضه (انظر الصورة الرقم 1) وفي صورة أخرى (الرقم 2) يبدو محمود رياض مع لجنة الحدود في هذا الموقف. وأمكن دفع الخط بعيداً من أراضي عبسان وخزاعة، بسبب هياج الأهالي. أما بقية الاراضي فلم يكن هناك من يدافع عنها وقد هُجّر أهلها من تلك المنطقة. شهود وأفادت المقابلات التي أجراها الدكتور عدنان أبو عامر من الجامعة الاسلامية في غزة مع خمسة أشخاص عاصروا هذه الفترة، بأن القوات المصرية لم تحافظ على بقاء خط الهدنة كما هو في اتفاقية الهدنة، وألمح بعضهم إلى تورط بعض الضباط المصريين في انحراف خط الهدنة عن مساره الحقيقي، وعلى رغم تواتر الشهادات ليس هناك دليل مكتوب على ذلك. وقد أجمع الشهود على حجم الفظائع الإسرائيلية التي تعرض لها العائدون إلى ديارهم من قتل أو اعتقال ومن المزارعين والتجار الذين قتلوا: محمد أبو دقة، عبدالعزيز المغربي، عطا أبو لبدة، أحمد أبو عنزة. ومن الذين قتلوا قرب خط الهدنة: أبو بركة قاروط، جبر خليل القرا، عوض العبد البريم، سلمان سالم البريم. ومن الذين جرحوا ثم ضربوا حتى الموت: أحمد القرا، رضوان أبو نصيرة، محمد معتوق الفجم. ومن الفدائيين الذين استشهدوا: حسن ماضي أبو سته، حميدان الصوفي، محسن أبو عويلي، عبدالجواد الرقب، ثابت قديح ودياب العاوور. وقال الشاهد عبدالرحمن إبراهيم إسماعيل أبو عامر من مواليد 1926: «إن نقاط القوات الدولية تبعد ثلاثة كيلومترات عن بعضها بعضاً، وأن هناك تغيرات طرأت على هذا الخط. وكانت مكانه أولاً براميل متفرقة، ثم حفر خندق على الخط، وأخيراً أصبح سلكاً شائكاً مكهرباً، وهو الخط الحالي الذي يبعد ثلاثة كيلومترات داخل القطاع عن خط الهدنة الحقيقي. هناك سلسلة من الفظائع ارتكبها الجنود الإسرائيليون، خصوصاً إعدامهم الجرحى أو وضعهم الألغام على الحدود في براميل المياه. وهناك بعض الروايات التى شاعت بين الأهالي عن تلقي بعض الضباط الكبار رشى لغض الطرف عن انحراف الخط». وقال الشاهد سليمان أحمد إبراهيم القرا (مواليد 1935): «أؤكد أن هناك تغيرات طرأت على هذا الخط باتجاه الداخل، وكان خط الهدنة إلى الشرق قريباً من قريتنا (خزاعة)، وكانوا يضعون علامات وإشارات بالقرب من خربة أبو ستة، ثم أجرت القوات الدولية بالاتفاق مع جميع الأطراف بعد 6 شهور تعديلاً ميدانياً على خط الهدنة، وقامت القوات الدولية بوضع نقطة عسكرية في بئر القرا. وبين الحين والآخر كان الجنود الإسرائيليون يأتون إلى المكان ويطلبون من القوات الدولية مغادرته، وحين كان هؤلاء يرفضون كان الإسرائيليون يقومون بوضع ألغام متفجرة في سياراتهم. وتكرر ذلك أكثر من مرة خصوصاً مع الوحدة الكولومبية، وحين رفضوا اقتلع الإسرائيليون خيام مواقعهم ورحّلوهم بالقوة». كتب المؤرخ الإسرائيلي بني موريس في كتابه «حرب الحدود» (ص 187) ما يأتي بناء على ملفات إسرائيلية فتحت أخيراً، ومن بينها اجتماع لجنة الهدنة في 6 و10 كانون الثاني 1950: «في صيف 1949 بدأ الضباط الإسرائيليون والمصريون محادثات سرية للمفاوضة على إمكانية تعديل الحدود، بحيث تترك عبسان في الجانب المصري، وتأخذ إسرائيل الجانب الشمالي من القطاع. وكانت حوادث تشرين الأول (1949) دافعاً للإسراع في هذه الاتفاقية، واتفق الجانبان على آلية لحل المشاكل المحلية، وتحدد خط جديد ببراميل معدنية فارغة، لتستبدل في ما بعد بخندق متصل. كما اتفق الضباط على دوريات مشتركة مع وجود نقطتين ثابتتين للمراقبة». وكتب موريس أن إسرائيل قتلت 30 -40 عائداً شهرياً، معظمهم في النصف الأول من الخمسينات وأنها قتلت حوالى 5000 عائد في العقد الأول من إقامة إسرائيل. وجاء في التقرير العام للجنة التوفيق الخاصة بفلسطين في الأممالمتحدة (UNCCP) للفترة من 11/12/1949 إلى 23/10/1950، فقرة 31 -32، ما معناه أن الوفد المصري قد طلب ضرورة السماح للاجئين في قطاع غزة بالعودة إلى ديارهم وفلاحة أراضيهم الواقعة إلى شمال وشرق القطاع. لكن الوفد الإسرائيلي رد بأن هذا الموضوع قد تمت تسويته إلى حد كبير في اتفاقية «التعايش»، وأن بقية الأمور ستُسوّى في معاهدة سلام نهائية. وهكذا توقفت المطالبة بعودة اللاجئين، حتى الى المناطق التى اقتطعتها إسرائيل خلافاً لاتفاقية الهدنة. عاد الموضوع إلى العلن عندما كتب الصحافي المطلع عكيفة إلدار في «هآريتس» في 27-9-2005 مقالاً بعنوان: «كيف ضحكنا على المصريين» يقول فيه: «تطوع الكولونيل عاموس هوريف، الذي كان عضواً في لجنة الهدنة لبيان كرم إسرائيل. لقد بين المسح الجيولوجي أن الكثبان الرملية شمال قطاع غزة ترقد فوق خزانات من المياه الجوفية الطازجة، وهي ضرورية لتطوير المستوطنات الجديدة، التي أقامتها إسرائيل في النقب الشمالي. ولم يكن المصريون على علم بذلك. وكان الإسرائيليون ينتظرون الفرصة المناسبة (لتغيير الخط)». وكتب يورحام كوهين، الذي كان ملحقاً للجبهة الجنوبية في ذلك الوقت، وكان ضابط الاتصال مع المصريين في تلك المحادثات، في تموز (يوليو) 1984 في مجلة «الجيش الإسرائيلي» أن «عند تخطيط الحدود، كانت قرية عبسان الصغيرة في الجانب الإسرائيلي من دون شك، وهذا يعني أن على أهل هذه القرية التخلي عن بيوتهم ومزارعهم وبساتينهم وتحويلهم إلى لاجئين لا يملكون شروى نقير. وعندما رأوا قافلة سيارات الجيب التي تحمل ضباط الهدنة اجتمع حولهم النساء والأطفال وأثاروا ضجة كبيرة. ووضعت بعض الأمهات أطفالهن في سيارات الجيب بين البكاء والعويل. وقد أنقذ الجنود المصريون ضباط الهدنة، وغادرت القافلة القرية». ويقول كوهين إن محمود رياض كان محرجاً (انظر صورة يورحام كوهين مع محمود رياض) وكان الإسرائيليون ينتظرون هذه الفرصة بفارغ الصبر (لاقتطاع أرض قطاع غزة) ولأن الحكومة المصرية خشيت أن تستغل المعارضة في مصر هذه القصة لإسقاطها، قررت الموافقة (سراً) على اتفاقية محلية باسم «التعايش». وقد تردد رئيس لجنة الهدنة التابعة للأمم المتحدة في الموافقة عليها، لأنه لم يجد في اتفاقية رودس أي بند يسمح بتبادل الأراضي. ومع ذلك وقّع الطرفان على اتفاقية وأرفقوا بها الخريطة». وجاء في وثيقة وزارة الخارجية الأميركية الرقم 46 بتاريخ 1 نيسان (إبريل) 1965 بعنوان «حدود إسرائيل وجمهورية مصر العربية»، أنه بعد حملة السويس عام 1956 (العدوان الثلاثي) حُفر خندق ليحدد الخط المعدل بحسب الإحداثيات المبينة في اتفاقيات التعايش. وجاء في هذه المذكرة أيضاً «أن المنطقة الآن، تقع تحت مراقبة قوات الطوارئ في الأممالمتحدة. وأن الفقرة الثانية من المادة الخامسة في اتفاقية الهدنة الأصلية في رودس تنص على ما يأتي:- إن خط الهدنة يجب ألا يعتبر في أي شكل من الأشكال حداً سياسياً أو جغرافياً، وأن هذا التحديد يتم من دون الإخلال بحقوق أي طرف لهذه الاتفاقية ولا لمطالباته ولا لوضعه في ما يتعلق بتسوية نهائية لقضية فلسطين». وبعد العدوان الثلاثي اعتبرت إسرائيل أن الخط الموقت هو الخط النهائي، وأنشأت فيه مستعمرات عدة، منها: في الشمال موشاف ناتيف ها أسارة وكيبوتس ايرتز وقاعدة عسكرية في وادي الحسي، وكيبوتس زكيم الذي تفنن في وضع الالغام للعائدين، وفي الشرق مستعمرة كيسوفيم المشهورة بالاعتداءات على غزة، ونيريم وعين هاشلوشة وأيضاً كرم أبو سالم الذي يستعمل معبراً من مصر إلى غزة من طريق إسرائيل. وتلخيصاً للوضع، فإن إسرائيل اقتطعت مساحة 193 كيلومتر مربع من قطاع غزة بزحزحة خط الهدنة خلافاً لاتفاقية الهدنة الرئيسة، واقتطعت مساحة 34.5 كيلومتر مربع تزيد أحياناً إلى 60 كيلومتراً مربعاً كمناطق محظور على أهالي المنطقة الاقتراب منها. وتعدت على خط الهدنة الحالي نفسه بالتوغل في القطاع بمساحة 408 دونمات. وطلعت علينا في السنوات الاخيرة تقارير عن مفاوضات محمود عباس وأحمد قريع مع ايهود أولمرت وتسيبي ليفني اقترحت فيها إسرائيل تبادل الأراضي. وذُكر فيها أن إسرائيل ستتمسك بضم الأراضي التي استولت عليها في الضفة الغربية، مقابل توسيع قطاع غزة قليلاً، وتوسيع الضفة الغربية في مناطق قاحلة غير مأهولة في منطقة الخليل. وهذه الصفاقة الإسرائيلية تتمثل في سرقة أرض لا تملكها، ثم تقايض على رد جزء منها مقابل اعتراف المالك الأصلي بأحقية السارق في سرقته. وإذا كان هذا هو شأن إسرائيل المعتاد، فما هو دور المفاوضين الفلسطينيين في ذلك، وما هي حدود معلوماتهم عن الأوضاع الحقيقية للأرض الفلسطينية، وما هو التفويض الذي أعطاه لهم الشعب الفلسطيني في قبول التنازل عن الأراضي الفلسطينية، في غياب مجلس وطني منتخب يمثل الشعب الفلسطيني من مواطنين ولاجئين يناضلون من أجل الدفاع عن وطنهم منذ سته عقود؟ * مؤسس ورئيس «هيئة أرض فلسطين» - لندن