بعض الماضي لا يموت أبداً. تلك حكمة تنطبق على بعض أحداث التاريخ من دون غيرها. ومن بين تلك الأحداث تبدو حرب 1948 وكأنها ليست ماضياً. فهي معنا دائماً طالما أن الصراع العربي - الاسرائيلي يتطور من حال إلى حال. فحرب 1948 هي الوحيدة، في سلسلة حروب الصراع العربي - الاسرائيلي، التي اشترك فيها الطرف العربي بقرار جماعي من جامعة الدول العربية. ولم تعد الجامعة إلى مثلها بعد ذلك أبداً. كما أنها، أي حرب 1948، كانت "أم الحروب"، والبؤرة التي توالدت منها كل المعارك والصراعات المسلحة العربية - الاسرائيلية، وما نجم عنها من مآسٍ وكوارث ومشاكل. في مقدمة هذه السلسلة من المقالات عن الذكرى الخمسين لحرب 1948 نشير إلى نقطتين، إحداهما عربية الأخرى اسرائيلية. أما النقطة العربية، فجوهرها أن الدول العربية، حاولت، فور صدور قرار التقسيم في 29/11/1947، أن تدرأ الأذى عن فلسطين بإرسال قوات من المتطوعين العرب يقاتلون مع الفلسطينيين. لكن جيش الانقاذ، الذي أسسته جامعة الدول العربية، وجيش الجهاد المقدس الفلسطيني، وسواهما من قوات المقاومة الشعبية، لم تكن قادرة على مجابهة القوات الصهيونية. ولو أن أمر الكفاح المسلح تُرك بكامله لقوات المقاومة، لضاعت فلسطين آنذاك. لذلك، اتجهت الدول العربية إلى إقرار فكرة التدخل العسكري، ما أن تنسحب القوات البريطانية من فلسطين. وإلى أن يتم ذلك، تزجُّ الجامعة العربية بجيش الانقاذ في ساحة القتال، وتمد منظمات المقاومة الفلسطينية بالسلاح والمال. وفي حين كانت النية الأساسية الاجتماعية والسياسية لليهود متطورة، وكانت الصهيونية توجّه إلى فلسطين الرجال والمال والدعم الاستعماري، وتبني القوات العسكرية المدربة والمسلحة، لم ينجح عرب فلسطين في بناء كيان مماثل، ولم يقدم العرب الآخرون الى عرب فلسطين ما يساعدهم على إقامة ذلك الكيان. ولم تكن العلاقات بين الدول العربية، فيما قبل الحرب، تكوّن بيئة مناسبة للتخطيط للحرب، ثم لخوضها. كانت عوامل عدم الثقة، والتباين بين النيات والأفعال، وأطماع الحكام، والنفوذ الاستعماري، أهم العوامل التي أثرّت في ايجاد مناخ لا يوفر الأسباب لعمل عسكري مشترك ناجح. أما النقطة الاسرائيلية، فمفادها أن المعلومات والوثائق التي نشرت أخيراً، تشير الى حقيقتين: أولاهما أن قرار حرب 1948، وهو قرار اسرائيلي، ينبع، اساساً من صميم العقيدة الصهيونية، التي تؤكد تحررها المطلق من الرضا أو القبول العربي بقيام الدولة اليهودية. والحقيقة الثانية، هي أن الزعيم الصهيوني المقاتل، ديفيد بن غوريون، إذ إستند إلى الحقيقة الأولى، وصل الى اقتناع راسخ في العام 1936 - أي قبل الحرب باثني عشر عاماً - مفاده أنه لا مناص من حل مشكلة تأسيس الدولة الا بالعمل العسكري، وليس السياسي. نبدأ بالحديث عن الحرب، بتقسيم وقائعها الى اربع مراحل مرحلة القتال الأولى 15/5 - 10/6/ 1948، الهدنة الأولى 11/6 - 8/7، مرحلة القتال الثانية 9 - 17/7 مرحلة الهدنة الثانية 18/7/1948 حتى اتفاقات الهدنة الأربعة. وكانت القوات الصهيونية انجزت، قبل دخول الجيوش العربية، احتلال عكا ويافا وعدة قرى عربية من الاراضي المخصصة للدولة العربية وطرد 400 الف فلسطيني، وبخاصة من مدن طبرية وحيفا وصفد وبيسان. مرحلة القتال الأولى: أ - الجبهة الشمالية: تناوب الجيشان اللبناني والاسرائيلي على احتلال قرية المالكية، ثم تعاون الجيشان اللبناني والسوري على استعادتها، واصبح الطريق نحو سهل الحولة والجنوب مفتوحاً أمامهما. ب - الجبهة الشرقية: سيطر الجيش السوري على بلدة سمخ على ضفاف بحيرة طبرية. ووصل الى مستعمرة دكانيا وأخلى الجيش الاسرائيلي مستعمرات وادي الاردن من المدنيين. وعبر رتل سوري نهر الاردن، واحتل مشمارهايردن، وأقام رأس جسر عبر النهر. وفي القطاع العراقي، هاجم الجيش العراقي مستعمرة غيشر، ثم مستعمرة ناتانيا، وتوقف امامهما، ثم انسحب الى نابلس، احتل الجيش الاسرائيلي مدينة جنين، لكن الجيش العراقي حررها. سيطر الجيش الاردني على مستعمرتي قلندية والبني يعقوب، وحاصر الحي اليهودي في القدس. ورد الهجوم الاسرائيلي عن حي الشيخ جراح. وعلى رغم ان الجيش الاسرائيلي استولى على باب الواد، تمكن الجيش الاردني من احباط الهجمات اليهودية الهادفة الى فك الحصار العربي عن الاحياء اليهودية في القدس وعن جبل المكبر. ج - الجبهة الجنوبية: دخل الجيش المصري، ومعه القوة السعودية، فلسطين في رتلين، سلك اولهما طريق الساحل، والثاني الطريق الداخلي، وسيطر الرتل الأول على مستعمرتي دنجور قرب رفح وكفر داروم، ودخل غزة، وفي الوقت نفسه كان الطيران المصري يقصف تل ابيب. وبعد ان دخلت القوات المصرية مستعمرة يدمر دخاي، وبلدتي المجدل وعراق سويدان، سيطرت على الطريق المؤدي الى المستعمراتالجنوبية. اما الرتل الثاني فدخل بئر سبع، والتقى بالقوات الاردنية في بيت لحم. وعندما اصبحت القوات المصرية على بعد 32 كم جنوبي تل ابيب، امرت القيادة المصرية قواتها باحتلال خط عرضاني يمتد من المجدل فالفلوجة الى الخليل، بهدف فصل مستعمرات النقب عن شمال فلسطين. وبذلك لم يعد هدف الجيش المصري بلوغ تل ابيب. الهدنة الاولى: توقف القتال مدة اربعة اسابيع 11/6 - 8/7/1948 تنفيذاً لقرار مجلس الامن. واستقرت القوات العربية، بعد قتال استمر 26 يوما، مسيطرة على القسم الأكبر من فلسطين فكان جيش الانقاذ يتمركز جنوب مدينة الناصرة. وسيطر الجيش السوري على الجليل حتى جنوب بحيرة طبرية، ما عدا بعض المستعمرات في الجليل الشرقي. وسيطر الجيش العراقي على قلب فلسطين، غير بعيد عن تل ابيب. وامتدت خطوطه الى الغرب حتى طولكرم وقلقيلية، على بعد 13 كلم من البحر المتوسط. وسيطر الجيش الاردني على غور الاردنالجنوبي، ومنطقة القدس ومدينة القدس القديمة، ومنطقة رام الله واللد والرملة، حتى التقى بالجيش العراقي في الشمال، وبالجيش المصري في الجنوب والغرب وغدت منطقة النقب الجنوبي، وخليج العقبة بكامله، تحت سيطرة الجيش المصري. في مقابل ذلك، اتخذ الجيش الاسرائيلي موقف الدفاع عن المستعمرات، ولم تكن مقاومته هذه قادرة على أن تعمل دائماً في اطار نظام دفاعي موحد متكامل. وهو ما ساعد القوات العربية على تحرير قسم كبير من فلسطين. وكانت اسرائيل تعتمد على العامل السياسي الخارجي لإنقاذ وضعها، وبخاصة على بريطانياوالولاياتالمتحدة. وفي الواقع، توقفت بعض الجيوش العربية عن التقدم في تحرير فلسطين، بتأثير عوامل مختلفة، منها ما هو سياسي، ومنها ما هو عسكري، وبخاصة ان مجلس الأمن وبريطانياوالولاياتالمتحدة مارست ضغوطاً وتهديدات شتى لوقف تقدم الجيوش العربية، ثم لايقاف القتال. وفي حين تقيدت الدول العربية بأحكام قرار مجلس الامن، استغلت اسرائيل فترة الهدنة، وانتهكت كل بنود القرار، وساعدها في ذلك بعض الدول. واستطاعت ان تعيد تنظيم قواتها، وتطورها كما وتدريبا وتسليحا. وتحسن وضعها العسكري استعداداً للمرحلة الثانية من القتال. استطاعت اسرائيل ان تستقدم طيارين من مختلف انحاء العالم، وان تشتري 40 طائرة مقاتلة قاذفة من تشيكوسلوفاكيا، و3 طائرات قاذفة من الولاياتالمتحدة، وتزودت باسلحة وذخائر كثيرة. وفي مقابل ذلك، سعت الجيوش العربية الى تقوية نفسها، فاستقدمت قوات جديدة، وحاولت شراء اسلحة لكنها لم توفق، بتأثير بريطانياوالولاياتالمتحدة اللتين اصرتا على تطبيق قرار حظر تزويد الطرفين المتنازعين بالاسلحة، حتى أن الاسلحة التي كان مقرراً ارسالها الى بعض الدول العربية من بريطانيا، وفق نصوص المعاهدات الثنائية المعقودة معها، اوقف ارسالها. اصبحت اسرائيل في نهاية مدة الهدنة الأولى قادرة على الانتقال من الدفاع الى الهجوم. وحتى توفّر الشروط اللازمة للعمليات الهجومية، قامت قواتها، في اثناء الهدنة، باحتلال خط دفاعي مقابل خط تمركز القوات المصرية، واحتلت بلدة المسلوج وقرية الجسير شمالي الفالوجة وقرى وبلدات اخرى. مرحلة القتال الثانية: حاول الجيش الاسرائيلي تدمير رأس الجسر الذي اقامه الجيش السوري على نهر الاردن، عند مشمارهايردن، ففشل ثلاث مرات. وعززت القوات العراقية سيطرتها على منطقة جنين، فطهرت التلال والقرى المحيطة بها. غير انها انسحبت من مجدل صادق وكفر قاسم. وفي القطاع الاردني، كانت القوات الاردنية تسيطر على اللد والرملة ومطار اللد على بعد نحو 20 كلم من تل ابيب. هجم الجيش الاسرائيلي على اللدّ فاحلتها ومطارها، ثم احتل الرملة، لكنه هزم امام اللطرون. وفشل في احتلال القدس القديمة. وفي الجبهة الجنوبية، حشد الجيش الاسرائيلي قواته لفتح الطريق الى النقب، ومحاصرة القوات المصرية، واخراجها من اسدود. وكانت المعارك سجالا. ما بين كرّ وفرّ. وحينما حاول الجيش الاسرائيلي الاستيلاء على الفالوجة، إرتد خاسراً. الهدنة الثانية: ما أن بدأت الهدنة الثانية في 18/7/1948 بقرار من مجلس الأمن، حتى راحت اسرائيل تستغلها لتوسيع المناطق التي احتلتها، متجاوزة حدود قرار التقسيم، فسعت الى احتلال النقب، واخراج القوات المصرية منه، وفتح منفذ الى خليج العقبة، واحتلال الجليل الأعلى. عند بدء الهدنة، كانت القوات المصرية لا تزال تكوّن حاجزا بين المستعمراتالجنوبية في النقب والمستعمرات في شمال فلسطين. فركز الجيش الاسرائيلي ضرباته على القوات المصرية، وطرق امدادها ومحاور تحركها. فانطلق رتل نحو عراق المنشية وسيطر على التلال المحيطة بها. وهاجم رتل ثان جنوب غربي القدس، لتدمير الجناح الأيمن المصري، وعزل المجدل عن منطقة الفالوجة. وبينما كانت القوات المصرية تعزز مواقعها عند عراق سويدان حتى عراق المنشية جيب الفالوجة احتل رتل اسرائيلي ثالث موقع الحليقات، فاصبح الطريق نحو الجنوب مفتوحا، ما دعا القوات المصرية الى الانسحاب من المجدل، ثم من عراق سويدان. فاصبحت القوات المصرية في جيب الفالوجة معزولة، وواصل الجيش الاسرائيلي ضغطه، فضرب طيرانه القوات المصرية في رفح وغزة وخان يونس. وهاجم العوجة، فانسحبت القوات المصرية منها ومن محور بئر السبع - العوجة. وبذلك غدا الطريق الى خليج العقبة وميناء أم الرشرش إيلات مفتوحا. وتابع الجيش الاسرائيلي عملياته في النقب حتى انسحاب القوات المصرية المحاصرة في جيب الفالوجة وتوقيع اتفاقية الهدنة مع مصر، وحتى احتلاله أم الرشرش، ثم موقع عين جدي على شاطئ البحر الميت. وكان هذا الموقع آخر ما احتلته اسرائيل في فلسطين في حرب 1948 13/3/1949 أما في الشمال فقد اكمل الجيش الاسرائيلي احتلال الجليل الأعلى. اتفاقات الهدنة: كانت الهدنة الثانية من دون أجل مسمى، وما أن أصدر مجلس الأمن قراره بفرضها، حتى بدأ الوسيط الدولي اتصالاته لعقد اتفاقات لهدنة دائمة، وفي 13/1/1949، بدأت المفاوضات في جزيرة رودس. وانتهت الى توقيع اتفاقات هدنة دائمة بين اسرائيل وكل من مصر 24/2، ولبنان 23/3 والاردن 3/4 وسورية 20/7/1949. انتهت الحرب وزادت مساحة اسرائيل بمقدار الثلث، اذ استولى الجيش الاسرائيلي، علاوة على ما كان مخصصا للدولة اليهودية في قرار التقسيم، على الجليل الغربي والقدس الغربية ويافا وعكا واللد والرملة، اضافة الى مئات القرى العربية، وهكذا اصبحت مساحة الأراضي التي احتلتها اسرائيل 900،20 كلم من مجموع مساحة فلسطين البالغة 323،26 كلم، أي أن الدولة اليهودية اتسعت من 500،14 كلم الى 900،20 كلم، في حين تقلصت "الدولة العربية" من 800،11 كلم الى 400،5 كلم فقط. أي اصبح اليهود، الذين تبلغ نسبتهم 30 في المئة من سكان فلسطين، يملكون 80 في المئة من مساحتها، وحُشر العرب وهم 70 في المئة من السكان، في مساحة هي 20 في المئة من ارض فلسطين.