يثير تمادي الولاياتالمتحدة في تجاهل الفلسطينيين وحقوقهم، ومن ورائهم العرب، مشكلةً يندر التطرّق اليها كما هي فعلاً. كذلك تندر محاولات وصفها على نحو مجرد وفي معزل عن مشاعر الألم والاعتداد بالنفس ومفاعيل النرجسية على أنواعها. فإذا كان التذرّع بأصوات اليهود ودور اللوبي اليهودي المنشق بالمناسبة غير كافٍ لتفسير التجاهل، فإن مسألة "المصالح" لا تنمّ عن جدارة تحليلية أرفع. ذلك ان "المصالح"، وبالطريقة التي تُطرح بها، لم تعد، لأسباب عدة، المصدر الحاسم في الحساب السياسي لزمننا. وربما كان أهم ما يدفع الى قول ذلك ان ما هو مصلحةٌ أميركية مع العرب هو بالقدر نفسه مصلحة عربية مع أميركا. فالعالم الذي تتداخل مصالحه لا يستطيع أيٌ من اجزائه ان "يقطع" مع جزء آخر، فكيف وأن هذا الأخير هو الاقتصاد العالمي الأقوى بلا منازع؟ فالاعتبارات الاقتصادية اذ تتدخّل، كما تدخلت مع غزو الكويت، فإنما بوصف الجميع معنيين بها، والأولوية في ذلك للكويتيين، فالعرب، قبل الأميركيين. والحال ان "المصالح" بات يمكنها ان تكون بالغة الحياد حيال ما يحصل في السياسة والتحالفات الراهنة، بالضبط لأن الجميع في حاجة لتأمينها وتلبيتها. وحتى الحجة القديمة عن ان أميركا تدعم اسرائيل محافظةً منها على مصالحها، قابلةٌ للدحض بمنطق بسيط مؤداه التالي: ألم تكن أميركا لتحافظ على مصالحها بصورة أفضل لو انها ماشت العرب وسايرتهم، وهم أهل تلك المصالح؟ وكم يتعزز هذا المنطق إذ نضيف ان هذا الطلب لم يعد مُكلفاً لواشنطن بعدما غدا العرب في أغلبهم "معتدلين" في ما خص النزاع العربي - الاسرائيلي، او غيره من المواضيع الخلافية. فلماذا لا تحافظ أميركا، إذن، على مصالحها باتباع هذا السلوك؟ وفي المقابل، إذا كان الدعم الأعمى لاسرائيل ناتجاً عن التعويل عليها كأداة عسكرية، فهذا، بدوره، لا يبدو مقنعاً جداً. فلا تلبية المصالح باتت تتطلّب القوة، ولا أصحاب المصالح من العرب هم أولئك الراديكاليون، بل الانتحاريون، الذين يستدعون استخدام القوة ضدهم. وأخيراً، لم تعد ممارسة الاستخدام المذكور بالسلاسة والعادية اللتين كانت عليهما في العقود الماضية. لماذا، إذن، تصر الولاياتالمتحدة على اتباع سلوك سياسي يتراوح بين دعم اسرائيل والسكوت عنها، ويقوم، في الحالين، على التصادم مع الحقوق الفلسطينية والعربية، او على الأقل تجاهلها؟ فإذا قيل ان واشنطن، مُصرّة لأسباب مفهومة، على احتفاظ الدولة العبرية بالتفوق العسكري، فهذا ما لا يتأثّر بتاتاً بتخفيف الدعم السياسي لها، لا سيما وأن تل أبيب أضحت في حكم المستغني عن الدعم الاقتصادي الأميركي، كما انها قادرة بذاتها على ضمان ديمومة تفوقها العسكري. ومن جهة أخرى اذا كان من المؤكد ان ثمة خلافات جدية بين التصورين الأميركي والاسرائيلي، الا ان درجة سكوت ادارة كلينتون عن التمادي المستفحل لادارة نتانياهو تشير الى أحد الآفاق الاحتمالية للتعامل مع عرب المشرق. وبلغة أخرى اذا كنا قد أُتخِمنا بهجاء الموقف الاميركي، فما ينبغي الالتفات اليه هو بالتحديد: لماذا يسع أميركا أن تتصرف معنا كما تفعل؟ ما من شك في ان احدى الوجهات المطروحة على نطاق كوني، والمتمثّلة في انفصال بطيء وتدريجي بين السياسة والاقتصاد، هي ما تساهم في تقديم بعض الأجابة. فعلى الضد من خرافة "المصالح الامبريالية التي يستدعي الدفاع عنها دعمَ اسرائيل"!، تقدم العلاقات الدولية عدداً من الأمثلة على الانفصال المذكور. ففي العلاقات الأميركية - الصينية، مثلاً، يبدو جلياً كيف تقف المصالح الشركات، الرساميل في موقف يناهض السياسة الدولة، اللعبة البرلمانية. وإذا صحّ ان الطرفين ينتهيان الى موقف موحد غالباً ما يكون لمصلحة الأول، فهذا لا يلغي قدراً من التوتر والمناورات المتتابعة بينهما. لكننا نقع على الصيغة نفسها، ولو اختلفت الأشكال والدرجات والنتائج، في العلاقات الأميركية - الروسية. فإذ تنحو موسكو المتزايدة الارتباط اقتصادياً بالغرب منحى الاستقلال السياسي المتزايد وهذه حال بكين ايضاً، لا تثير حماسة الساسة الأميركان لتوسيع حلف الناتو الى أوروبا الوسطى غير استياء بيئة واسعة من أرباب العمل الأميركان. لهذا يحذّر بعض المستقبليين من حركة انفكاك مديدة لكنها راسخة بين السياسي والاقتصادي، تفضي في المطاف الأخير الى تقلّص الهم الوطني على عمومه لدى بورجوازيات كونية عابرة للحدود والدول. وفي المقابل لا يعدم الذين يربطون ما يحدث على هذه الجبهة باتساع هوامش التأثير، المجتمعي والداخلي، التي تتخلى عنها بورجوازيات العالم المتقدم لزعماء شعبويين كجان ماري لوبن الفرنسي مثلاً. ومثل هذا السيناريو سيكون، في في حال تفاقمه، سبباً وجيهاً للخوف على الديموقراطية حتى في بعض قلاعها التقليدية. لكنْ في ما يعني موضوعنا هنا، يكفي ان نبرهن على خطل الربط بين المصالح والسياسات على النحو السائد عربياً. مع هذا، ومن داخل التسليم بعدم التطابق بين عالمي الأرباح والقرارات، يمكن للبعض ان يسأل: لكن لماذا لا يضغط العرب على الأميركيين، مثلما تفعل القيادتان الروسية والصينية، فيما مصالحهم الاقتصادية مع واشنطن جارية على قدم وساق؟ وهذا السؤال انما يفتح الباب واسعاً أمام سؤال ثان يطل على المعضلة التاريخية لوضع عرب المشرق: فبماذا يضغط العرب وقد تعطّلت المصالح كأداة ضغط؟ وبلغة أخرى: ما الذي نملكه غير ثروات ليست مشرقية أصلاً لم تعد أداة للمقايضة، وبالتالي أي مسلك حريٌ بالمشرقيين سلوكه في زمن العولمة، ومن ثم أي اغراءٍ وجاذب يملكونهما في الزمن هذا؟ ما من شك في ان كلفةً فادحةً يرتّبها علينا اليوم انحياز أميركا الجلف والعديم المبدئية لسياسات اسرائيل، دون ان تردعها عن ذلك سياسات في سوية سياسات نتانياهو. بيد انها وقد صارت القوة العظمى الوحيدة في العالم، وصار "رضاها" مطلباً عالمياً مجمعاً عليه، أضحى اختيارها لحلفائها أمراً يعصب على الحلفاء التحكم فيه عن طريق الموقف السياسي وحده. فهذا الاختلال في المواقع بين واشنطن وسائر العالم، بعد انتهاء الحرب الباردة، يبرر للولايات المتحدة ان تؤوّل سلوك الآخرين في واحد من الصيغ السيئة التالية: 1 - انهم لم يعتدلوا مختارين بل لأن طريقهم الى التطرف بات مسدوداً. 2 - ان عدم اعتدالهم يفضي بهم الى حروب أهلية في ما بينهم، او تسليم رؤوسهم لطغاة من طينة صدام حسين. إذن المكافأة على هذا الاعتدال تقف عند حد توفير الحماية لهم من عرب آخرين. 3 - انهم سيخسرون لا محالة مهما فعلوا لأنهم غير مُعدّين لأن يربحوا. لكنهم إن لم يعتدلوا راضين بالخسارة الواقعة سيخسرون كل شيء. وفي نظرة كهذه عاجزة عن تسجيل أي فضيلة قام بها الآخرون طوعاً، يُنسج تقييم الموقف السياسي بصفته جزءاً من محاكمة عامة تطول المجالات الأخرى جميعاً: - ثقافياً: إذا شاء العرب، مثلاً، ان يتعلموا اللغة الانكليزية فهذا ليس اعترافاً بالنفوذ الثقافي الأميركي، كما انهم لا يستحقون عليه شكر الأميركان والعالم الأنغلو ساكسوني. اما إذا شاؤوا مقاطعة هذه اللغة فليقاطعوا وليزيدوا الاضرار بأنفسهم واضعاف شروطهم التنافسية في العالم. - استراتيجياً: تستطيع الولاياتالمتحدة حماية ما تريد الاحتفاظ به من نفوذ عن طريق التحكم من بعيد. اما إذا شاءت الحضور المباشر فهذا ما لا يحدث إلا كامتداد لطلب داخلي لا يقل خوف أصحابه من عدم التدخل عن خوف واشنطن يسري هذا على حرب الخليج التي حصلت من داخل التحالف، كما يسري على عدم حصول المجابهة مؤخراً لعدم ظهور المناشدة المحلية. - امنياً: ليس وقف الارهاب هديةً تُقدّم للغرب واسرائيل، بل هو شرط شارط لنشأة مجتمعات سياسية عربية، ناهيك عن ان الألم العربي الذي يترتب على الارهاب ليس دائماً اقل من الألم الغربي. لقد تسببت الارهابات السابقة بحروب اهلية كادت تدمّر الأردن ولبنان وهي دائمة التهديد للسلطة الوطنية الفلسطينية في وجودها نفسه. وفي المقابل لا يعمل استمرار الارهاب الا زيادة مديونيتنا مسبقاً وتعزيز مطالبتنا بازاحة الارهاب بديلاً من ان نكون نحن المطالبين بالاعتراف بحقوقنا او تلبية ما تيسّر منها. في هذا التصور البالغ البرود والأنانية، تحتل عوامل كالذوق والمزاج دوراً ترجيحياً تنفخ الآلة الاعلامية فيه وتعمل على تضخيمه: كأن توضع، مثلاً، كلمات الرئيس الايراني محمد خاتمي في كفّة توازي كفة السياسات الايرانية الفعلية بمجملها، او، في المقابل، كأن توضع صورة صدام او القذافي او حتى عبارةٌ لاسامية يتفوّه بها مسؤول فلسطيني، في كفة تعادل المواقف السياسية المعتدلة للدول العربية المؤثّرة جميعاً. مع هذا يُستحسن بالمأزق الذي نحن فيه ان يضعنا أمام اسئلة من دون الاجابة عنها وبتّها ايجاباً، يستحيل ان يظهر ما يغري الولاياتالمتحدة بالتفكير في مشكلة الشرق الأوسط على نحو عادل: أي بأن يشتملنا ذوقها ومزاجها من خلال نموذج نخاطبها به. ولا بأس مؤقتاً بأن نضع "الكرامة" في الثلاجة لأن هذا الاشتمال هو شرطنا لبلوغ كل غرض آخر: فالولاياتالمتحدة اليوم في وسعها، مهما بدا ذلك ظالماً، ان تخرجنا من التاريخ من دون ان نستطيع اسقاط شعرة واحدة من رأسها. وقد يكون أول ما نحن معنيون بالتفكير به وبمراجعته، ذاك الزمن الاجتماعي - السياسي الذي وضعنا في المأزق الذي نحن موضوعون فيه، او الذي أسس لانعدام قدرتنا على احراز النموذج والجاذب، حائلاً دون تساوقنا مع الذوق والمزاج الأميركيين. فحتى لو نحّينا جانباً المسائل الثقافية والتاريخية التي يتم ايرادها في العادة لتأكيد اختلافنا، بقي من المُلحّ ان نتوقّف عند الأزمنة الحديثة. ولا بد، هنا، من ان نعاود التفكير بآثار المرحلة السوفياتية من حياتنا المعاصرة على وعينا وصورتنا. فتحت وطأة الراديكالية والتضخّم غير العقلاني للنزاع العربي - الاسرائيلي، وجدت مصر وبلدان المشرق نفسها، على مدى عقود ثلاثة، جزءاً من الكتلة الدولية الأقل تقدماً في مضامير التقنية والعلوم والسياسة. وحين نتذكّر ان هذه البلدان مصر، سورية، العراق كانت تشكّل البقعة العربية الطليعية في الاقتصاد والتعليم ونمو المدن وعدد السكان والتعرض للعالم الخارجي، بل حين نتذكر ان الحقبة المذكورة كانت حقبة التهيوء للثورة ما بعد الصناعية في الغرب، يبدو تأسيس المحنة راسخاً بقدر ما تبدو المحنة قاتلة ومديدة المفاعيل. والمقصود هنا ان اندراجنا في السوفياتية أضفى تعقيداً نوعياً على اندراجنا في المعاصرة الراهنة التي غدا لواؤها معقوداً للولايات المتحدة، لا سيما وقد حصل الاندراج الأول من دون ان يكون لدينا تراكمٌ كالذي توافر للتشيك والهنغار والألمان، بينما يلتبس اندراجنا الثاني باشتباك سياسي وأحياناً عسكري مع الدولة العبرية. فكيف إذا أضفنا الى هذا العجز الذي شرع يتأسس بُعيد نيل استقلالاتنا، وتلك الأجندة التي يعمل الاشتباك المذكور على تعقيدها، ثأريةً أميركية حيال الطرف الذي كان، ابان الحرب الباردة، جزءاً من معسكر العدو من غير ان تكون الثأرية هذه استثناءً أميركياً، إذ يكفي ان نفترض بنزاهة لو ان الولاياتالمتحدة، لا الاتحاد السوفياتي، هي التي انهارت في الحرب الباردة. لقد انتهينا خارج المزاج السائد وهدفاً لثأريته في آن، فيما لم تعد سلعنا قابلةً لأن تُصرف سياسياً. ولهذا كثيراً ما نجد ان المواقف السياسية المعتدلة التي يقفها بين الحين والآخر هذا او ذاك من السياسيين العرب، لا تجد، كما سبق القول، مكافأة لها او حتى اعترافاً بها. فإذا ما حظيت هذه المواقف باعتراف أوروبا، لم تجد في الأوروبيين أية قدرة على ترجمة الاعتراف الى مكافأة. والحال ان المواقف السابقة التي كانت واشنطن تؤيد العرب فيها الى هذا الحد او ذاك ثورة الجزائر، العدوان الثلاثي، السادات في كمب ديفيد، اختلفت كلها عن الظروف الحالية. فهي جميعاً من بنات الحرب الباردة بشكل او بآخر، لكنها انتمت ايضاً الى زمن يتسع لتأثير شتى العوامل في السياسة الاقتصاد، النفوذ الثقافي، الحضور المباشر لخدمة الغرض الاستراتيجي الخ.، فضلاً عن الوعد بجديدٍ ما كان ينطوي عليه كل واحد من تلك الأحداث التأسيسية. اما اليوم فلا هذا بالوارد ولا ذاك. وحدها ازمتنا الممتدة من ضآلة اسهامنا في المعاصرة وصولاً الى عجزنا عن انشاء كلامٍ عالمي ولو خاتميٍ هي الماثلة بقوة. وفي مواجهتها تقف أميركا التي بات في وسعها ان تكون، حقاً، بلا قلب لكنها مع ذلك تمسك بمفتاح دخولنا الى التاريخ او خروجنا منه بالكامل. ألا يُستحسن، في هذه المعاني جميعاً، تبريد جبهة الاشتباك السياسي والتفكير في أبنية أخرى نشيدها، اقتصادية وعلمية وحضارية، مفكّرين في احداث اختراقات لاحقة انطلاقاً منها.