لأول مرة في تاريخ «الآسيان».. استضافة دول الخليج والصين في ماليزيا العام القادم    تركي آل الشيخ يعلن عن شراكة استراتيجية مع "BOXXER"    مروان الصحفي يكتب التاريخ في الكرة البلجيكية    النصر ينجو من الشباب    للمرة الخامسة.. «السوبر الإسباني».. في جدة    هل يسير «إخوان» الأردن على خطى حماس ؟    بوتين: السعودية المكان المناسب لعقد قمة السلام    شرطة الرياض تباشر ادعاء طفل تعرضه للاعتداء    ضبط 6 إثيوبيين في عسير لتهريبهم (120) كجم "قات"    2522 دار نشر في معرض الشارقة للكتاب    الجمعية الجغرافية الملكية تقيم معرض "نهضة الجزيرة العربية"    الرياض تستضيف «معركة العمالقة».. غداً    الهلال «العالمي» يكتسح الفيحاء بسهولة ويبتعد بالصدارة بالعلامة الكاملة    في انتقاد نادر... ميقاتي يندّد بتدخل إيراني "فاضح" في شؤون لبنان    رئيس الوزراء البريطاني: مقتل السنوار «فرصة» لوقف إطلاق النار    محمية الملك سلمان... ملاذ آمن وبيئة خصبة لتكاثر غزال الريم    مفتي موريتانيا: مسابقة خادم الحرمين لحفظ القرآن لها أهمية بالغة    2,603 طلاب وطالبات من تعليم جازان يؤدون اختبار موهوب1    يتقاسمان الولايات المتأرجحة.. الفارق يضيق بين هاريس وترمب    فريق أنوار التطوعي يفعِّل اليوم العالمي لسرطان الثدي بمستشفى بيش العام    "خويد": أول جمعية متخصصة للفنون الأدائية والمسرح في المملكة    المعرض الأول لسفرجل بالعارضة بجازان    اللجنة الدولية للتحقيق تدعو إلى إنهاء احتلال الأراضي الفلسطينية    «الزكاة والضريبة والجمارك» تحبط تهريب 1.2 مليون حبة كبتاجون بمنفذ «حالة عمّار»    خطيب المسجد النبوي: القلب ملكُ الجوارح وسلطانه فبصلاحه يصلُحون وفسادهم بفساده    خطيب المسجد الحرام: يتعجل المرء في الحكم بين المتنازعين قبل التبين    الأحمدي يكتب.. الهلال وتحديات المستقبل!    السياحة السعودية تعزز حضورها الدولي وتستهدف الصين    ارتفاع سعر الروبل مقابل العملات الرئيسية    ارتفاع أسعار النفط إلى 74.45 دولار للبرميل    فريد الأطرش .. موسيقار الأزمان    «صرخات مؤلمة».. تكشف مقتل الطفلة سارة    «إندبندنت»: النساء بريئات من العقم.. الرجال السبب!    لصوص الأراضي.. القانون أمامكم    الدفاع المدني ينبه من استمرار هطول الأمطار الرعدية على بعض مناطق المملكة    «تحجّم».. بحذر!    اللثة.. «داعمة الأسنان» كيف نحميها؟    مفهوم القوة عند الغرب    عبدالرحمن يحصد ذهبية الاسكواش بالألعاب السعودية    «وقاء نجران» يشارك في مهرجان مزاد الإبل بأعمال الفحص والتقصي    التسويق الوردي!    أبسط الخدمات    البريد السعودي يصدر طابعاً بريدياً عن هيئة تطوير محمية الملك سلمان بن عبدالعزيز الملكية    تركي بن طلال.. العاشق المحترف    الابتعاث للدراسة الأكاديمية للباراسيكولوجي    الدولار يدخل معركة الرئاسة الأمريكية    الحضور السعودي «أوروبياً» .. لردم هوة العثرات العالمية    محمية الشمال للصيد.. رؤية الحاضر بعبق الماضي    إنفاذًا لتوجيهات القيادة .. تمديد فترة تخفيض سداد غرامات المخالفات المرورية المتراكمة على مرتكبيها    برقية شكر للشريف على تهنئته باليوم الوطني ال94    تجمع الرياض الصحي الأول يطلق فعاليات توعوية بمناسبة "اليوم العالمي للإبصار"    متوفاة دماغيًا تنقذ ثلاثة مرضى في الأحساء    مغادرة الطائرة الإغاثية السعودية الخامسة لمساعدة الشعب اللبناني    نباح من على منابر الشيطان    السعودية إنسانية تتجلى    نائب أمير تبوك يستقبل أعضاء جمعية الدعوة والإرشاد وتوعية الجاليا    أمين الطائف يقف على المشاريع التطويرية بالمويه وظلم    26 من الطيور المهددة بالانقراض تعتني بها محمية الملك سلمان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فهمي هويدي
نشر في اليوم يوم 04 - 11 - 2003

بعدما اتسمت ردود الافعال بالعصبية ولاحت في ثناياها نذر الشطط، فان الحوار حول مسألة الاختراق الامريكي للاعلام العربي بات اشد ما يكون حاجة إلى التحرير. لانني اخشى ان يصرفنا الانفعال عن قضيتنا الاساسية، ومن ثم يحجب عنا جوهر ما نحذر منه، وما برحنا ندق الاجراس عالياً للتنبيه إلى تداعياته ومخاطره.
(1)
لا استطيع ان احمل على محمل الجد قول من حاول ان يصور الجدل حول الاختراق بحسبانه اشتباكاً بين (فسطاطين) احدهما اصولي والآخر ليبرالي، او انه تحرش طالباني امريكاني. وقد التمس العذر للذين اطلقوا تلك الشائعات، خصوصاً ان الكلام جرى ابان الايام الاولى لشهر الصيام، التي يعاني البعض خلالها من اعراض عدم الاتزان وضيق الصدر. الا ان اعذارنا لهم لا تقلل من جسامة الرسالة التي يحاولون الترويج لها، والتي تختزل القضية في اطار الصراع الايديولوجي. وهو مسلك يبعث على الحيرة حقاً، يعد في حده الادنى تهويناً من الأمر وعدم ادراك لخطورته، اما في حده الاقصى فهو تستر على الحاصل من ناحية، ومحاولة لشق الصف الوطني من ناحية ثانية، عبر اشغاله بتفجير الصراعات الفكرية والايديولوجية، ومن ثم الهاؤه عن الخطر الذي يهدد الجميع. ولاننا نتحدث عن زملاء محترمين يحتلون مواقع مرموقة فسوف ننحاز إلى حسن النية، ونفسر موقفهم بحسبانه تهويناً نشأ عن الخطأ في التقدير، وليس تعمداً للتستر او الوقيعة، لا سمح الله. في كل الاحوال فأرجو ان يكون واضحاً ان الأمر اكبر وأجل من أي صراع فكري او ايديولوجي. وان القضية ليست فيمن يفوز بقيادة السفينة، الاصوليون ام الليبراليون. ولكنها في ان الخطر الذي يلوح في الافق يهدد الجميع، حيث السفينة بكل من عليها معرضة للابتلاع. ازاء ذلك فانني ازعم ان الموقف الجاد والمسئول يفرض على كل من يتصدى للموضوع ان يرتفع إلى مستوى الخطر، بحيث يصبح شاغله الاهم هو الحيلولة دون ابتلاع السفينة، وليس زيادة خروقها بتفجير الصراعات على ظهرها. ان الاختراق الاعلامي الذي نحن بصدده يمثل حلقة جديدة في مسلسل امريكي خبيث تتابعت فصوله على بلادنا في اعقاب الحرب العالمية الثانية، وهذه الحلقة بالذات موصولة بأكثر فصول المسلسل خطورة وحسماً، لاسباب سأعرض لها بعد قليل. ومنذ سنوات ما بعد الحرب وحتى الان ظلت وسائل الاختراق في الساحة الاعلامية واحدة تقريباً، الا ان المقاصد اختلفت باختلاف الحسابات والتوازنات. وحتى نستوعب الموقف على نحو افضل، فسوف يفيدنا ان نستعرض الشريط منذ بدايته باختصار، مارين بالعناوين والمحطات الرئيسية في المسلسل.
(2)
لعلك لاحظت انني اشرت إلى الاختراق الامريكي. لانه قبل الامريكان كانت مصر خاضعة للاحتلال الانجليزي (1882 - 1956)، وكان للانجليز صحفهم في مصر، وفي المقدمة منها صحيفة (المقطم) التي عرفت بانها لسان حال المعتمد البريطاني. كما كانت صحيفة (الوطن) موالية للاحتلال، الذي استخدمها لزرع بذور الشقاق بين المسلمين والاقباط. وقد اختلف الأمر بعد الحرب العالمية الثانية، حيث ظهرت الولايات المتحدة على المسرح باعتبارها قوة فتية انتصرت لاوروبا في الحرب وساعدتها على النهوض بعدها (من خلال مشروع مارشال). وبدأت تطرق ابواب العالم العربي، ملوحة بورقة المساعدات تارة، ومذكرة بنقاء صفحة تاريخ علاقاتها بالمنطقة، حيث لم تشارك في استعمارها او نهبها (كان لها سجل استعماري مسكوت عليه في كوبا والمكسيك والفلبين، وقد غض الطرف عن الجريمة التاريخية التي ارتكبتها في اليابان، بالقائها القنبلتين الذريتين على هيروشيما ونجازاكي. مما ادى إلى ابادة اكثر من 200 الف شخص). وهي تقدم نفسها للعالم العربي فان هدفها كان محاولة البحث لها عن موطئ قدم في المنطقة التي لاحت في آفاقها بوادر الثراء، ووراثة الاستعمار البريطاني والفرنسي. الذي كانت شعوب المنطقة ترفضه وتقاومه. يفصل كتاب (الحرب الباردة الثقافية) لمؤلفته الانجليزية فرانسيس سوندرز (ترجمه إلى العربية طلعت الشايب) في وصف الجهود التي بذلتها المخابرات المركزية الامريكية (بعد انشائها في عام 47م) لاختراق المجال الثقافي واستخدام منابره وميادينه لتحقيق هدفين رئيسيين هما: مقاومة الشيوعية وفتح الابواب لتحقيق المصالح الامريكية في الخارج. من ذلك انها عملت على تأسيس اللجنة القومية لاوروبا الحرة، والاتحاد الدولي للحرية الثقافية الذي انشأ مكاتب له في 35 دولة، وتولى تمويل 20 مجلة ثقافية، كما اخترقت نادي القلم الدولي. واستقطبت هذه المؤسسات الكبيرة اقلام اهم الادباء. والمفكرين، حتى ان المؤرخ الامريكي الكبير آرثر شليزنجر وصف في احدى كتاباته المخابرات المركزية بأنها (مرفأ الليبراليين)(!).
على صعيد آخر تحدث الاستاذ محمد حسين هيكل في كتابه (بين الصحافة والسياسة) عن تقرير اعدته في عام 1974 احدى لجان الكونجرس الامريكي، عن انشطة المخابرات المركزية، وقد تناول في جانب منه الدور الذي قامت به في مجال انشاء دور للصحافة والنشر في اوروبا والعالم الثالث، واستهدفت بالدرجة الاولى اجراء غسيل مخ لشعوب تلك الدول. التي كان المهزومون في المقدمة منها، حيث مولت المخابرات صحفاً في المانيا واليابان وايطالياً، عن طريق امدادها بالمطابع والورق لتقوم بالمهمة المطلوبة. وفي اطار مسعى طرق الباب وتقديم الولايات المتحدة لشعوب الشرق الاوسط فان عملية التمويل شملت دوراً صحفية في مصر ولبنان وايران، ولتدعيم الدار التي انشئت في مصر فانها منحت تسهيلات اخرى غير المال، كان من بينها طباعة مجلة (المختار) على سبيل المثال. ومن الوقائع ذات الدلالة في هذا الصدد ان احد اصحاب الدار التي مولتها المخابرات المركزية في مصر لتقديم الولايات المتحدة إلى شعوب المنطقة، اصدر اول كتاب له في تلك المرحلة، وكان عنوانه (امريكا الضاحكة). - (لاحظ ان تحسين صورة امريكا احد الاهداف المعلنة لطور الاختراق الاخير).
(3)
بعد الاختراق الذي استهدف تقديم الولايات المتحدة إلى دول المنطقة بعد الحرب، وهي المرحلة التي استمرت إلى منتصف خمسينيات القرن الماضي تقريباً، اصبح للمخابرات المركزية اكثر من موطئ قدم اعلامي في بعض عواصم الشرق الاوسط، مواز للحضور السياسي بطبيعة الحال. الا ان الستينيات شهدت تطوراً في المقاصد واكب التفاعلات التي كانت مصر مسرحاً لها آنذاك. اذ عنيت المخابرات المركزية بأمرين اساسيين هما: حصار الدور القومي المصري والضغط عليه من ناحية، ومزاحمة او مقارعة النفوذ السوفيتي في المنطقة من ناحية ثانية. ولم يكن الاعلام المكتوب في المنطقة صاحب اليد الطولى في تلك المهمة المزدوجة، وهو ما كان متعذراً من الناحية العملية، بسبب الشعبية الجارفة التي تمتع بها الرئيس جمال عبد الناصر في العالم العربي على الاقل وقتذاك. استثني من ذلك بعض المطبوعات المحدودة التي كانت تصدر في بيروت، وما كانت تنشره الصحف الموالية للشاه في ايران وتلك التي ارتبطت بالمصالح الامريكية ورأس المال اليهودي في انقرة. في تلك الاجواء كان الاعلام المسموع، صوت امريكا والاذاعات الاخرى الموجهة في اوروبا (صوت مصر الحرة مثلاً)، هو الاداة التي استخدمت لتحقيق الاهداف المرصودة في تلك المرحلة، التي انتهت بوفاة الرئيس جمال عبد الناصر في عام 69. العقود الثلاثة التالية - من 1970 إلى العام الفين - يمكن ان نسميها سنوات الانفراج الكبير لانشطة المخابرات المركزية في العالم العربي بأسره. وهو ما كان بدوره انعكاساً للتطورات السياسية المواتية بدءاً من طرد الاتحاد السوفيتي إلى التصالح مع اسرائيل وانتهاء بسقوط الاتحاد السوفيتي وغيابه عن مسرح السياسة الدولية، الأمر الذي ادى إلى صعود نجم الولايات المتحدة، وتفردها النسبي بزمام الامور، الأمر الذي ترجمته التصريحات الرسمية التي تحدثت عن احتفاظ واشنطون ب 99% من اوراق اللعبة. لعلنا لا نبالغ اذا قلنا ان تلك العقود كانت سنوات التمكين للسياسة الامريكية في المنطقة. وهو ما انعكس على بعض المنابر الاعلامية التي دأبت على تسويغ السياسة الامريكية والدفاع عن النموذج الامريكي وهجاء كل ما يتعلق بالعمل العربي المشترك او بالانتماء العربي (وهو ما تبدى بوجه اخص بعد تحرير الكويت من الاحتلال العراقي بقيادة امريكية). وهذا الهجاء انسحب بأثر رجعي على سنوات المد القومي، وكان من بين اهدافه تقزيم مصر وعزلها عن محيطها العربي. وكان هذا الهدف الاخير إحدى ركائز السياسة الامريكية في تلك المرحلة، حيث يذكر ان هنري كيسنجر وزير الخارجية الامريكي في المرحلة الساداتية كان يلح في محادثاته مع المسئولين المصريين آنذاك على ان مصر ينبغي ان تعنى بكل ما هو مصري فقط، وليس لها ان تتحدث عن الشأن الفلسطيني او العربي. اقترن التمكين بتجنيد بعض الاقلام لصالح السياسة الامريكية، وميلاد ما سمي بحزب امريكا في الاعلام العربي. ولان اشياء كثيرة تطورت واختلفت، فكانت اساليب التجنيد لا بد بدورها ان تتطور، حيث لم يعد المجند عميلاً مباشراً يتلقى مبالغ مالية شهرياً لاداء مهام معينة، ولكنه اصبح يكافأ بصور اخرى مثل اغراقه بالدعوات والسفريات ودورات البحث الاستراتيجي، والقاء المحاضرات نظير اجر في المؤسسات الغربية المختلفة. وأحياناً يتم اغراق الشخص بذلك كله واغواؤه، ومن ثم ضمان استمالته وتجنيده من الناحية العملية، دون ان يكون واعياً بالتجنيد. وغني عن البيان ان ذلك كله ما كان يمكن ان يحدث - بتلك الدرجة على الاقل - الا في اجواء انهيار النظام العربي وانكسار الارادة فيه، مع شيوع حالة اليأس والاحباط في اوساط المشتغلين بالعمل العام.
(4)
مع بداية القرن الجديد، تحديداً بعد احداث 11 سبتمبر عام 2001 طورت الولايات المتحدة اهدافها في المنطقة، حيث لم تقنع بالتمكين، ورفعت شعار احداث التغيير لتركيع الجميع إلى الابد. ذلك ان عصبة التحالف الاصولي الصهيوني المهيمنة على القرار في البيت الابيض وجدت ان الاجواء التي توفرت بعد الهجوم على برجي مركز التجارة العالمي تهيئ فرصة مواتية لتحقيق هدفين رئيسيين، الاول تمثل في بسط النفوذ الامبراطوري على العالم، بما يستصحبه من تأديب المتمردين وادخال الجميع في بيت الطاعة الامريكي. من خلال الحملة التي رفعت راية الحرب ضد الارهاب، اما الهدف الثاني الذي لا يقل خطورة فهو فرض اسرائيل على النسيج العربي، وترويض العرب على القبول بها، ليس فقط كحقيقة جغرافية، ولكن ايضاً كحقيقة ثقافية واقتصادية. كأنما أراد هؤلاء ان يكملوا الدور الذي قامت به بريطانيا في بدايات القرن الماضي حيث تكفلت بزراعة اسرائيل في الاراضي العربية، فاخذوا على عاتقهم زراعتها في الوجدان العربي، الأمر الذي يجعل من التطبيع قريناً لبسط الهيمنة والتركيع. وهو ما يسوغ لنا القول بأننا بصدد اكثر فصول المسلسل خطورة وحسماً، لان ما هو مطلوب يتجاوز تغيير الخرائط السياسية إلى تغيير المدارك والعقول. وهي اهداف لم تعد مخبوءة في الكواليس والتقارير السرية، وانما اصبحت معلنة على الملأ، ومتداولة في مختلف الدوائر. ان شئت فقل انها من قبيل السر الذي تلوكه مختلف الالسنة ويهمس به الجميع. لاحداث ذلك التغيير المنشود تلاحقت الخطوات والاجراءات الامريكية التي استهدفت التعامل مع المجتمعات العربية مباشرة. فجرى الحديث عن الدبلوماسية الشعبية، التي تخاطب الناس، وانشئ في الخارجية الامريكية جهاز خاص تحت قيادة اليزابيث تشيني ابنة نائب الرئيس الامريكي لمباشرة جهود التغيير واحداث التنمية الديمقراطية. وهذه التنمية شملت وضع برامج لاعادة تأهيل الناشطين العرب في مختلف المجالات بدعوى تدريبهم، وترتيب زيارات للاطلاع على النموذج الامريكي، وتشجيع تأسيس الجمعيات الاهلية المدافعة عن الديمقراطية وحقوق الانسان.. الخ. في الوقت ذاته مورست ضغوط امريكية قوية لتغيير مناهج التعليم خصوصاً في مجالي الثقافة الاسلامية والتاريخ. وتحدث اركان المؤسسة الامريكية صراحة عن ضرورة اغلاق المدارس الدينية في بعض الاقطار. او اخضاعها للاشراف الحكومي في اقطار اخرى. وباسم مكافحة الارهاب وتجفيف ينابيع التطرف وكراهية الآخر، اسقطت من المناهج الجديدة مختلف الاشارات إلى الجهاد وتغيير المنكر وتلك التي تفضح مؤامرات بني اسرائيل، ولا تذكر الدولة العبرية بالخير.
(5)
احتل الاعلام موقعاً خاصاً في جهود التغيير المستهدف. فأنشأت الولايات المتحدة ما سمي باذاعة (سوا)، لتعمل جنباً إلى جنب مع صوت امريكا، واصدرت مجلة باسم (هاي)، والاذاعة والمجلة باللغة العربية وموجهتان إلى الاجيال الجديدة في العالم العربي المعول عليها بدرجة اكبر في اعادة التشكيل. في الوقت ذاته جرى تكثيف حضور الكتاب الامريكيين - والاسرائيليين أحياناً - في الصحافة العربية. وتمثلت احدث حلقات تلك المساعي في الاعلان عن انشاء منابر اعلامية (صحف وقنوات تليفزيون ومحطات اذاعة) في 8 دول عربية، يسهم فيها التمويل الامريكي بالاشتراك مع رأس المال المحلي لكي تتولى تسويق التركيع والتطبيع المطلوبين. توازى ذلك مع ترتيب دورات تدريبية في الولايات المتحدة لمجموعات من الصحفيين والصحفيات الشبان العرب، لكي يكونوا ركائز النهضة الاعلامية المرجوة.
كان ذلك الاعلان عن الاسهام الامريكي في انشاء منابر اعلامية في بعض العواصم العربية هو ما دعاني إلى التنبيه إلى خطورة هذه الخطوة، سواء في ذاتها او في مقاصدها، ذلك ان أي مواطن عربي عادي لا بد ان تستفزه فكرة ان تصدر في بلده مطبوعة ممولة امريكياً، ويتضاعف الاستفزاز في بلد مثل مصر، عرف امثال تلك الممارسات في ظل الاحتلال الانجليزي، قبل اكثر من مائة عام، ولم يخطر على بال أي مصري ان يعيد التاريخ نفسه بحيث يتكرر الاختراق بعد نصف قرن من رحيل الانجليز، تحت مسميات اخرى. ويضفي على المشهد بعداً كارثياً ان تسهم تلك المنابر في تذويب قضية فلسطين ومحاولة زراعة اسرائيل في الوجدان العربي وصولاً إلى التطبيع معها. وتبلغ المأساة ذروتها حين تنسب تلك المساعي إلى الليبرالية، في استعادة بائسة لشعارات الاتحاد الدولي للحرية الثقافية الذي انشأته المخابرات المركزية لكي يكون واجهة لحربها الثقافية بعد الحرب العالمية الثانية.
حين كتبت منبهاً إلى خطورة تلك الخطوة ومحذراً من مغبتها، في مقال كان عنوانه (هواجس وهوامش صحفية) (نشر في 12/8) - كان الوحيد الذي انبرى للرد على ما كتبت هو الدكتور عبد المنعم سعيد، الذي تساءل مستنكراً (لماذا تقرع الطبول)؟ - (نشر في 25/8). واذ اعتبرت ان كلا منا قد عبر عن رأيه وحدد موقفه من قضية الاختراق، فانني لم ارد على سؤاله في حينه. غير انه حينما بدا ان المشروع الامريكي في صدد الدخول إلى حيز التنفيذ، وان منابره على وشك الاطلال علينا رافعة راية (الليبرالية)، عدت إلى التنبيه والتحذير مرة اخرى، فيما نشر لي تحت عنوان (في الاختراق وسنينه) (نشر في 21/7)، وفيه اجبت على سؤال الدكتور عبد المنعم سعيد: لماذا تقرع الطبول؟ - وقد اعانني على الاجابة ان ما توفر بين ايدينا من نموذج (ليبرالي) مستجد، وقف بوضوح في صف الامركة والتطبيع، وضد عروبة مصر وثوابتها، وهو ما اساء إلى الليبرالية ايما اساءة، كما ذكرت في الاسبوع الماضي.
(6)
امتد الحوار بعد ذلك، حيث كتب الدكتور سعيد مقالاً تحت عنوان (اصول المسألة الامريكية) (نشره الاهرام في 27/10) تحدث فيه عن قوة امريكا وكونها الدولة العظمى الوحيدة في عالم اليوم. الأمر الذي يرتب لمصر معها مصالح عليا وثيقة الصلة بحماية امنها القومي. وهو عنصر مهم حقاً، لكنني لم افهم بالضبط المراد بالتلويح به، في سياق الجدل حول الاختراق الامريكي للاعلام العربي. خصوصاً ان المرء لا يحتاج لان يكون استراتيجياً لكي يعرف ان لفرنسا والمانيا ولاوروبا مصالح اكبر مع الولايات المتحدة، لكن ذلك لم يمنع اياً من البلدين من معارضة التوجه الامريكي في بعض الامور (كما حدث في غزو العراق مثلاً)، كما ان ذلك لم يمنع الاتحاد الاوروبي من الاشتباك مع واشنطون حين فرضت ضريبة على استيراد الصلب منها. اعني ان كون امريكا اعظم دولة في العالم، وكون بعض مصالحنا العليا المتصلة بأمننا القومي موصولة بها، ذلك كله لا يمنع من ان نسجل اعتراضاً على بعض سياساتها ومواقفها الضارة بمصالحنا، وبأمننا القومي ايضاً. لفت نظري ايضاً في مقال الدكتور سعيد انه اعتبر ما عبرت عنه فيما كتبت بحسبانه محاولة من جانب الفسطاط الاصولي لتصفية الليبرالية المصرية التي تمثل - حسب تعبيره - تحدياً عقلياً وعصرياً لفكرنا (نحن الفسطاط الاصولي!) الذي قاد بلادنا إلى التهلكة والكارثة والتخلف (رغم انه يقف على الرصيف في الشارع وليس في مقاعد الحكم!). وهو كلام استغربته، ليس فقط لانه صدر عنه، ولكن ايضاً لانه كان قد امتدحني في رده الاول المنشور في 25/8، واصفاً اياي بأوصاف ايجابية عدة، من بينها (الكاتب الاسلامي المستنير)، الأمر الذي يتناقض بالكلية مع ما رماني به في مقال 27/10. واذ وجدت زميلنا الاستاذ عماد الدين اديب قد خلع علي اوصافاً قريبة، غامزاً فيما اسماه بالتفكير الكابولي تارة والطالباني تارة اخرى (29/10)، فان هذه اللغة اوقعتني في بعض الحرج. ذلك انني بعدما قرأت اطراء الاستاذ سعيد في البداية استشعرت بعض الرضا، ونظرت في المرآة فلمحت آثاراً للحبور، لكني بعدما قرأت تنديده الاخير وما اطلقه علي من اوصاف، هو والاستاذ عماد الدين اديب، لم اصدق ما وقعت عليه. وحين رفعت عيني إلى المرآه وجدت امامي صورة الملا عمر جالساً في مرتفعات (تورابورا). وهو ما فوجئت به، فتمتمت مستعيذاً بالله من الشيطان الرجيم، وقلت: منكم لله يا جماعة!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.